كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في النسوية الإسلامية المعتدلة
تنهض النسوية الإسلامية المعتدلة على أصول وجذور تركن إلى الإسلام الحنيف ذاته بالنظر إلى حضور المرأة منذ بدايات ظهور الإسلام. غير أنّ هذه النسوية، بوصفها تيارًا في التأويل ومن منظور حقّ المرأة في الاجتهاد، لم تأخذ في الظهور إلا بعد أربعة عشر قرنًا على ظهور الإسلام؛ وتعيينًا في الثمانينيات النازلة والتسعينيات الصاعدة من القرن العشرين.
واللافت هو طابع التزامن في ظهورها وعلى نحو ما تأكّد في عدّة أماكن في المجتمع الإسلامي العالمي؛ في الولايات المتحدة الأميركية وأوربا وآسيا وجنوب إفريقيا والمغرب والمشرق. ومن ثمّ شُسُوع الرقعة الجغرافية للتيار وفي الوقت ذاته تباعد الجغرافيات؛ وهو ما أضفى عليها خواص الثقافة أو خواص «الإقليم الثقافي» الذي يميّز كل بلد على حدة. فتركيا، مثلًا، أو إندونيسيا لا يمكنهما أن تكونا المغرب. مثلما أن تونس ليست هي المغرب أو مصر على الرغم من التقارب الجغرافي والثقافي. وفي ظل هذا المعطى الثقافي والهويّاتي التعدّدي، من حيث اللغة واللباس والمعمار… أو الثقافة عامة، «لم يعد ممكنًا تقليص المرأة المسلمة إلى وضعٍ عامّ مُوحّد» بتعبير النسوية المسلمة أسماء المرابط.
وستتبلور النسوية الإسلامية أكاديميًّا، وابتداءً، بالولايات المتحدة الأميركية التي ستحتضن أهمّ الناقدات والباحثات المسلمات في التيار. فدور الغرب كان حاسمًا في إظهارها؛ بكلام جامع: كانت النسوية الإسلامية محكومة بما يسمى بـ«الولادة المدرسية الغربية»؛ ثمّ إن أوّل مؤتمر عالمي لها سيكون بالغرب: إسبانيا (المجلس الإسلامي، برشلونة، 2005م). ولقد كان للغة الإنجليزية دور حاسم في ظهورها وانتشارها. وفي هذا السياق سترقى إلى أن تعلن عن نفسها في شكل تيار سيكون بدوره قرين خطاب جديد نابع من التوليف بين معرفة حالة الأنثى في العالم الإسلامي وإعادة قراءة ما كتبه علماء الدين الأجلاء من نصوص تحيد عن التأويل الذكوري الغالب وفي دلالة على «التراث المتواصل».
ومن ناحية التلقي أو التقبل في التعاطي مع النسوية الإسلامية، وعدا بعض الترحاب والقبول، فعدد من العلماء المعاصرين سينتقدون التيار بحجة افتقار الباحثات إلى «الكفاءة» في دراسة النص القرآني وتفسيره. إضافة إلى مدى تمكنهن من التاريخ الإسلامي الذي يستلزم الاطلاع على مصادر ومصنفات أخرى في مجال السير والتراجم والآداب. غير أن التيار سيلفت الانتباه إليه في ثقافات وجغرافيات متباعدة… وبخاصة في ظل العولمة، وبما وفّرته من إمكانيات التواصل «اللحظي» في بقاع العالم كله.
وعلى الرغم من هذه الشكوك فقد تمكّنت النسوية الإسلامية من فرض ذاتها داخل النسوية العالمية كلها، بل ارتقت إلى أن تكون جزءًا منها. ومَرَدّ ذلك إلى نبرتها التحليلية وخلفيتها الفكرية على نحو ما سيتضح مع مفكرات وناقدات وكاتبات أمثال الإفروأميركية أمينة ودود، والباكستانية أسماء بارلاس، والمصرية ليلى أحمد، والإيرانية زيبا مير حسيني، والباكستانية رفعت حسن، والأميركية كيشيا علي، والمغربية أسماء المرابط… وغيرهن. وهذه الأسماء تكتب وتحاضر وتتداخل باللغات الأجنبية؛ الإنجليزية أوّلًا ثم الفرنسية.
مفكرون يدعمون النسوية
كما لا ينبغي، في سياق التشكل والامتداد، التغافل عن دخول باحثين ومفكرين متنورين إسلاميين على خط دعم هذه النسوية من أمثال المفكر الأردني فهمي جدعان الذي سيخصص جزءًا مهمًّا من كتابه «خارج السرب- بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية» (2010م) للنسوية الإسلامية أو «النسوية التأويلية» كما يسميها. وذلك من خلال التركيز على فاطمة المرنيسي التي كانت «أوّل من أبرز النسوية الإسلامية» من خلال كتابها «الحريم السياسي» الذي كانت ترجمته للعربية «رديئة» بتعبيره، ثم تركيزه -اعتمادًا على أسلوب العرض والنقد- على «التأويلية الإسلامية» في أبرز صورها عند ثلاث مفكرات وباحثات مرموقات سلفت الإشارة إليهنّ؛ وهنّ أمينة ودود، وأسماء بارلاس، ورفعت حسن. ونجده يميّز بين أربعة تيارات ضمن النسوية في المجال العربي والإسلامي. يشرح الفكرة قائلًا: «إلى يمين هذا المحور تقع نسوية يمكن أن نطلق عليها «النسوية الإصلاحية»، وإلى يسار هذا المحور تقع نسوية يمكن أن نسميها «النسوية الرافضة». وعند وسط المحور نلتقي بما يمكن أن نسميه بـ«النسوية التأويلية». أمّا المنظور «السلفي» الاتباعي في أمر المرأة فيقع خارج الأشكال التي تطيق مفهوم النسوية» (ص35). ورأيه، بعد هذا التصنيف، «أن النسوية التأويلية ترقى إلى مرتبة منظور نسوي إسلامي وإنساني جدير بالزمن الراهن المنظور» (ص255).
كما يستوقفنا، ضمن مراجع النسوية الإسلامية الذكورية المساندة، المفكر المغربي الإصلاحي أحمد الخمليشي الذي تكنّ له فاطمة المرنيسي احترامًا كبيرًا، بل نجدها أقدمت على ذكره في مقدمة الترجمة الإنجليزية لـ«الحريم السياسي»؛ بل خصّته بـ«العالم مولاي أحمد الخمليشي». والرجل صاحب رؤى تجديدية بخصوص القوامة والولاية في مجال موضوع المرأة في إطار البحث الفقهي والمنظومة الفقهية، ومن الدعاة إلى الاجتهاد -تصوّرًا وممارسة- في الدين الإسلامي وتحديدًا في كثير من القضايا الفقهية والدينية التي تهمّ الخطاب الإسلامي عمومًا والفقهي خاصة، ومن المدافعين عن انفتاح العقل الفقهي على الواقع ومتطلباته ومواكبته للقضايا الراهنة. هذا بالإضافة إلى مناداته بـالانفتاح على العلوم الإنسانية وتعلّم اللغات الأجنبية.
وثمة من يتصوّر أن ارتباط المرنيسي بهذا المفكر، إلى جانب المفكر عبدالرزاق مولاي رشيد صاحب كتاب «المرأة والقانون في المغرب» (بالفرنسية، 1991م)، وفي إطار الاشتغال على قوانين الأسرة في المنطقة المغاربية، كان له تأثيره في مستوى انعطاف دراسة الحريم نحو النسوية الإسلامية. وهي تقرّ بأفضاله على كتابها «الحريم السياسي» الذي يعدّ مرجعًا أساسيًّا في النسوية الإسلامية.
استجابة لحالة مُلِحّة
وعلى الرغم من الاختلاف في تقويمها، فقد كانت النسوية الإسلامية «استجابة لحاجة مُلِحّة» كما تدرس ذلك المؤرّخة والدارسة النسوية المصرية مارغوت بدران في دراسة مستفيضة ومنهجية لتيار النسوية الإسلامية ومراحلها. وتستهل الدراسة بأن هذه النسوية حرصت على الظهور والتشكّـل من داخل الإسلام ومن خلال البحث في أعماق النص القرآني عن رسالة المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية. وهو ما يشرح عودة الباحثات إلى البدايات الأولى أو التعاطي مع موضوع المرأة، في المرحلة الأولى من الإسلام، بغية تثمين التجربة النبوية النسوية المليئة بالحب والعطف على النساء… إلخ.
فالتأويل، أو المنحى الهرمينوطيقي، مرتكز أساسي في النسوية الإسلامية. ومن ثمّ المقارنة بين فاطمة المرنيسي وأمينة ودود ذات الأبحاث ذائعة الصيت في مجال النسوية الإسلامية ولا سيما كتابها «المرأة والقرآن» (1999م) الذي يعنى بإعادة قراءة النص المقدس من منظور نسوي. وهي تراهن على الإسلام في شكله الأصلي الذي هو دين يقوم على المساواة بين المرأة والرجل، ودين نشأ على المساواة المتضمنة في النص القرآني.
ومنظور النساء، المعتمد في النسوية الإسلامية، شامل طالما أنه يراعي عنصر الثقافة وشروط المجتمع. والمدخل لذلك كلّه هو صنف من «الهرمينوطيقا الإسلامية النسائية» أو «الهرمينوطيقا القرآنية» باصطلاح أسماء بارلاس صاحبة الكتاب الشهير في النسوية الإسلامية بعنوان: «المؤمنات في الإسلام» الذي يطمح بدوره إلى إعادة قراءة التأويلات الذكورية للنص القرآني.
والملحوظ أن أمينة ودود، رغم شهرتها، كانت عُرضةً للنقد؛ واللافت من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها. فاطمة المرنيسي بدورها تعرضت لانتقادات رغم أنها اعتمدت الأسماء الكبرى في التاريخ الإسلامي: ابن قتيبة، ابن عساكر، الزمخشري، العماد الأصفهاني، البخاري، الطبري، ابن سعد، الذهبي، الصفدي. مضمون النقد الموجَّه لها أنّها لا تعطي المرأة، في نطاق «الحق في التأويل»، الثقلَ ذاته مقارنة مع أمينة ودود.
الباحثة النسوية المغربية أسماء المرابط عبّرت بوضوح عن الفكرة، بل عارضتها في الوقت ذاته. تقول في حوارها سالف الذكر: «صحيحٌ أنّ هنالك سورةً (في القرآن الكريم) تُركّز على النساء، لكنّ 90٪ من الآيات القرآنية تتحدّث عن الإنسان بشكل عام، متجاوزةً موضوع الجنس. أشعرُ بالفزع عندما أرى كم تُحدّد النساء لأنفسهنّ وضعًا مِعياريًّا». لكن ما أسرع ما تستحضر ما يحصل في ساحة التأويل من هيمنة ذكورية عندما تقول: «واليومَ كلُّ أعمالِ التفسير تتمّ على يد رجال يُنتِجون تفسيرًا جنسانيًّا للقرآن». لكن في مقابل ذلك هناك من يتصوّر أن عظمة الإسلام أو التاريخ الإسلامي لا يتقبّل مقولة «الفقه الذكوري» و«القراءة الأنثوية»؛ فهما لا يصلحان أن يكونا نموذجين للتفسير والمعرفة في سياق العلوم الشرعية، وهما من باب الإسقاط لفكرة الجنوسة (أو الجندر) النسوية على التاريخ الإسلامي.
حذر مع المنتوج الغربي
ويشهد للنسوية الإسلامية كشفها عن نوع من الحذر في التعاطي مع المنتوج الغربي، وكذلك كشفها عن نوع من الثقافة العربية الأصيلة. كما أن الجديد فيها، وعلاوة على مفاهيم التأويل والهرمينوطيقا بشقيها المنهجي والفلسفي، هو الإفادة من مناهج العلوم الإنسانية ونظريات العلوم الاجتماعية وتوجّهات الدراسات النصية واللسانية. والآن، وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود في عمر النسوية الإسلامية، فإنه يمكن التمييز داخلها بين تيارين: تيار الباحثات المسلمات الناطقات باللغة الإنجليزية (والفرنسية على نحو أقل) وتيار الباحثات من الكاتبات باللغة العربية. والفرق بينهما قائم إلى حد تلافي بعض الكاتبات استعمال تسمية «النسوية الإسلامية» في العالم العربي.
وبالإجمال لا ينبغي تلخيص النسوية الإسلامية في مجرد «تقليعة من تقليعات العصر»، أو «إسقاطات معرفية»، أو «تلفيقات جندرية»، أو «خطاب موجّه للغرب»، أو غير ذلك من الأحكام التي جوبهت بها. فعناصر التميّز والإضافة واردة فيها وبخاصة من ناحية تلافي السقوط في «النسوية الإلكترونية»؛ وهذا في مقابل التشديد على «المعرفة» ذاتها من منظور يصل ما بين قيم الإسلام وقيم الحداثة. وهو ما جعلها تسهم في نوع من الاستجابة لواقع المجتمعات العربية بعيدًا من تلخيص المعركة مع الرجل بصفة عامة والرجل التقليدي بصفة خاصة. وربما كان الرهان، في النسوية الإسلامية، في مزيد من تصدي الباحثات المسلمات للإسلاموفوبيا المتزايدة في الغرب الأورُأميركي.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق