كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
شظايا الذاكرة
لحظةُ صمتٍ. هكذا ابتدأ المشهد من حيث انتهى آخر. شظايا كثيرةٌ؛ أضراسٌ مكسورة، حطامُ أبوابٍ، طاولاتٌ.. وبقايا أجسادٍ… ماذا يمكنك أن تتذكّر يا يزيد؟ صوتَ الأنينِ المتقطّع، الذي انطلق خافتًا، باردًا، ثمّ انتهى إلى الاشتعال… الصوتُ الذي أتى من بعيدٍ؛ الذي لم يكن غير صوتي… الخوفَ، جسدَكَ المسجّى بالقاني أو بولَك الذي ضلّ سبيله فاندلق على وجهك.
من نقطةٍ نائيةٍ قدمتُ، من تخومِ الموت، ولمّا اقتربت، كطائرٍ يحطّ، دنت الأصواتُ، تدفّق الألمُ، الزفرات الأولى، وسؤال الهويّة؛ من أنا؟ أين أوجد؟ إلى أن جبّ سؤالٌ ثالثٌ ما قبله: ما الذي جرى؟ عندما فتحتُ عينيّ شاهدتُ لوحةً؛ يدٌ على طاولةٍ مستديرة، رأسٌ انتزع من عنقٍ باسقٍ، بطنٌ اخترقته شظيّة فكشف عن أمعاءٍ وبقايا طعامٍ… دخانٌ وألسنة لهبٍ…
هي التي اختارت المطعم، هي من أصرّت على الاحتفال بيومِ زواجنا في مكان عامّ، قلتُ لها: إنّ اختلاءنا يجعلنا أسعد، قالت: إنّها تودّ أن تقتسم بهجتها مع كلّ الناس. وتقاسمنا الألمَ، النهاياتِ، وصرنا، أيّها القابعون خلف شاشاتِ التلفاز، مشهدًا، صورًا تؤثّث بها القنواتُ أخبارَها.. صرنا حبرًا على الجرائد، موضوعًا على طاولات مستديرة، ليصل دمنا مداه.
هل كان يعلم ذاك الذي فتّق زهرة القاني، أنّ ذات الضفائر كانت تحمل بين أحشائها ثمرةَ عشقٍ، أنّ الذي حمل بين يديه الشهيدَ بكى. لقد التقطت العدسات الشغوفة صورَ جنينٍ احترقَ. أحاول أن أرتق الشظايا، أفرشُ على مكتبي قصاصاتِ الجرائدِ، أرتّب الصور التي التقطتها العدساتُ الشغوفة، أوزّع المقالاتِ على الحوافّ.. وأقرأ العناوينَ للمرّة الألْف.. لديّ الوقت الكافي.. ماذا بوسع شابٍ مقعدٍ أن يفعل؟ كعجوزٍ ما عادت الحياة غير ذكرى. هل استطاعَ بغريزته أن يتساءل عمّا يجري؟ أن يدين الناس، حضارةَ النار والرصاص؟ اخترقت الشظايا وألسنة اللهب جدار الأمّ، لينتزع الموتُ بذرةَ الحياة من ترابِ الأرضِ.
وضع النادل كأسين من عصير الليمون، الحلوى، وانحنى لنا..
طلباتٌ أخرى؟
ضحكت، تورّد الخدّان، نضحت العينان… ثمّ جاء صوتُها الغضّ:
كأسٌ ثالثة لابني يا يزيد.
وهل تقبل اعتذاري يا بنيّ؟ هل تسامحني؟ جئتَ في الزمن الخطأ لتضمّك قوائم الموت قبل أن تستقبلك لوائحُ الحياة. عذرًا يا ذكرى موت.
أمسكتُ يديها، داعبتها، نظرتُ إلى عينيها السماويتين الباسمتين:
لحظة وأعود حبيبتي.
ما كنت أحسب أني أخطو مبتعدًا عن نهايتي. ابتسمتُ، استدرتُ، وخلفي كان عالمٌ يُقبل على الاحتراق. راوغتُ الطاولات، الكراسي، الوجوهَ، ثمّ فتحتُ باب المرحاض، فظهرت صورتي على صقال المرآة؛ شابٌّ في الثلاثين، بذلةٌ أنيقةٌ، قامة طويلةٌ، سحنة صحراويّةٌ، عربيّةٌ، جعلتها أضواء النيون أكثر تألّقًا. أغمضت عينيّ، فككتُ أزرارَ السروالِ. لحظةُ صمتٍ. وهكذا ابتدأ المشهد من حيث انتهى آخر.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق