كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
وجهة الثقافة في عصر من الشك والفوضى
ما زال كِتاب ألفين توفلر «صدمة المستقبل» الذي صدر عام 1970م يُستحضر على نحو متواصل في وصف حالة الشك والتغير الكبير لدرجة الفوضى في التقنيات والأعمال والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاتجاهات الاقتصادية والفكرية؛ التي تغير بعمق في عالم وحضارة عصر الصناعة؛ رغم العدد الذي يصعب إحصاؤه من الكتب والدراسات والروايات والأفلام التي صدرت في السنوات الخمسين الماضية عن الثورة الصناعية الرابعة. يفكر المثقفون والمفكرون والأدباء إلى جانب السياسيين والمخططين في حيرة وشكّ في عالمنا الذي يتشكل؛ ولم يكتمل، وحاضرنا المتصدّع، لكن يبدو أن عدم الاكتمال صار هو الحقيقة الأكثر وضوحًا وحضورًا في التفكير والتخطيط كما الثقافة والآداب والفنون بطبيعة الحال.
إن الثقافة بما هي وعي الذات تنشئ فيما تقوم عليه من إبداع وخيال خطة طريق للأفراد والمجتمعات والدول والأسواق والمؤسسات، لكنها في ذلك ليست مستقلة عن العالم المحيط بها، وكما يقول الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان (1911– 1980م) نصنع ونطور الأدوات، لكنها أيضًا تحدد ثقافاتنا وهوياتنا، وتخبرنا من نحن. وبطبيعة الحال فإن موجة التقنية الحديثة في سرعتها وتغيرها تجعل وعينا وخيالنا غير المستقل عنها يحمل طابع التقنية في تحولاتها وتسارعها، ثم ننشئ بثقافتنا ووعينا غير اليقيني أدوات وتقنيات يتسرب إليها الشك والفوضى.
لم تعد العلوم اليقينية الراسخة تنشئ التقنية، إنما الاحتمالات وعدم الوعي والإدراك والتداعيات التي لم نُفِقْ بعد من صدمة الوعي بصعوبة وربما استحالة الإحاطة بها؛ عندما أدهشنا فرويد بأن الإنسان يسلك ويفكر ثم ينشئ عالمه وحياته بدوافع وأفكار عميقة وعقل باطن لم نفهمه بعد تمام الفهم، ولا نتحكم به، بل إن اطلاعنا عليه يزيد عدم معرفتنا. ثم صدمنا الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل؛ فيرنر هايزنبيرغ (1901– 1976م) بأننا لا نملك سوى «عدم اليقين» لفهم الظواهر والأشياء، ليس بسبب نقص المعرفة ولكن لأنها وجدت على نحو يستحيل معرفتها، ولأنها تتغير باستمرار، ولا تتجاوز معرفتنا سوى اللحظة التي نراقب فيها الظاهرة، لكن (ويا للهول!) فإنها تتغير باستمرار، بل إن مراقبتنا لها تغيرها!
وهكذا فإن الثقافة أنشأت وبسرعة وكفاءة مدهشة حول هذا المخيم العالمي الجديد المؤقت وغير الواضح وغير المستقر، الذي لجأت الأمم جميعها (تقريبًا) إليه، عالمًا من التكيف والاستقرار والصناعات والأدوات. ولو تأمل اليوم أحد من المثقفين من جيل السبعينيات وما قبل فسوف يتذكر قدرًا كبيرًا من الأفكار والأشياء والأدوات وكذا القيم والاتجاهات الزائلة والمرتحلة، وأخرى تحلّ وترحل بسرعة، ثم بالإيقاع السريع اللاهث نفسه ظهرت واختفت أعمال فكرية وأدبية وفنية كثيرة جدًّا. واختفى مع الاحترام والتقدير زمن نحسبه جميلًا مليئًا بالإبداع وأسلوب الحياة والفكر والعلاقات والعمل. حتى في السنوات القليلة الماضية احتفينا بأعمال أدبية وفنية كثيرة، ثم اختفت بسرعة، وكأنها لم تكن سوى مهرجان بديع من الألعاب النارية الزاهية والمبهرة. هل يقرأ أحد اليوم روايات باولو كويلو؟ ويمكن أن نسأل السؤال نفسه عن الأفلام والدعاة وتنمية الذات والبرمجة اللغوية والتدريب في اتجاهات ومهارات ظهرت ثم اختفت.
منظومة راسخة من القيم
يمكن، وعلى نحو نكاد نتفق عليه، أن نلاحظ منظومة راسخة من الثقافة والقيم والفلسفات والأفكار التي تحيط بعالم اليوم، وأن ما يتغير من المنتجات والسلع والأشياء والاتجاهات إنما يتحرك في إطار يكاد يكون ثابتًا ومؤسسًا لعالمنا الجديد والمدهش، الذي لسوء حظنا (أجيال السبعينيات وما قبل) لن يتاح لنا أن نشهده في نضجه وبهائه، ولكن يرجح أن الذين سيكونون أحياء في منتصف هذا القرن وما بعده، ويملكون الوعي والقدرة على تذكر عالم ما قبل تسعينيات القرن العشرين الذي يمكن الإشارة إليه بلحظة انهيار جدار برلين (1989م)، سوف يكونون مصدرًا مدهشًا وملهمًا للشباب والناشئة الذين سوف يولدون في السنوات القادمة، ولم يعرفوا عالمًا سوى ما نصفه اليوم بالشبكية أو الثورة الصناعية الرابعة.
لقد أسست جائحة كوفيد 19 لهذا العالم المتشكل، وسوف تكون لحظة تاريخية فاصلة بين عالمين بدأنا نلاحظ بداياتها في التعليم والعمل والتسويق من بعد، لكن ذلك ليس سوى تطبيقات بدائية لعالم أكثر تعقيدًا وحبكة، من العمل والتواصل والحياة، وما لدينا اليوم من أدوات ومدخلات للتأمل والخيال هي من مرحلة التطبيقات هذه التي نعيش بداياتها، والتي تكون نسبيًّا ساذجة وانتقالية.
يصعد الفرد اليوم وغدًا، وتؤسس الفردانية للعالم في الفلسفة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. فهذا الفرد الذي يتعلم ويعمل من غير مؤسسات ومبانٍ وأسواق ومدارس وجامعات، يتحول هو بفرديته إلى ضامن للقيم والقانون بدلًا من أو مع المجتمعات والمؤسسات التنظيمية والعامة للدول والمجتمعات، وينشئ ذلك بطبيعة الحال متوالية من المنتجات والسلع والتقنيات المعدة للفرد أو تستمد أهميتها وانتشارها من الفردانية.
فعلى سبيل المثال قد ظهرت الدراجة الهوائية والآلة الكاتبة في أواخر القرن التاسع عشر، على الرغم من أن إمكانية إنتاجها وتصنيعها كانت ممكنة تقنيًّا قبل ذلك بمئات السنين، وقد ظهرت المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، وظهرت العجلة قبل آلاف السنين، لكن العالم الذي كان يحتكم وينظم نفسه إلى قيم جماعية حازمة ودقيقة، لم يَدَعْ للفردية مجالًا لتؤثر في الحياة والتقنية كما الفكر والسياسة. وكانت الدراجة والآلة الكاتبة في محدوديتهما وضعفهما برغم أهميتهما وجاذبيتهما يعكسان مدى حضور الفرد والفردانية في الحضارات والمجتمعات. والمطبعة نفسها كان يمكن أن تظهر قبل عام 1435م بكثير، فقد كانت تقنية الألواح التي تنشئ نسخًا مكررة مطبقة في الصين قبل ذلك بمئات السنين، لكن صعود الشغف بالعلم والمعرفة به وتطور المؤسسات التعليمية أنشأ أسواقًا مزدهرة للثقافة والعلم، وهذه أنشأت المطبعة. وكان البارود معروفًا في الصين كما عرفه العرب أيضًا، لكن لم يطور إلى سلاح منظم إلا في مرحلة متأخرة وبإغواء حركة الكشوف الجغرافية والنزعة إلى الهيمنة على الأسواق والطرق التجارية، وكانت قبل ذلك ولمئات بل آلاف السنين تنظم نفسها على نحو اجتماعي ومدائني لا يحتاج إلى القوة المهيمنة.
