لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
جورج قرم: الدور التنويري «الأوربي» خديعة كبرى
وأخشى من أصولية مضادة لـــ«التحديث» في الخليج
يُعد عالِم الاقتصاد والمؤرخ اللبناني جورج قرم من المؤثرين في الحركة الثقافية العربية المعاصرة. يكتب في مجالات معرفية عدة، تشمل الاقتصاد والتاريخ والاجتماع والثقافة. شغل منصب وزير المالية في لبنان بين عامي (1999–2000م)، إلى جانب تدريسه في الجامعات وإطلالته الإعلامية للتداول والنقاش في الشؤون السياسية والاقتصادية، محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا.
عمل قرم المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ودول حوض البحر المتوسط، مستشارًا اقتصاديًّا لدى منظمات مختلفة تابعة للأمم المتحدة ومؤسسات من القطاعيْنِ العام والخاص. لم تمنعه جذوره الأرستقراطية؛ وهو حفيد الرسام داود قرم، وابن الرسام جورج داود قرم، من أن يتحول إلى مثقف علماني ونقدي، يدافع عن القضايا القومية العربية الكبرى.
يعزم صاحب «حكم العالم الجديد: الأيديولوجيات، البنى والسلطات المعاكسة» في المرحلة القادمة على وضع الجزء الثالث من كتابه «انفجار المشرق العربي» وكذلك كتابة مذكراته. لكنه راهنًا يحبذ مراقبة الأحداث والوقائع الجارية في الشرق الأوسط عامةً والعالم العربي خاصةً، فتجده مُحجِمًا عن التأليف خلال هذه الحقبة الخطرة، قبل أن تتبدّى جسامة المتغيرات وتظهر نتائج «التحولات الضخمة».
خصّ جورج قرم «مجلة الفيصل» بحوارٍ مهم تطرق فيه إلى مسائل سياسية وثقافية عدة، عربيًّا ودوليًّا؛ فتحدث عن «التداعيات» المستمرة للحرب الباردة وانعكاسها السلبي في «حركة النهوض» الحضاري العربي، وعن استنفار الإسلام والحركات الإسلامية والتوجس من حركة «أصولية مضادة» ضد مسيرة التحديث في الخليج، وعن الأحداث الزلزالية والاضطرابات التي طبعت تاريخ المنطقة العربية، بدءًا من عام 1948م، وعن «أوربا الأمم» وتعثر تجربة «الاتحاد الأوربي» والموقف من أحزاب اليمين في القارة، موجهًا نقدًا لاذعًا لـــ«النظريات الشمولية»، ولا سيما أطروحة «صراع الحضارات» لدى صموئيل هنتنغتون (1927-2008م)، ومؤثراتها المستمرة في الإعلام والسياسة والجامعات الغربية. وفيما يأتي تفاصيل الحوار:
التحولات الضخمة واستغلال الإسلام
● منذ منتصف الستينيات من القرن المنصرم حتى العقد الثاني من الألفية الجديدة أصدرت أكثر من عشرين مؤلفًا في الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع. بعد هذا التاريخ الحافل في التأليف والإنتاج العلمي، أين هو اليوم جورج قرم، المؤرخ والاقتصادي ورجل السياسة؟
■ مثل العديد من المثقفين العرب أعتكف عن التأليف حول هذه المرحلة الخطرة التي يمر بها العالم العربي، وتدهشني التحولات الضخمة التي تحدث في الشرق الأوسط. منذ أقدم الأزمنة ومنذ الإسكندر المقدوني، يتعرض شرق المتوسط؛ الذي يضم لبنان وسوريا وفلسطين وقبرص والأردن، لأطماع كثيرة، ومن يسيطر على هذه المنطقة يسيطر على ما كان يسمى «طريق الهند» التي سلكها المقدوني في الماضي، لهذا السبب تعاني الاضطراباتِ المتواصلةَ.
منذ أبصرت النور وهذه المنطقة الحيوية لا تعرف سوى التوترات والصراعات، وما يجري اليوم يدفعني إلى طرح أسئلة كثيرة في ضوء ضخامة الأحداث السياسية والاقتصادية التي نعيشها. إن معياري الأساسي الذي يشكل جزءًا أساسيًّا من كتاباتي هو معيار حقوق الشعب الفلسطيني؛ لأن معاناة الفلسطينيين منذ بدء الهجمة الاستعمارية الغربية الصهيونية على العالم العربي، مسألةٌ لا تطاق ولا يمكن السكوت عنها.
● يلاحظ أنك تكتب دائمًا كتبك بالفرنسية بحيث تُترجم لاحقًا إلى العربية. ما الذي يجعلك أقرب إلى هذه اللغة؟ وما حدود العلاقة بين تطور اللغات ومواكبتها للعلوم الحديثة، فهمًا وإصطلاحًا؟
■ ليست المسألة أنني أقرب إلى اللغة الفرنسية، فلديّ كتب عدة في اللغة العربية، منها :«مدخل إلى لبنان واللبنانيين، يليه اقتراحات في الإصلاح» (دار الجديد، بيروت، 1996م)، و«الفرصة الضائعة في الإصلاح المالي في لبنان» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2001م).
أكتب في اللغة الفرنسية لأنها لغة جميلة وأجيدها منذ الصغر، عدا أنه لدي جمهور من القراء الفرانكوفونيين في المغرب العربي واسع ومتنوع، وذلك على الرغم من المشاق التحريرية التي أقوم بها عندما أعمل على مراجعة ترجمات نصوصي من الفرنسية إلى العربية؛ إذ تأتي في معظم الأحيان بشكل رديء، فأضطر لتمضية وقت طويل في تهذيب وإعادة كتابة بعض المقاطع التي تُرجمت بشكل سيئ. كما أن الكتابة بالفرنسية تفتح الطريق أمام ترجمة كتبي إلى لغات أخرى الذي وصل بعضها إلى 16 لغة.
وبخصوص الشق الثاني من السؤال حول حدود العلاقة بين تطور اللغات ومواكبتها للعلوم الحديثة، ففي رأيي أن هذا تحليل استشراقي؛ فاللغة العربية من أعظم لغات العالم وهي قادرة على صناعة المصطلحات وابتكارها. في الماضي كانت اللغة العربية هي لغة العلوم العالمية، وهي التي حافطت على المكاسب العلمية كافة الخاصة بالثقافة السريانية القريبة للغاية من الثقافة العربية، وينطبق الأمر نفسه على الفلسفة اليونانية. وفي السياق تعد تجربة الحضارة العربية في الأندلس مكسبًا ثقافيًّا وحضاريًّا وفلسفيًّا ضخمًا.
● ما الذي يعيد للحضارة العربية حضورها وفاعليتها ضمن المدارات الحضارية الأخرى المؤثرة في التاريخ المعاصر؟
■ نحن ما زلنا إلى الآن نعاني تداعياتِ الحرب الباردة، بين الاتحاد السوفييتي سابقًا والولايات المتحدة وأوربا؛ وهذا يترك تأثيرات كبيرة على مسيرة النهوض في الحضارة العربية. لقد استُنفرت حركة الإخوان المسلمين إلى أقصى الحدود من جانب الدول الغربية الاستعمارية لزعزعة الاتحاد السوفييتي نفسه ومن ثم روسيا، وزعزعة معظم الدول التي لم تكن في فلك النفوذ الغربي؛ حتى حركة عدم الانحياز التي كانت حركة عظيمة بقيادة الرئيس المصري جمال عبدالناصر (1918- 1970م) والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو (1892- 1980م) ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو (1889- 1964م) حُطِّمت من خلال التوظيف السياسي والديني للديانة الإسلامية. وإلى الآن نعاني استغلال الإسلام، فعوضًا عن دعم الشباب العربي لتحرير فلسطين رأينا العرب ومنهم أسامة بن لادن يذهبون إلى أفغانستان لتحريرها من النفوذ السوفييتي، ومن بعد ذلك يذهبون إلى يوغسلافيا التي فُكِّكت، ومن ثم ذهبوا إلى الجزائر، التي مرّت بسنوات من القلاقل والاضطراب والتقاتل بين الجيش والحركات الإسلامية. إن استخدام الحركات الإسلامية قائم إلى الآن، وقد أصبحت تركيا هي التي تتزعمها، وهي عضو مهم في حلف الناتو وهو أهم حلف عسكري غربي.
الأحداث الزلزالية التاريخية ونقد النظريات الشمولية
● نشرت أربعة كتب حول تاريخ العالم العربي والشرق الأوسط، وهي على التوالي: «انفجار المشرق العربي، من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان» (في جزأين)، و«أوربا والمشرق العربي، من البلقنة إلى اللبننة: تاريخ حداثة غير منجز»، و«تاريخ الشرق الأوسط: من الأزمنة القديمة إلى اليوم». سؤالي من شقين: الأول: ما هو أخطر حدث تاريخي ترك التأثير الأقوى في الدول العربية؟ والثاني: لماذا طُبع القرن العشرين بكل هذه الاضطرابات والتحولات في منطقتنا؟
■ أريد الحديث عن معلومات تاريخية حول الغزو الصهيوني لمنطقتنا، ترتبط بهجرة يهود إنجلترا إلى فلسطين. سنة 1840م أرسل القنصل البريطاني في بيروت رسالة إلى الخارجية البريطانية، يقول فيها: عليكم أن تتجهزوا لأن الدولة الفرنسية اكتسبت نفوذًا واسعًا للغاية من خلال الأواصر الكبيرة التي أسستها مع الطائفة المارونية في لبنان. ويجب علينا نحن الإنجليز أن نأتي بيهود إنجلترا إلى فلسطين حتى يكون لنا موطئ قدم قوي ونتمكن من مواجهة الأطماع الفرنسية في المنطقة.
أرى أن النكبة الفلسطينية هي الحدث التاريخي الزلزالي الذي طبع تاريخ المنطقة، وقبل ذلك فإن اليهود والمسيحيين والمسلمين في فلسطين كانوا يعيشون في انسجام منذ قرون.
ثمة حوادث تاريخية أخرى تركت تأثيرات كبيرة ولا سيما إبان حقبة جمال عبدالناصر؛ فبعد أن أكسبته حركة عدم الانحياز زعامة استثنائية ليس في مصر فحسب، بل في القارة الإفريقية وآسيا بسبب علاقاته مع تيتو ونهرو، انزعجت الولايات المتحدة إلى أقصى الحدود، ولهذا السبب عُودِيَ بشكل كبير ووقَعت حرب 1967م لمسعى غربي وصهيوني ضد الزعيم العربي الأكبر الذي ضُرب عسكريًّا.
● أخذت دراسة الهويات والتعددية الإثنية والدينية حيزًا مهمًّا في مؤلفاتك، بدءًا من «تعدد الأديان وأنظمة الحكم» وصولًا إلى «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين». ما الدرس المستفاد من هذه القراءة للهويات ونزاعاتها؟
■ اهتممت كثيرًا بالنظريات الشمولية التي لا أحبها، ولا سيما تلك القائمة على أيديولوجيا الصراع الدائم المتخيّل بين الشرق والغرب على قاعدة ثبات أيديولوجيتهما. معظم أعمالي ومؤلفاتي هو كسر لهذه الكليشيهات والصور النمطية الفتاكة؛ وذلك قبل أن يأتي الكاتب الأميركي صموئيل هنتنغتون بأطروحته السخيفة حول صراع الحضارات، الذي انتقدتُه بشدة في كتابي (La Nouvelle Question d’Orient) (la Découverte, Paris , 2017) «المسألة الشرقية الجديدة».
إن الحضارات لا تتناحر بل تتفاعل فيما بينها، أو لا تتفاعل؛ ثم إن مقولات دخول الحضارات في نزاع وصدام مقولات لا أساس لها في الواقع. انتقدتُ سابقًا صديقي إدوارد سعيد (1935- 2003م) في عمله حول «الاستشراق» (1978م)، نظرًا للخلفية الأسلوبية الصدامية للكتاب، كأن هناك كُتلتيْنِ حضاريتين متصارعتين؛ واحدة شرقية وأخرى غربية، وانتقدتُ أيضًا المفكر المصري أنور عبدالملك (1924- 2012م) صاحب المقالة الشهيرة «الاستشراق في أزمة» (1963م)، وكذلك عالم الاجتماع المغربي المهدي المنجرة (1933- 2014م)؛ بسبب أن طروحاتهما ومواقفهما، تبعدنا من دراسة القضايا الحقيقية المؤدية للنزاعات والصراعات في العالم.
● ولكن هنتنغتون ليس وحده القائل بصدام الحضارات، فاليمين المتطرف أو المتشدد في أوربا يدعم في مواقفه مقولات الصراع الحضاري، ويستنفر الهويات الداخلية والعصبيات. ما رأيكم في ذلك؟
■ لا أصنف هذ اليمين الأوربي أنه يمين متطرف، ولا أتبنى الأيديولوجيا التي تقول بأن العالم كتلة واحدة، وأن التجارة الحرة العالمية هي الحل لمشاكل العالم. على النقيض، أعتقد أن الحركات القومية الوطنية في أوربا، مثل «حزب الجبهة الوطنية» برئاسة مارين لوبان؛ هي تعبير عن رفض العولمة واختراقاتها التي تهدد استقرار المجتمعات بالكامل. إن نقطة انطلاق الأيديولوجيا الحديثة المهيمنة تتمركز حول فوائد العولمة التي تسمح لدولتين كبريين مثل الولايات المتحدة والصين بالسيطرة على العالم، فتكسر الحدود الوطنية وتهدد الهويات، ثم من المهم أن نفهم مواقف الأحزاب أو الحركات القومية في الدول الغربية، في إطار ردّ الفعل على اختراقات العولمة.
إن القومية ظاهرة طبيعية ولا بد للشعوب أن يكون لها قومية وأيديولوجيا قومية، واليوم سياسة أوربا هي محو القوميات وحدودها. ولنتذكر مواقف الجنرال شارل ديغول (1890- 1970م) الذي رفض مفهوم الاتحاد الأوربي، الساعي إلى جعل الدول الأوربية، دولة واحدة. علينا العودة إلى أفكار كبار القيادات السياسية مثل الجنرال ديغول الذي أدان فكرة أوربا موحدة، ونادى بأوربا الأمم، بحيث تحافظ كل أمة على خصوصيتها القومية. وهنا أحب أن أذكر أعمال المنظِّر الاجتماعي بيار كونيسا الذي وضع كتابًا ممتازًا تحت عنوان: «صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح» ولدينا قبله كارل سميث (1927- 2010م) الفيلسوف الألماني الكبير الذي نظَّر وكتب عن صناعة العدو؛ إذا أردنا السلام العالمي علينا القضاء على أيديولوجيات صناعة العدو.
«أوربا» الاتحاد أم الأمم وخديعة التنوير
● تمرّ أوربا منذ عقود بتراجع عن إرثها التنويري والحداثوي ومسؤوليتها الثقافية تجاه العالم كما تبدت في فكرة أوربا التي قال بها فلاسفة عدة. ما العامل الأبرز في رأيك المؤدي إلى هذا التراجع؟ هل على أوربا استعادة رُوحها الحضارية؟
■ عندما قامت فرنسا بثورتها عام 1789م كانت ولا تزال دولة استعمارية من الدرجة الأولى، واضطهدت العديد من الشعوب في مستعمراتها وتوسعت. ثمة تناقض مطلق بين الكلام الثوري الجميل والواقع التاريخي. لا شيء في رأيي اسمه أوربا، هناك كيانات قومية وثقافات شديدة الأهمية. القومية الألمانية مختلفة عن القومية الفرنسية والإيطالية والإسبانية.
إن فكرة «أوربا واحدة» موحدة وَهْمٌ وأكذوبة كبيرة، لا شيء هناك اسمه أوربا التنوير، وليس علينا أخذ المقولات الجاهزة بشكل أعمى عن الثقافة الغربية؛ إن الحديث عن دور تنويري وحداثوي لأوربا خديعة كبرى. فعلى النقيض من ذلك الكيانات والقوميات الغربية قوية للغاية، وقد تقاتلت فيما بينها، ووقعت الحروب الدينية في المجال الغربي، ومن ثم تحولت إلى حروب قومية، والحروب بين فرنسا وألمانيا شهيرة في التاريخ.
ترافقت حركة الأنوار في الغرب مع الحملات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية والبلجيكية الشرسة، وما فعلوه في جمهورية هايتي التي كانت دولة متقدمة، أكبر دليل على ذلك، فحُطِّمتْ بشكل كبير بعد أن عرفت حركة نهضوية، وفي إفريقيا فعلوا الأمر نفسه.
«متلازمة هنتنغتون» ونقد «الهويات العملاقة»
● شكَّل الإسلام جزءًا أساسيًّا من نقاشاتك لبعض الأطروحات الاستشراقية والأوربية المعاصرة حوله، ووجدت أن قراءات غربية عدة لم تفهم الفضاء الإسلامي، دينًا وحضارة، بالشكل الوافي بعيدًا من الوعي النمطي. أين أوربا اليوم من الدراسات الإسلامية؟ هل تجاوزت الوعي الاستشراقي أم ما زالت تدور في مجاله؟
■ ما زلنا إلى اليوم نتخبط بنظرية هنتنغتون حول صراع الحضارات المسيطرة على الساحة الأيديولوجية وإلى حد ما في الدراسات الأكاديمية؛ ولسوء الحظ نفوذها قوي وكبير للغاية في الجامعات والصحافة العالمية، علمًا أنه في بريطانيا، هناك رحابة صدر أوسع تجاه الإسلام؛ إذا ما قُورِنَ بدول غربية أخرى، فالمسلمون يعيشون طبيعيًّا، ولديهم مراكز مرموقة في الإدارات البريطانية.
● ألا يتحمل الإسلام جزءًا من هذه الصورة الصدامية المصنوعة؟
■ أدت السياسات الغربية واستغلال الحركات الإسلامية للدين إلى إضفاء هذه الصورة الصدامية حول الديانة الإسلامية. لنأخذ مثال ما جرى في سوريا بعد عام 2011م، وكيف استُنفِرَت الجماعات الإسلامية المتطرفة لتدميرها، ولا ننسى أن أسامة بن لادن أنتجته عوامل ظروف الحرب البادرة. كان الهدف من وراء ذلك إبعاد الأنظار من القضايا العربية الكبرى، ولا سيما القضية الفلسطينية، ولفتح المجال أمام الحركة الصهيونية التي تديرها الولايات المتحدة وبريطانيا.
● يرى بعض أن الإسلام المعاصر يعاني العنفَ بمستويات مختلفة ومتفاوتة، بحيث يمكن تفسير بعض جوانبه بالتصدي أو مقاومة الحداثة من جانب الأصوليين والتقليديين في آنٍ. ما رأيك في هذا التحليل؟
■ لا أتعامل مع ما أسميه «الهويات العملاقة» أو المقولات القطعية، ضمن إطار الـ«ضد أو مع». إن الإسلام نفسه فيه كثير من الاجتهادات المختلفة، وهذا يعني أن حركة الإصلاح لا تتوقف. ابحثي عن كتابات المستشرقين الغربيين الذين استغلوا الديانة الإسلامية في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي لتدميره، وتركوا تأثيرًا كبيرًا في الأعمال والأفكار حوله.
لبنان وهدر الإصلاح
● يمرّ لبنان اليوم بأخطر مرحلة في تاريخه المعاصر على مستويات عدة، وفي سبتمبر 2020م توج مئويته الأولى بإعلان دولة «لبنان الكبير». بعد عقود مهدورة من الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي والسياسي؛ هل من إمكان لإنهاض البلاد؟
■ كتبت مئات الصفحات في نقد نهج الرئيس رفيق الحريري في لبنان الذي دمّر الصناعة والزراعة اللبنانية، واعتقد بشيء من السذاجة، أنه يمكن للبنان أن يعود للعب الدور نفسه الذي لعبه قبل الحرب الأهلية عام 1975م.
إن آلية المال السهل المتبعة منذ عقود، أتت بنتائج مدمرة على الاقتصاد اللبناني، إضافة إلى أن الاستدانة بالدولار ضمن فوائد (7%) و (8%) وتوظيفها بسندات الخزينة بفوائد ربوية الطابع، وصل بعضها إلى (39%) دمّر الاقتصاد في البلاد. وللأسف كان الإعلام كله مؤيدًا للرئيس الحريري، والرئيس الفرنسي جاك شيراك أعطاه شرعية سياسية إضافية، فنُهِبَ لبنانُ.
● ماذا عن انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020م، هذا الحدث الزلزالي الذي كشف عن المستوى العالي للإهانة السياسية من جانب الفئة الحاكمة تجاه اللبنانيين؟
■ يدل هذا التعاطي على مدى تدهور الإدارات اللبنانية خلال الثلاثين سنة الأخيرة من تأسيس نظام الطائف، عدا أن توزيع الحصص الطائفية قَوَّضَ الشعور الوطني في لبنان.
حيوية الفكر العربي والتوجس من حركات أصولية مضادة
● كيف تنظرون إلى الثقافة العربية على مستوى الإنتاج والطروحات والأفكار والمشروعات، إن وُجدت؟
■ في كتابي «الفكر والسياسة في العالم العربي» (دار الفارابي، بيروت، 2018م) أظهرت حيوية الفكر العربي بما فيه الفكر العربي التقدمي والماركسي، واستعدت شخصيات ثقافية عدة منسية؛ لأنها كانت تقدمية الطابع. تكمن المشكلة اليوم في عدم وجود ذاكرة تاريخية عند الشباب العربي الذي يجهل تاريخه الثقافي، وتاريخه الوطني، وهذه مأساة كبيرة.
● لماذا يغيب سؤال المستقبل عن الوعي الثقافي العربي؟ وما رأيكم في خلاصة أدونيس الذي رأى أن «العقلية السائدة في المجتمع العربي عقلية سلفية ينبع مثلها الأعلى من الماضي لا من المستقبل»؟
■ لا أوافق على الأحكام المطلقة بهذا الشكل، مع محبتي وإعجابي الكبير بأدونيس، الذي لا شك أن مساهمته مؤثرة في تطوير وتحديث اللغة العربية. هنا أريد الإشارة إلى أن عددًا من الشعراء والمثقفين العرب تُجُوهِلُوا؛ لأنهم اتجهوا نحو أنظمة اشتراكية أو اعتنقوا الماركسية.
● يرى بعض أن ثمة تبدلات وانزياحات في المشهد الثقافي العربي، بحيث تُبنى مدارات عربية ثقافية جديدة في عدد من الدول الخليجية، وتخفت مدارات ثقافية عربية عميقة في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق. هل ثمة مبالغة في هذا الطرح، أم إن المدن التاريخية شاخت فعلًا بسبب إفشال عملية التحديث؟
■ في دراسة موضوعية بعيدًا من الأيديولوجيات المختلفة والانطباعات الاستشراقية الموجودة لسوء الحظ عند بعض المثقفين العرب المتأثرين بما يقوله الغرب عن العرب، فإن تقويم التحولات الجارية في المشهد الثقافي الخليجي سابق لأوانه ويصعب إعطاء أي تنبؤ مستقبلي.
أخشى مستقبلًا من ردود أفعال من جانب حركات أصولية مضادة لحركة التحديث الجارية اليوم. في الخليج ثمة مؤسسات ثقافية جليلة، ولا سيما تلك التي تقدم الجوائز السنوية للمبدعين العرب، ولا شك أن هناك عروبة ثقافية نابضة في دول الخليج العربي. تتخبط دول عربية عدة في مشاكل داخلية وإقليمية معقدة، مثل العراق وسوريا، وهو ما يحول دون ازدهار الحياة الثقافية فيها.
المنشورات ذات الصلة
المؤرّخ اللبناني مسعود ضاهر: مشروع الشرق الأوسط الجديد يحلّ محل نظيره سايكس بيكو القديم
الدكتور مسعود ضاهر أحد أبرز المؤرّخين العرب في لبنان والعالم العربي اليوم. هو صاحب مدرسة في الكتابة التاريخية تتميز...
بمناسبة صدور كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» خوسيه ميغيل بويرتا: نحن أمام مسؤولية إبراز التعايش مع الإرث الأندلسي بمفاهيم عصرية
بمناسبة صدور كتابه باللغة العربية «رياض الشعراء في قصور الحمراء» بالاشتراك مع الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع،...
زياد الدريس: مركز عبدالله بن إدريس يهدف إلى تشجيع الابتكار وجائزة ابن إدريس أكثر من كونها شعرية أو أدبية
يتطرق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، أمين عام مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، في هذا الحوار، إلى دور المركز في تنشيط...
أولاً لم ينتقل التنوير إلى العالمين العربي والإسلامي كما كان مشروعاً عقلياً ولم يطلع عليه المثقفون العرب كما كان في حقيقته مشروعا لتجاوز الفكر الدين وخاصة المسيحي في الغرب ومن صرعات النقدية للتنوير ظهرت أولا وأخيراً لدى التيارات الإسلامية التقليدية خاصة، وقول الدكتور قُرم مردود عليه