كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بين فريدريك نيتشه ومحمد النّاجي.. التّرجمة بوصفها حلًّا فلسفيًّا
قد يكون من باب العطف لربما، أو من باب البر بمكانته، وبسابقته، والاعتراف بأدواره في صناعة الحضارة وصياغة الأفكار الملهمة، أن يلجأ المترجم إلى نصوص الأباعد ليستضيفهم ويوطّنهم بين ذَويه ونَاسه، فالمترجم مثله مثل المحقق غالبًا ما تحكمهم علاقة صداقة غريبة بأحد الغرباء عنهم، صداقة قد تغلب على معظم صداقاتهم الأخرى، حتى إنها لتنتصر على كل علاقاته، فيُلازم في عمله الدؤوب كتب واحد من المفكرين؛ يعالجها ترجميًّا أو يكتب عنها ويعيد تنضيدها، فيَلزمه هو من جهة ثانية اسم ذاك الصاحب القديم.
فما أن يحضر اسم عبدالسلام هارون أو شارل بلا من جهة التحقيق حتى يحضر اسم أبي عثمان عمرو بن بحر، وما إن نذكر اسم عبد السلام شدادي إلا ونتذكر اسم عبدالرحمن ابن خلدون، وما إن نسمع باسم عبدالقادر عبداللّي في حقل التّرجمة حتى نتذكر اسم التّركيين أورهان باموق وناظم حكمت، وما إن نسمع باسم صالح علماني حتى يحضر إلى بالنا اسم غابرييل غارسيا ماركيز ومعه ماريو فارغاس يوسا، وتذكر فيودور دوستويفسكي ويحضر سامي الدروبي، وما إن نسمع باسم إمام عبدالفتاح إمام حتى يحضر بيننا اسم هيغل، وما إن نسمع المترجم المغربي محمد الناجي حتى يحضر أمامنا فريديرك نيتشه.
فأسماء مترجمين معينين لوفائها لمن تترجم لهم صارت وحدها وصفة لاستحضار روح صاحب النّص الأصلي وشخصه، فالمترجم ساحر يحيى الميت ويوقظ الوسنان من النصوص، ويبرئ الأكمه منها، ويداوي الأبرص ويرمّم المخروم.
منذ 1993م بإصداره ترجمة «العلم المرح» رفقة رفيقه في ترجمة مجموعة من الأعمال: حسان بورقية، حافظ محمد الناجي على وفائه لمتن نيتشه، وبره بترجمة الأخير إلى اللسان العربي، عبر الدار نفسها: إفريقيا الشرق وعبر ذات اللغة الأنيقة والهادئة، وكأنه يفي بنَذْر لا تنهاه عنه السنوات الطوال ولا مشاغل الحياة، والاهتمامات التي تَعْتَوِرُ وتعترض الواحد منا، عاكفًا، مُتحنثًا في محراب الترجمة، يفكّك الألغام التي تطرحها الأفكار والمفاهيم النيتشوية، ويحاول جهده، كي يَحول دون أن تنفجر شظية من شظاياها في وجه القارئ، وبخاصة وهو يتعامل مع فيلسوف عدّ نفسه دومًا عبوة ديناميت، لتكون ترجمته هي مغامرة أو مخاطرة حقيقية بالنفس، أو على الأقل مهمة حربية غير مضمونة العواقب، بخاصة أن المترجم محمد النّاجي أتى من أرض غريبة هي شعبة اللغة الإنجليزية وآدابها، وليس كما يتوقع، من شعبة الفلسفة، أي أنه في حقل ألغام وعبوات ليس حقله، غير أننا سرعان ما نتذكر أن نيتشه لم يأتِ إلى الفلسفة من شعبة الفلسفة وإنما شعبة فقه اللغة، وأن لقاءه الفعلي بالفلسفة كان مع لقائه مصادفة بكتاب شوبنهاور العمدة: العالم إرادة وتمثلًا، الذي لم يشك أن صاحبه كتبه له فقط دون بقية البشرية.
المترجم محمد الناجي ما أن أنهى دراسته الجامعية في شعبة الإنجليزية وآدابها في فاس حتى أخذ في ترجمة أعمال نيتشه، عبر اللّغة الفرنسية وبإزائها ترجمات نصوص نيتشه الإنجليزية فيستعين على النص الأصلي بلسانين ضد واحد، بالفرنسية التي قد تحوي أخطاء، يعيد تصويبها مفهوميًّا وأسلوبيًّا على مرآة إنجليزية مبينة، اللغة الأخيرة التي رغب محمد الناجي أن تكون نافذته على العالم عكس أغلب المغاربة، ذوي التّوجه الفرانكفوني، وعلى الرغم من أن بورخيس يَأّس العرب من الترجمة، حينما عدّ خطأ ابن رشد في ترجمة الكوميديا والتراجيديا عجزًا ضيّع على أمته كثيرًا من الإمكانيات في المسرح وفي الترجمة نفسها، فإنك تحس مع ترجمات محمد الناجي لمتن صاحب «ميلاد التّراجيديا»، أن إمكانيات الترجمة إلى العربية ممكنةٌ جدًّا، وأن إمكانيات استدراك ما يمكن أن يكون قد فات، ممكن هو الآخر أيضًا، ليتحول فشل ابن رشد نصرًا حقيقيًّا يحسب للسان العربي.
فإن حاول ابن رشد استملاك أرسطو الذي نعته بالإلهي، فإن محمد الناجي حاول تملّك نيتشه وجعله يتكلم لسانًا عربيًّا فصيحًا. تمامًا كما فعل القديس أوغسطين وتوما الأكويني كبيرا الزّمن السّكولائي بأرسطو ومعه ابن رشد لكن ضمن اللغة اللاتينية التي فشل نيتشه في تدريسها لطلبته في جامعة بازل.
المترجم محمد الناجي يشتغل على أكثر من جبهة في معركة حربية يعرف هو وحده وقرّاؤه أهميتها، كي يُضيف ويُتمم النقص ويُصلح الثغرات التي تفصلنا عن التطورات الحاصلة عند بقية النوع الإنساني، لهذا كان بناء بيت الحكمة في تاريخنا العربي برعاية جهة سياسية هي التي يكون بيدها إعلان الحرب وضد أي جهة، ومن يكون في مقدمة الجبهة ومن لا يكون، غير أنه في غياب مؤسسة وبيت حكمة ترعى الترجمان، فمحمد الناجي يشتغل وحده لتنبثق قراراته من حاجيات القرّاء والثُّلَم التي تملأ رفوف المكتبة العربية، وعلى الرغم من تلك الوحدة التي تصونها مؤسسة فإن إنتاجه التّرجمي تَندُّ وتعجز عنه المؤسسة، بمثابرة وعناد يستمر في خطته لنقل نيتشه كاملًا، ووضع متنه من ألفه إلى يائه بين يدي القارئ العربي، وبباله مقولة الكندي أول فيلسوف عربي في رسالته إلى المعتصم بالله «إن غيرنا من السّابقين أنسباء وشركاء لنا فيما نفيده من ثمار فكرهم (…) إنه لا ينبغي لأحد أن يستحي من اقتناء الحق مهما كان موطنه أو لغته أو جنسه؛ فالحق أحق أن يتبع».
حياة بعيدة من الضوضاء
محمّد النّاجي المترجم النَّشِط، يُصرّ على أن يعيش حياته بعيدًا من الضّوضاء التي يختلقها مثقفون لا ينتجون شيئًا، مُزاوجًا بين حياته المهنية وحياته الأسرية، وبينهما يحاول إيجاد وقتٍ ليترجم، ويعمل على مشروعه، لينقل إلى العربية عيون النّصوص الفلسفية التي يمثلها نيتشه. محمّد النّاجي رجلٌ يستقبلك بروح متواضعة تنّم عن دماثة سلوك ومعدن صدقٍ، وصفاء أخلاقٍ كان موقف صاحبه نيتشه منها مُفاجئًا وغريبًا وغير أخلاقي بالمرّة، هذا إن لم نُدخل عمل المترجم نفسه ضمن ما هو لا أخلاقي أيضًا، بحسب التّهم الموجهة لكل التّراجم عبر التّاريخ، تُهمٌ تنظر إلى المترجم كخائن لا يشق له غبار، ومستبيح للنصوص، ومغتصب للمعاني، لا يكفّ عن هتك حرمات القواعد اللّغوية، وانتحال غايات المؤلفين ومقاصدهم البعيدة، لا يتورّع في تدنيس الأساليب التي رضي عنها المؤلف الأصلي.
غير أن عمل المترجم من وجهات نظر أخرى ينبثق عن رؤى أخلاقية ورِعة، تتغيا إثراء لغة وعقل يعانيان نقصًا ما، وليصل عالمًا بعالم، وثقافة وطن بثقافات أوطان أخرى، يفكّ حصارات العمى التي تحاصر جيله ولاحقيه. ربما لأنه كُتب على المترجم أن يعيش بين ضفتين، فمحمّد الناجي يقضي حياته متراوحًا بين ضفتين، ضفة العربية وضفة بقية اللّغات التي يترجم عنها، وينقل لنا عنها نصوصا مفاتحها تنوء بالعصبة أولي القوة، ومتراوحًا في حياته اليومية بين ضفتي العُدوتين: سلا حيث يسكن، والرّباط حيث عَمَله، مُسافرًا؛ جيئة وذهابًا؛ ما بين العمل الأصلي وما بين آثاره المتفرّعة عنه، يعالج ويُصَوّب ويصلح ويرمّم، في مراوحة يومية، لتكون القنطرة التي تربط بين ضفتين (مدينتين/ لغتين) هي التّرجمة، ولا شيء غيرها، ولتكون التّرجمة هي قنطرة محمّد النّاجي نحو أفكار الآخر البعيد، ولتكون حلًّا مقنعا للزحمة التي يعانيها بين تنقلاته بين المدينتين. بخاصّة أن كلمة ترجمة كما في أصلها الألماني، أي في لغة نيتشه، إنما تعني فيما تعنيه نقل الشّيء من ضفّة إلى ضفة.
في إجادة تامة يتتبع محمد النّاجي الخيط الذي نظمه نيتشه؛ شذرة شذرة، وجُرعة بجُرعة، ونقطة بنقطة، وكلمة بكلمة، يقيس درجة عمق الكلمة ليبحث لها عما يناظرها في معاجم عربيته، يجس نبض الجملة ودرجة عمقها، لينفث فيها من روح عربيته ما يهبها حُرقتها وروعتها التي أنطقها بها صاحبها أول مرة، في أفق أن يشتعل الفتيل الذي يستمد زيته من الشّذرة في وحدتها، وانكفائها على نفسها، لتكون مغامرة المترجم محمّد النّاجي أمام رهان نزق وخَطِر هو مسايرة إجادة الكتابة والتّفخيخ؛ هذين اللّعبتين اللّتين أجادهما نيتشه بإتقان.
كما رغب نيتشه أن يكون أنموذجًا لأي ألماني ألِف الكتابة الرّديئة والفلسفة الغامضة مع هيغل وشيلنغ متطلّعًا لما هو أحسن وأجود، ورغب في التّخلي عن الرّطانة والصّفاقة في الكتابة التي مثلها معاصرو نيتشه، فعلى المترجم كذلك أن يحذو حذو صاحب الدعوة في تجويد الكتابة، لذا فمنذ سنواتنا الأولى في الإجازة ونحن طلبة حينما لم يكن بين أيدينا غير ترجمات محمّد النّاجي لنصوص نيتشه، كنا متأكدين أن نصّ نيتشه الأصلي أو حتى في أكثر ترجماته صوابًا في الفرنسية وغيرها، لا يسعه إلا أن يكون بهذا الإتقان والتّلذذ، ليصير في نظرنا ما هو نسخة معيارًا للحكم، بل ومحاكمة الأصل واختبارًا له ومحاولة نزقة وجميلة لتجاوزه.
إنه وإن كانت نصيحة نيتشه واضحة للأوربيين، ممن تُحرّكهم مشاعر أوربية طيبة، بأن يتعلموا، على الأقل، كيف يكتبون بشكل جيّد وأفضل، فإن نصيحته موجّهة لكل من يقرأ له، وموجهّة بالأخص لمترجميه، كي يُظهروه في صورته البليغة جدًّا. وما دامت إجادة الكتابة ومعها إجادة التّفكير، لدى نيتشه، يربطها في ذات سياق نصائحه للسادة الأوربيين بالتّرجمة، أي بضرورة العثور أولًا على شيء يستحق إطلاع النّاس عليه، وفي المقابل معرفة جادة بطرق إبلاغه لهم، أي قابلية ما يُكتب لأن يُترجم إلى لغات الدّول المجاورة، وبالتّالي تكون مكتوبات في متناول الأجانب.
مهمة صعبة
الترجمة لنيتشه أكيد أنها مهمة صعبة، من جهتين: من جهة أفكاره المثيرة والمستفزة للبعض، ومن جهة أسلوبه الشّيق جدًّا واللّذيذ جدًّا، والذي استطاع به أن يُنطق الألمانية، هذه الأخيرة التي لطالما عدّها لغة الرّطانة ولغة البرابرة بامتياز، ولطالما اعتبر رداءة الكتابة بها مزية قومية لا تتورع في ملاحقة الألمان متى كتبوا وكلما نطقوا.
ترجمة نيتشه هي محاولة من المترجم ليقف النّد للند ليُدارع ويصارع صاحب أشهر شارب في تاريخ الفلسفة: نيتشه، وأكيد أن المترجم يعلم جيّدًا أنه يترجم في الحقيقة ليس لنيتشه، وإنما لأساتذة نيتشه كلهم خاصة المنتمين لعالم العبقرية الذي رأى نيتشه أنه أحق الناس به، عالم هوميروس، إيسخيليوس وهراقليطس وسوفكليس والبقية. فالرّجل عدّ نفسه دوما تلميذًا للعصور الأكثر قدمًا، ومتحدثًا رسميًا بالوكالة لكل أباطرة البلاغة من اليونان واللاتين القدماء، فمنذ صغره وهو يحاول أن يقلّد كبار الكتاب اللّاتينيين والإغريق، بشذراتهم ووقاحة حججهم وشَكِّية أسئلتهم، فعلّم الكتابة الإغريقية لسنوات لتلامذته في بازل، ليرى نفسه في لغات أخرى، غير الألمانية غير الأنيقة بالمرة، والتي لا جمال فيها بحسبه.
نيتشه يصير، إذا ما اقترضنا جملتين بسيطتين من ابن العميد، حاول فيهما أن يلخّص مكانة الجاحظ من الآداب العربية؛ لوصف منزلة نيتشه، لا من اللّغة الألمانية وإنما من تاريخ الفلسفة: «إن النّاس عيال عليه في البلاغة والفصاحة واللّسان والعارضة»، والجملة الثّانية: «إن كتبه تُعلم العقل أولًا، والأدب ثانيًا»، ليصير نيتشه هو جاحظُ الألمانية في بلاغته واستطراداته، وكتبه لا تُعلّم الألمان الألمانية فقط، بل تعلمهم وتعلم كل من قرأها الطّريقة التي يدفع بها أفكاره إلى حدودها القصية، وكذلك هي نصوصه إن وجدت اليراع الذي يتملك ناصيتها ويُوجهها حيث رغب نيتشه منها، بحيث يقدر المترجم على تطويع حدود اللّغة للتعبير الأجود بها، واهبا نص ومتن نيتشه الذّخيرة الفلسفية والأدبية التي تجعله من عيون ما تُرجم إلى العربية، وهذه كانت رغبة المترجم محمّد النّاجي والتي لا أراه وقُرّاء آخرون غيري إلا وقد نجح فيها.
نيتشه بالتّأكيد كان يعوِّل على مترجمين أكفاء لينقلوا صرخته إلى العالم، لهذا كان يتبرّأ، في غير ما مرّة وفي غير ما نصّ من الألمانية والألمان، ليعلن الولاء للغات أخرى؛ كالفرنسية، وليظهر دومًا مادًّا بعنقه وبصره إلى الآخر الذي سيُترجمه، معتبرًا لغات الآخرين أكثر ظرفًا ورُقيًا أمام لغته الألمانية الجافة التي تستحق أن يجافيها أي حكيم عاقل، ليعطي الذّرائع لمترجميه كي ينقذوه من إسفاف الألمانية. ففي اتهاماته التي تكاد تكون الأكثر إجحافًا للغة الألمانية يرسل رسائل عديدة لمن سيترجموه، وكأنه يطلب منهم أن يرموا له بطوق نجاة، وينظر إلى مترجميه بتمجيد وكأنهم وحدهم من سيفكون الحصار المضروب عليه ألمانيًّا، هذا، بالطّبع، إن لم يكن المترجمون هؤلاء أكبر سند له في مطامعه التّوسعية للسيطرة على جُزُر الفكر والفلسفة.
ذكاء الناجي ومكره
اختيار محمّد الناجي لنيتشه قد يحمل ذكاءً مفرطًا من جهة المترجم، ومكرًا جميلًا كذلك، فالمترجم يرصد بثقابة فهمه، وحدّة بصيرته النّص وكاتبه ومدى تفتق أفكاره، وهل النّص وصاحبه قد يُكتَب لهما القبول قبل أي مغامرة لنقله للغته أم سيناله منهما مكروه وصدود سيندم عليه؟ نيتشه رغم قسوته وصراحته المقرفتين عند البعض، إلا أنه كُتب له القبول وحسن الطّالع أينما ولّى وارتحل، يبقى جزء من تمام المهمة على كاهل يراع المترجم وقوة عارضته اللغوية.
فمن حسن القبول الذي كُتب لنيتشه أنه قد حضر لدى الفرنسيين بشكل نافس حضوره في بلده الأصلي، ونازع الفرنسيون الألمان حقوق تملّكه؛ تبنوه وتحمسوا له كأنه واحد منهم، حتى أننا سنجد ألمانِيًا هو هابرماس يطالب الفرنسيين بالتّقليل من نِيتشويتهم! محمّلًا إياه مسؤولية نقد الحداثة الغربية ومتهما له بجريرة الرّدة عن العقل.
لقد كانت التّرجمة محلّ ولادة أخرى بالنّسبة لنيتشه، وإن في فراش بعيد عن موطنه، وعن لغته الأم، لهذا بالتّأكيد كان مديحه وموقفه إلى جانب مترجميه الأباعد الذين وصفهم بالنّبغاء والأذكياء جدّا، الذين منهم مترجموه، ومنهم ناقدوا فكره أو بالأحرى منقذوه من اللّامبالاة الألمانية، يقول عنهم: «إن لأعمالي قُرّاء في كل مكان، وهم من النّخبة الذّكية تحديدًا، من المحنكين، الذين صنعتهم الظّروف والمهام السامية؛ بل من بينهم عباقرة. تجدونهم في فيينا، وسان بيترسبورغ، وستوكهولم، وكوبنهاغن، وباريس ونيويورك، لقد اكتشفني النّاس في كل مكان ما عدا في ألمانيا، هذه البلاد الأوربية المسطحة».
موقف نيتشه من التّرجمة وتشوفه لمن يترجمه قد يتخذ شكل اعتراف مصرّح به، ومعه تعبير عن السّخط من لغته الأصلية، في تفضيله قراءة شوبنهاور في ترجمته الفرنسية، وبالضّبط مؤلفه الرّئيسي «العالم إرادة وتمثلًا» الذي تُرجم بحسب نيتشه إلى الفرنسية لمرتين، حيث جاءت التّرجمة الثانية، بحسبه، على غاية من الامتياز، يقول نيتشه: «إنني صرت أُفضل قراءة شوبنهاور بالفرنسية»، على قراءته في الألمانية التي كُتب بها، في قلبٍ غريب لتلك النّصيحة التي تهبُ الأصل قداسته، والتي لا تعجبنا نحن غالبا حينما ينصحنا أحدهم: «يجب عليك أن تبحث عن الأصول، يجب عليك أن تقرأ الكتاب في صيغته الأصل.».
مع نيتشه يصير للغة الهدف صفاءٌ ليس للغة النّص الأصلي، ويصير المترجم في مقام الكاتب الأصلي أو أحسن منه، ليَحدث لنيتشه مع ترجمة شوبنهاور الفرنسية ما سيحدث للألمان مع ترجمة «فينومينولوجيا الرّوح» لهيغل للفرنسية، حينما كانوا لا يجدون بُدّا من المرور عبر ترجمة هيبوليت لأجل فهم فيلسوفهم المُعقّد، لكن أوليس أنه متى ما حل هيغل حلّ سوء الفهم الكبير؟ ومتى ما حلت الألمانية تكدّر صفو الحديث عن الشّيء وعن الفكرة؟ أوليس كثير من معلمي نيتشه الفرنسيين، إنما أفسدتهم، في الحقيقة، فلسفة الألمان المكتوبة بلغة ألمانية؟ فــ «مسيو تاين»، بحسب نيتشه، إنما أخذ سوء فهم كبار الرّجال والحقب التّاريخية من هيغل، وباختصار فحيثما حل الألمان تكدر صفو الثّقافة.
نعم تحدث هيغل عن مكر العقل والتاريخ، لكن لم يكن المسكين بإمكانه توقع مكر مترجميه، حيث سيقلبون عليه نصوصه، كما قلبه هو نفسه كارل ماركس، حيث يصير هيبوليت أقرب لما ودّ هيغل قوله، من هيغل نفسه. وفي غمرة ذات المكر المكرّر هذا، لنتذكر معًا لوحة غلاف كتاب دريدا «La Carte postale de Socrate à Freud et au-delà» حيث تُفاجئنا اللّوحة التي يظهر فيها سقراط جالسًا على كرسي ماسكًا ورقة بيسراه وبيمناه أمسك قلمًا، ومن ورائه وقف أفلاطون يملي عليه، سقراط هذا الذي لا يكتب كما أكد نيتشه، بسبب إشاعة كان أفلاطون مصدرها، يصير هو من يكتب وأفلاطون يصير إلى موقع من يملي، إنه انقلاب خطير في الأدوار وفي المواقع قد ينسحب على المترجم محمد الناجي مع مالك النص الحقيقي، فيصير النّص النّيتشوي مشكوكًا في ملكيته وتشك أكثر، في كفاءة من تثق؟
إلى بلاغة من تنسب جمال النص المترجَم؟ هل هي للكاتب الأصلي أم للمترجم الذي بالتأكيد توقف في اختيار كلمة ما لساعة أو ساعتين، وعانى طوال أسبوع في مراجعة شذرة صغيرة نقلها إلى لغته وبباله جمهرة قرائه، ونيتشه صاحب النص الذي يُطل على عمل مترجمه، مقدّرا قدرته الخارقة على إعادة توطين نصوص لم يرد لها نيتشه أن تظل حبيسة الألمانية، وناظرا بعينِ كلها احترام لسعي مترجمه محمّد النّاجي لقلب صفاقة النّص الأصلي ورطانة لغته، إلى لغة أنيقة واضحة الرّؤية، أنيقة، صافية ورائقة بل ومغرية، لا تنقصها الإثارة وهذا ما عبر عنه نيتشه صراحة وهو يتبرم من لغته وما يُكتب ضمنها بقوله «ليس هناك سبب أن نغضب من الفرنسيين عندما يسخرون منّا لكوننا غير مثيرين، وتنقصنا الأناقة»، وهذا بالتّأكيد ما كان سيرفع لأجله قبعته للمترجم محمّد النّاجي، وينحني احترامًا لمجهودات الأخير، متعكزًا على مظلته(١). التي لم ينسها في حادثة الشّكر هذه.
هوامش:
(١) الإشارة هنا إلى الشّذرة المشهورة لنيتشه «لقد نسيت مظلتي»، وهي من الشّذرات التي لم تنشر في حياة نيتشه، وإنما عثر عليها بين مسودات نيتشه المخطوطة، ولأهميتها عند نيتشه ، جعل لها أهمية دريدا في عمله المهم عن السّيد نيتشه: «المهماز: أساليب نيتشه» (Eperons – Les styles de Nietzsche) ليسهب بشكل مثير للاستغراب في شرحها.
ترجمات أعمال نيتشه:
– العلم المرح، (رفقة حسان بورقية)، أفريقيا الشرق، 1993.
– أفول الأصنام (رفقة حسان بورقية)، أفريقيا الشرق، 1996.
ـ إنسان مفرط في إنسانيته، ج 1، أفريقيا الشرق، 1998.
– إنسان مفرط في إنسانيته، ج 2 ، أفريقيا الشرق، 2001.
– هكذا تكلم زرادشت، أفريقيا الشرق، 2006.
– جنيالوجيا الأخلاق، أفريقيا الشرق، 2006.
– الفلسفة في العصر التراجيدي عند الإغريق، أفريقيا الشرق، 2009.
– إرادة القوة، أفريقيا الشرق، 2011.
– ميلاد التراجيديا، أفريقيا الشرق، 2011.
– هذا الإنسان، أفريقيا الشرق، 2013.
– الفجر، أفريقيا الشرق، 2013.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
بارك الله فيكم استاذي .