نشوء الدولة المركزية
طريق الحرير ظلت نحو خمسة آلاف سنة توحد العالم وتؤمن السلع والخدمات للعالم من خلال شبكة عملاقة وذاتية التنظيم من التجار والمدن والقوافل والسفن والطرق والبريد. لكن مع نشوء الدولة المركزية بدءًا من القرن السابع عشر أو منذ معاهدة وستفاليا (1648م) بدأت تنشأ الجيوش الأكثر تنظيمًا والصناعات الحربية المعقدة، لقد كانت الحرب في قسوتها وتدميرها منجزًا علميًّا وحضاريًّا! وكانت قبل التقدم العلمي والتقني صراعات محدودة وقليلة الكلفة والخسائر، بل لم تكن موجودة في كثيرًا من المجتمعات والحضارات المسماة اليوم بدائية!
وفي عالم الحرب نفسها ظهر السلاح الفردي الناري متأخرًا نسبيًّا، فقد كان الشعور بالحاجة إليه قليلًا أو معدومًا في عالم السيف والفروسية حتى بعد استخدام المدافع لمئات السنين؛ لأن الفرد نفسه لم يكن شأنًا مركزيًّا في عالم الجيوش والدول والمؤسسات المركزية والمنظمة تنظيمًا جماعيًّا.
وظل اللباس حتى أوائل القرن العشرين يعكس انتماءات جغرافية وطبقية ومهنية، ولم يتحول إلى أسلوب حياة فردية إلا في العقود القليلة الماضية، ويشهد اليوم تحولات كبرى تعكس صعود الفرد ومزاجه؛ مثل طبيعته الزوالية في التصنيع والاستخدام، أو الإضافة المميزة في التصميم أو العلامة الخاصة بمستخدم واحد. وبالطبع فإن «الموبايلات» والأجهزة الحاسوبية واللوحية المتحركة في سيادتها اليوم تعكس سيادة الفرد نفسه، وقيم وفلسفة الفردانية، ومنهجية إدراك حقائق الأشياء وتقويمها بناءً على فلسفة الفرد الذي يقرر وجهة الصناعة والتجارة والمعرفة والمؤسسات.
ثم أنشأت الفردية عالمًا من المساواة غير المسبوقة تعكسها بوضوح وبداهة شبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت لكل فرد مستقلًّا بذاته أدواته الخاصة في التواصل والتأثير والتعبير بمعزل عن المؤسسات الإعلامية المركزية التي تحولت هي أيضًا لمجاراة النزعة الفردية في الاستهلاك والثقافة والمزاج، لكنها تترنح اليوم تحت وطأة نِتفلِيكس وغوغل وفيسبوك وتويتر وأمازون، التي لم تعصف فقط بعالم الإنتاج والنشر والثقافة، وإنما تنشئ عالمًا جديدًا متوافقًا مع الفرد نفسه وقيم المساواة المطلقة، التي تجعل كلَّ فردٍ متصلٍ بالشبكة على قدم المساواة مع المؤسسات المركزية والعملاقة في الإعلام والسياسة والفكر. فعندما يخبرك إنستغرام في رسالة واحدة أن سارا (حفيدتك الصغيرة) وناسا وناشونال جيوغرافيك والبنتاغون قد أدرجوا صورًا جديدة، تشعر بالتأكيد أن سارا والبنتاغون متساويان!!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق