كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
إلياس فركوح: كائنٌ عَماني
بالصدفة المحضة، وقعت بين يدي رواية «قامات الزبد»، للروائي «إلياس فركوح» الذي لم أسمع باسمه من قبل، ولم أقرأ له حرفًا واحدًا. عن طريق صديق كان يحمل الرواية بين يديه. كان ذلك -وكما أتذكره تمامًا- في بداية التسعينيات في أوائل العام 1992م. اعترف لي الصديق بأنه لم يقرأها بعد، عند سؤالي له: هل تستحق هذه الرواية عناء القراءة؟
لا أستطيع قراءة رواية تناهز الـ«300» صفحة. قال ضاحكًا وأضاف: هذا كثير، حتى ولو كتبها «ماركيز». هي هدية مني. لقد أرحتني من عناء كبير. قلت.
لماذا؟ تذكرتُ المثل أو القول المأثور الذي يفيد أن الغبي هو من يعير صديقه كتابًا، والأغبى منه ذاك الذي يعيده. أما أن يمنحه إياه فهذا كرمٌ ورب الكعبة.
اختصر صديقي الطريق أمامي وأفرحني. متى بدأت بقراءة الرواية؟ لا أعرف حقًّا. من عادتي أقرأ بهدوء وروية، يحدث أن أعيد قراءة الصفحة أكثر من مرة، ولا سيما إذا كانت صعبة أو كان أسلوبها مختلفًا عما تعودت قراءته. أو يحدث أن أضبط نفسي وقد سرحت بعيدًا من الورق المحبر أمامي، ولم أتمكن لليوم من أن أضبط خيالي من الانفلات بعيدًا من كل ما حولي! أو حين يكون الكتابُ شائقًا فأكرر القراءة أكثر من مرة.
ثمة صور تجيء من تلقاء ذاتها وتفرض سطوتها على الذهن، وتبدأ بترتيب الحدث في اللاوعي لدى الكائن لتصير كأنها حقيقة مُسلَّمٌ بها، ومن الصعوبة إحلال صورٌ غيرها كأنها لا تقبل التغير أو التبدل. حدث هذا تمامًا: الكاتب الذي لم أسمع باسمه من قبل «إلياس فركوح» هو لبناني. حضرت الصورة بسرعة الضوء، وسكنت العقل الباطن لديّ… هكذا حضرت من تلقاء ذاتها. وهو يسكن «الأشرفية».
الكاتب منحته الجنسية اللبنانية، «ربما بسبب أحداث الرواية التي مسرحها بيروت» ربما. وأسكنته في واحدٍ من جبال عمان السبعة، وهو هنا الأشرفية. هكذا تسللت الصورة لديّ، وصارت حقيقة واقعة، وليس محض التباس أو مخيالًا جامحًا.
بالقدر الذي كانت فيه الرواية آسرة، فقد كانت صعبة وشائكة. لغة مغايرة لا تشبه سوى إلياس ذاته. أحداث بيروت الثمانينيات والعمل الفدائي والحب وعمان لا تزال حاضرة في ذهني بالرغم من صعوبة تتبع شخوص الرواية وأحداثها المتداخلة. ولدي المقدرة لليوم أن أسرد الأحداث والشخوص هامشيين كانوا أو أبطالًا من الحبيبة ثريا المصرية، ونذير الأردني حتى… شريف الفلسطيني المناضل.
بعد استراحة قصيرة أو طويلة لا أتذكر أعدت قراءتها ثانية. كأنما كنت على موعد مع الكاتب وأحضر أدواتي لمواجهته في لقاء طويل لم ينتهِ ولن ينتهي أو «يخلص» حتى برحيله.
شاءت الأحداث والظروف، والتقيت الكاتب وجهًا لوجه في ندوة أدبية. كيف استطعت أن تكتب هذه الرواية التي استغرقتك كتابتها سنوات أربع، وبكل هذه التميز والإبداع؟ سألته. أية رواية؟ سأل. قامات الزبد. قلت. لم يجب. إلا أنني لمحت مسحة من حبور أخذت تكسو ملامحه الجادة. تساءل بعد برهة صمت قصيرة: قرأتها إذن. هذا يسعدني، من أين ابتعتها؟ عن طريق صديق. قلت. وهكذا التقيت «إلياس» للمرة الأولى وتعرفت إليه من قرب. كنت أشعر بالفرح. صرت صديقة للكاتب الكبير بل وتحدثت إليه وناقشته في روايته. ضحك كثيرًا حتى مالت «غرته السوداء الناعمة» علامته الفارقة – فوق جبينه، حينما أخبرته أنني جعلتك كاتبًا لبنانيًّا تقيم في عمان، وجبل الأشرفية تحديدًا. اعترفت له بعد أن ابتلعت ريقي مرات عدة، في واحدة من لقاءاتي أنني أكتب. لدي دفتٌر كبيرٌ استنفدته بالكتابة.
ماذا تكتبين؟ تساءل باهتمام. لا أعرف. قلت بحياء: أكتب وأمضي ولا أراجع أو أتوقف أمام ما أخطه. واقع الحال أنني كنت أكتب ولا أعرف ما الذي «أخربشه». ولم أتعرف له عنوانًا أو بابًا أو نافذة أو حتى شرفة. أعني هل هو شعر؟ أم نثر؟ أم قصة؟ رواية. كلام مكتوب بعد أن كان منطوقًا؟ أكتب حين أحس أنني سأختنق، وأن العالم على رحابته يضيق بي وعليَّ. أذهب لغرفتي أحضر الدفتر «لونه أزرق» وأكتب. أكتبُ كأن أحدهم يُملي عليَّ ما أكتبه أو سأكتبه أو كأنني كنت أنقل من كتاب أمامي، أو هو مخبأ في مخزن وما عليَّ سوى كشفه وتعريته.
خربشات لفتاة في مقتبل العمر
لم يكن الأمر يعنيني كثيرًا معرفة ما أكتبه. هل هو رديء أم جيد، هل هو قصة أم سرد أم رواية أم قصيدة نثر؟ لم أتوقف أمامه قط ولم يشكل لي عبئًا. أترك دفتري حين الانتهاء وأخرج. ذات مساء أحضرت «الدفتر» إلى إلياس فركوح. أخذه وكلي يقين بأنه سوف يلقيه في سلة القمامة. هي مجرد «خربشات» لفتاة في مقتبل العمر تبحث عن ذاتها وسط الزحام. هاتفني إلياس ذات صباح وسألني عن اسم «أبي»؟
لماذا؟ سأخبركِ فيما بعد. التقينا في المساء. وكان قد افتتح دار أزمنة للنشر والتوزيع مطلع التسعينيات. وأخذ يعمل وينشر الكتب والتراجم والشعر والدراسات. بعد أن أغلقت دار «منارات للنشر» برفقة الشاعر «طاهر رياض». أخبرني أنه تعاقد مع وزارة الثقافة على نشر الكتاب الأول لمجموعة من الكتاب والكاتبات تحت عنوان «تباشير» وسوف تكون بدعم من وزارة الثقافة ونشر «دار أزمنة».
وما علاقتي بالأمر؟ الدفتر. قال ضاحكًا. دفترك الأزرق هو مجموعة قصصية مكتملة. ليست بحاجة لإضافة أو حذف حرف واحد. وكان وقع الخبر بمنزلة الصدمة. قصة. قصة قصيرة. ما أكتبه قصة قصيرة؟! أجل. هذه هي القصة القصيرة. وقد ولدت قصتك مكتملة. لهذا تساءلت عن اسم أبي؟ حين عرضت الأسماء على «أمين عام وزارة الثقافة» ضمن مشروع «تباشير» الكتاب الأول، توقف أمام اسمك وتساءل عن اسم الأب.
الأمين من العائلة نفسها، «عمايرة» ولم يسبق له معرفتي أو معرفة أن إحداهن تكتب أو لها علاقة بالكتابة، وثمة امتدادات للعائلة في الداخل والخارج. المدهش في الأمر أن المجموعة ليست في حاجة لإضافة أو حذف حرفٍ واحد. أنت موهوبة. قال لي. وأضاف: هذا ما عنيته بأن قصتك مكتملة.
نشرت مجموعتي القصصية الأولى بعنوان «صرخة البياض» في عام 1993م ضمن سلسلة «تباشير»، وكانت بتقديم قصير من إلياس يبشر بكاتبة تجيد كتابة القصة القصيرة بتميز لافت، ورفقة مجموعة من الزملاء المبدعين، صاروا الآن أسماء كبيرة ولامعة في المشهد الثقافي العربي: جواهر رفايعة، مفلح العدوان، نبيل عبدالكريم، زياد بركات.
أحدث هذا الجيل الذي سمي «جيل التسعينيات» انفجارًا قصصيًّا في المشهد المحلي. كتابة مختلفة تقطع مع الجيل السابق ولا تتقاطع معه بشيء. تسيدت المرأة الكاتبة المشهد باستحقاق لافت وتجاوزت زميلها الكاتب بأشواط كبيرة. كتابة لا تُعنَى بالقضايا الكبرى التي اشتغل عليها الكتاب في الأجيال السابقة كثيرًا، لا لم يكن الأمر كذلك لدى «جيل التسعينيات القصصي» بل حضرت الذات، الذات الكاتبة لأول مرة وفرضت حالتها بكتابة لا تشبه سوى ذلك الجيل. لم أكن أعرف من أسماء أمامنا سوى «سامية عطعوط» و«بسمة النسور»، إضافة إلى الرائدة الدكتورة هند أبو الشعر القاصة والباحثة والمؤرخة المرموقة، و«تريز حداد». في حقل القصة.
نفدت الطبعة الأولى من «صرخة البياض» وأُعيدَت طباعتها في دار أزمنة، واستحقت مجموعة زياد بركات بطبعتها الأولى «سفر قصير إلى آخر الأرض» جائزة الدولة التشجيعية في حقل القصة القصيرة. توالت بعدها أسماء الكتاب والكاتبات في الظهور وعن دار «أزمنة للنشر». كانت سعادة إلياس كبيرة وفرحه غامرٌ. وهكذا وجدت نفسي «كاتبة» من دون أن أخطط للأمر. وعثرت على ذاتي لأول مرة وسط الزحام.
في مواجهة العذاب
منذ ذلك التاريخ، أي تلك الولادة الأدبية، بدأ إلياس يوجه قراءاتي: هذه رواية جيدة. هذا كتاب يستحقُ عناء القراءة، اقرئي كثيرًا ولا تفكري في الكتابة. القراءة هي التي تقودك للكتابة، الموهبة وحدها لا تكفي. ثمة عمل كثير بانتظارك. ابتعدي عن الأضواء ولا تأبهي بها فهي تعمي من يجري وراءها، وتعاقب من يحبها.
ولليوم حين أجلس إلى مكتبي للكتابة، أبقى لساعات طويلة حائرة قلقة أمام الكلمة. وأكتب ببطء سلحفاة هرمة؛ إذ تستغرق كتابة قصة لا تتجاوز أربع صفحات أو خمس صفحات أكثر من أربعة أشهر. وأعتقد أن هذا يعود إلى «إلياس فركوح» صاحب التعليمات المشددة أمام الكلمة. ولدت قصتك مكتملة. الآن أنت تحت المجهر. الأنظار تتجه لما سوف تكتبين. النقد لا يرحم أو يجامل. المهم النوعية وليست «الكمية» كتاب واحد كفيل بأن يضع اسمك مع المبدعين. الكتابة الجيدة تصل للقارئ بكل سهولة. ولدت قصتك مكتملة. هذا عذاب ما بعده عذاب وضعني في مواجهته منذ الكتاب الأول. ومسؤولية كبيرة ما زلت أرتجف أمام تبعات حملها وأزعم أنني لا أزال أتعلم.
ولليوم أتمنى أن أعود وأكتب باطمئنان ويقين الكتابة الأولى. بلا خوفٍ أو ترددٍ أو قلقٍ أو حساب. حين كنت أملأ الدفتر بالكلمات وأخرج من دون حس بمسؤولية الكلمة، أو خوف من كتابة قصة «غير مكتملة أو رديئة»! أنا مدينة له بالكثير، على المستويين الإبداعي والإنساني. تمكن من توجيه سير قراءاتي بكل الصدق والقسوة التي كانت واحدة من صفاته. «اقرئي كثيرًا. القراءة أولًا». يقول.
أجل ثمة قسوة تغلفها قواعد صارمة بنظام مرتب بعناية كبيرة، لا يحيد عنها الإنسان الذي جوهره مبدع. كاتبٌ فذٌّ يندر أن تجتمع كل هذه الصفات بكاتب يُعنَى بالكلمة: قاص متميز وروائي مجدد، ومترجم بذائقة متميزة، وناقد ببصيرة ثاقبة، وناشرٌ كبير. جلُّ أصدقائه كانوا من الجيل الذي يصغره، الصحفي المتميز محمود منير وياسر قبيلات وآخرون كثر، أقترب منهم ومن أفكارهم وطروحاتهم المغايرة، كما كان يصفهم.
احتضن ونشر لكثير من الكتاب العراقيين، في وقتٍ صعبٍ وضيق، وجد المبدع العراقي نفسه أمامه. كان مناقبيًّا مثاليًّا، يرتب مكتبه المنظم أصلًا قبل أن يبدأ العمل. كل شيء في مكانه بدرجة لا تضاهى. مفعمٌ بالحماسة للإبداع والمبدعين الموهوبين.
أنا كائنٌ عَمَّانيٌّ. كان يردد جملته هذه في كل مناسبة ترد فيها «عَمَّان». في إشارة إلى مدينة عَمَّان التي يعشق. ولليوم لا تزال «عَمَّان» شاحبة وكئيبة من دونه، وخسارتي بالفقدان لإنسان فذ قبل كل شيء لا تعوض!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق