كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«طبيب أرياف» لمحمد المنسي قنديل
ثيمة الرحلة والريف بين الواقع والماضي
يتشكل العالم الروائي في معظم روايات محمد المنسي قنديل من موقف وجودي متأزم يتعرض له البطل الراوي الذي يدلف القارئ إلى عالمه، عبر حكاية أساسية تنفتح مثل فوهة صغيرة، ثم تتسع وتتمدد رقعة أحداثها لتطغى على واقعه كله. هذا ما يمكن ملاحظته في رواية «قمر على سمرقند» مع بطله «علي» الذي يرتحل من عالمه الساكن في القاهرة ليبحث في مدينة «سمرقند» عن أسرار قديمة محجوبة عنه، يخوض غمار رحلة عصيبة بحثًا عن صديق لوالده كي يكشف له الماضي. إن ثيمة «الرحلة» ومعالمها المجبولة على غموض المجهول والانتظار والتيه، والواقع العشوائي لمحطات السفر بما فيها من سائقين ومسافرين ومارّة عابرين، يُمثل محورًا لانطلاق الرواية، هكذا يكون على البطل «علي»- وهو الاسم الدائم لأبطال قنديل في معظم رواياته- أن يخوض صراعات ومفاوضات بديهية للوصول إلى غايته. رحلة «علي» إلى سمرقند يمضيها مع «نور الله» السائق الغامض الذي يتقن العربية.
أما رحلة «علي» في «طبيب أرياف» (دار الشروق- القاهرة) من القاهرة إلى الصعيد لا تقلّ ألمًا واغترابًا عنها من رحلة سمرقند، حيث يمثل هذا الارتحال في روايات صاحب «انكسار الروح» خلخلة للثوابت، بل زوالًا لواقع ما وانشطاره إلى ما قبل وما بعد، ثمة عالم متروك، وآخر يمضي البطل نحوه في مسار يختلط فيه الاختيار والإجبار. يعود صاحب «أنا عشقت» من التاريخ الذي خاض غماره في «كتيبة سوداء» ليغوص في عمق الصعيد المصري، كما فعل في نصه «يوم غائم في البر الغربي».
في رواية «طبيب أرياف» لم يختر الدكتور «علي» رحلته طوعًا، بل فُرضت عليه قسرًا في قرار استبعاده أو نفيه من القاهرة، بعد خروجه من المعتقل. وانطلاقًا من اللحظة التي يقف فيها داخل محطة الأتوبيس ليبحث عن وسيلة تنقله إلى القرية التي يجب عليه الوصول إليها، سوف يتغير عالمه وينسحب الماضي من تحت أقدامه، ويحلّ واقع جديد مغاير يحمل بصمات المعاناة والشقاء الموسومة بها معظم التجارب المشابهة.
دلالة العنوان والغلاف
العنوان في الرواية «عتبة» لدخول النص، يمكن القول: إن المنسي قنديل واجه تحدّيًا كبيرًا في «طبيب أرياف» التي يستدعي عنوانها رواية توفيق الحكيم «يوميات نائب في الأرياف»، حيث التناص في العنوان ومفهوم الارتحال المكاني الإلزامي من المدينة للريف والتسلل إلى ما بينهما من هوة متسعة. أما غلاف الرواية التي نتناولها، والدلالة البصرية له في احتلال اللون الأسود مساحة كبرى، مع وجود حقيبة أدوية في أسفل الغلاف، واختيار اللون الأبيض لإبراز التناقض بين الأرضية السوداء والعنوان، فإن القارئ يتمكن بعد انتهائه من الرواية من إدراك السبب لحضور هذا السواد في الأرضية التي تُعبر عن محاكاة سافرة للواقع العبثي الظالم الذي لا يحتاج لأي فانتازيا كي تُظهر مدى سوداويته.
يتكون المعمار الروائي في «طبيب أرياف» من اثني عشر فصلًا، ويمضي السرد بالضمير الأول على لسان البطل الطبيب «علي»، فالأحداث كلها يرويها عن مرحلة من حياته أمضاها داخل وحدة صحية في قرية نائية، وهناك يواجه العبث مجسمًا في مجموعة من المفارقات الغريبة للطبيب، لكنها تُعبر عن قانون المكان وآلية سيره، فهو محكوم منذ العصر الفرعوني للحكام والكهنة والتجار، هذا المفهوم العتيق في التاريخ ما زال يسري واقعًا حيًّا يتمثل في سيرورة الأحداث التي لم يتمكن «علي» من التصدي لها، بل إنه يضطر للاستسلام لقانون اللعبة. ومنذ الصفحات الأولى من الرواية يُلامس القارئ إحساسًا بالتورط مع مصير البطل الذاهب مُكرهًا إلى المجهول.
ليست فقط ثيمة الرحلة الحاضرة بقوة في كتابة المنسي قنديل، بل الأبطال الغارقون في حالة من الضبابية والعجز ورغم ذلك يواصلون المضيّ في مسارهم، محاولين بجهد متعثر الانتصار لأحلامهم. عند وصول الطبيب ليلًا للوحدة الصحية العائمة في الظلام تستقبله مجموعة من الفئران حين يقوده مساعده في الوحدة «بسطويسي» إلى غرفته في الدور العلوي، مع وعد بتنظيف الغرفة وطرد الفئران في الصباح. انطلاقًا من هذا الحدث الواقعي ظاهرًا، الرمزي ضمنًا تتعاقب سلسلة من المفارقات الغريبة بالتزامن مع حضور شخصيات ومغادرتها مسرح الحدث، كي يكتمل تشكيل الإطار العام للمشهد؛ هذا ينطبق على مجمل الشخصيات الثانوية، إذ على هامشيتها فإنها تبني أمام عين القارئ حجرًا رئيسًا لإدراك المكان والأشخاص، هذا ينطبق مثلًا على شخصية «الصقر» و«العمدة وزوجته» و«أبينوب» و«دسوقي» وغيرهم من الشخصيات.
الحضور النسوي
يرتبط حضور المرأة داخل الرواية عند البطل «علي» بحالة توسل السعادة عبر التقاء روحي وجسدي مرتجى، وهذا يحضر بشكل واضح في علاقته مع الممرضة «فرح»، أيضًا في المونولوج الداخلي لعلاقته مع حبيبته السابقة «فاتن». واجه علي فشل العلاقة مع «فاتن» بسبب السجن والاعتقال الذي تعرض له وأدى إلى وصوله للصعيد، في المقابل تواجه فاتن تحقيقات ومطاردات من رجال الشرطة عن علاقتها مع علي، وهو ما يؤدي بها إلى اتخاذ قرار إنهاء العلاقة والارتباط برجل آخر. إذن يُخفق علي في قصة حبه بسبب السياسة أيضًا، ويعود إلى وحدته وخوائه العاطفي والجسدي.
أما فرح، الممرضة الشابة المتزوجة التي تعمل معه في الوحدة الصحية، فإن تورطه في الدخول معها في قصة حب تؤدي إلى حملها بجنين منه، تبدو العلاقة معها إشكالية منذ البداية؛ بسبب وجود تقاطعات اجتماعية ونفسية محكومة بها ضمنًا، ثم اختيار الكاتب تقديم كل صراعات وتناقضات المرأة عبر شخصها، مع ضرورة الإشارة عند الكلام عن شخصية فرح لوجود «وعي فطري» عندها يبدو في بعض العبارات أعلى من مستوى شخصيتها كأن تقول واصفة حال القرية: «الموت في بلدتنا سهل، نحن نموت لأسباب تافهة؛ لذا فإنقاذ روح من الموت عندنا هو فعلًا معجزة حقيقية». هذه الجملة تُطلقها فرح رغم أنها لم تغادر بلدتها قط، وحين ذهبت لدراسة التمريض قصدت بلدة مجاورة، لم تطأ قدماها القاهرة أو أي مدينة أخرى، بل إنها تعرف أن حياتها كلها سوف تمضي في بلدتها النائية كي تحيا وتموت فيها، لكن على الرغم من ذلك وفي أكثر من موضع تبدو فرح مثل العارفة لكثير من حقائق الحياة. في مقابل ذلك يبدو «الوعي» المسيطر على شخصية الجازية الغجرية متوافقًا مع تشكيل المنطق الواقعي في البناء الفني لشخصيتها ضمن كل أبعادها لامرأة غجرية رحالة، وساردة لسيرة «الهلالي» في ليالي الغجر.
الدلالات الفنية
ثمة بعد تخييلي في «طبيب أرياف» لا بد من التوقف عنده، حيث تقوم عليه الحبكة الفنية المتخيلة. على الرغم من أن روايات المنسي قنديل تعتمد على محاكاة جلية للواقع، فإن تفكيك الأحداث والتفاصيل التي ينتقيها من جوهر الحياة الخصب والحافل هو ما يشكل الميزة الرئيسة في رواياته، حيث تضفير الحكاية بالمخيلة، والحس الباطني للأبطال، واختياراتهم التي تعكس ميلًا إلى التحدي من ناحية، وإلى انكسار عميق من ناحية أخرى يشكل النسيج الحي للنص.
العالم الروائي المقدم في «طبيب أرياف» هو صعيد مصر، بلدة نائية جمعت في بنيانها كل أنواع القسوة الإنسانية التي من الممكن أن تسحق الفرد في بوتقتها، صراعات السلطة والدين والثأر والانتقام ورقابة المجتمع وسحقه للفرد جاثمة بقوة، لكن وسط هذا كله كيف يمكن التفكير في الحب، في الجنس، في الغناء، في الترانيم، والأناشيد والحكايات. تحضر هذه الأبعاد في معظمها عبر تقاطعات البطل السارد مع الشخصيات النسوية في العمل.
هذه اللحظات المقتطعة من الزمن، بل في معظم لحظات التواصل الإنساني في النص بين البطل السارد علي ومعظم الأبطال رجالًا ونساءً تميل إلى الصدق، تحديدًا في المحاولة المستمرة للمواءمة ما بين داخل الذات وخارجها. ومن خلال ما يرومه البطل من إحداث تآلف بين ذاته والعالم، فإننا نراه لا يستنكف الكشف عما ينتابه من لحظات ضعف وسقوط. يحمل الضعف الإنساني في هذا النص جماليات عالية؛ لأنها تخلو من الافتعال والادعاء والزيف. الأوقات التي ينكسر فيها البطل ويقف عاجزًا أمام السلطة المطلقة للمجتمع كثيرة في النص، وعاكسة بدقة لانهزامات الذات وجروحها ومرارتها، حين تختار الصواب وتعجز عن القيام بيقينها الخاص، الأمثلة على ذلك في علاقته مع الجازية، المرأة الغجرية التي تتعرض للاغتصاب من رجال الشرطة ومحاولته علاجها ومساندتها بكل الطرق، هناك أيضًا تفاعله مع قصة السيدة جليلة المرأة الأرملة المسلمة وتورطها مع أبينوب الخياط المسيحي، لكن تبدو قصته مع فرح بكل ما فيها من تناقض تتويجًا للصراع الإنساني بين الحب والرغبة في الامتلاك، وربما قليل من الشر أيضًا. لا تبدو الذات منزهة عن الخطايا في «طبيب أرياف» بل إن الكاتب كان حريصًا على تبيان الصراعات النفسية وتعريتها وتقديمها بمنظور مجرد يعكس دلالاته المستقلة عن الأحكام المسبقة.
بدأت الرواية بصراع الرحلة والمنفى الإلزامي، ثم تشعبت إلى صراعات أخرى، وانتهت في تشابك حزين لمصاير الأبطال المفجعة، كأن هذه الفجيعة هي الثمن الفادح لاختياراتهم المناقضة للمجتمع، كما هو الحال مع شخصية جليلة، أيضًا فرح وزوجها. في المقابل هناك تأكيد رسوخ السلطة بكل أشكالها وانكسار «الأنا»، مهما حاولت التمرد وتحقيق مرادها. في مقابل رحلة الطبيب إلى الصعيد التي افتتح بها الرواية، هناك رحلة النكوص التي يقوم بها في الصحراء مع مأمور الشرطة وعساكره والجازية، رحلة مواجهة الموت واكتشاف مدى الهوان الذي يرزح تحته البشر، لنقرأ: «يشير للعساكر الموجودين في العربة الكبيرة، يهبطون وهم يحملون أكفانًا بيضاء ناصعة مثل الرمل الذي نقف عليه، كانوا يعرفون منذ البداية أنها رحلة للموتى».
انزياح الزمان والمكان
يبدو الزمن سائلًا في «طبيب أرياف»، غير محدد بدقة، الإشارة إلى زمن السبعينيات في بداية الرواية، ثم الانتقال إلى ذكر حادثة اغتيال الرئيس السادات التي وقعت في السادس من أكتوبر عام 1981م، والتوقف أمام حدث الانتخابات الصورية التي أدت إلى قدوم الرئيس حسني مبارك، سبَّبَ تشويشًا للقارئ في تساؤله عن المدة الزمنية التي أمضاها الطبيب في الصعيد، رغم أن الإشارات الزمنية وسياق الأحداث توحي كما لو أنها عدة أشهر، لا سنوات.
في مقابل هذا، تبدو الإشارات إلى الأماكن، وكما في معظم روايات المنسي قنديل، مؤثرة وحاضرة بقوة في كل التفاصيل الصغرى والكبرى، بداية من وصف القرية وبيوتها ونوع المعمار المتجاور الذي يسكن فيه أهالي البلدة، ثم وصف غرفته في الوحدة الصحية، أيضًا وصف غرفة الفندق الذي نزل فيه ليلتين في البلدة المجاورة، الحديث عن الشوارع ومحطات السفر وما تعج به من صخب. إن براعة قنديل في الوصف الجغرافي الدقيق والحيوي يمكن عَدّه من الركائز الأسلوبية المهمة في سرده، وهذا ينطبق على مجمل أعماله الروائية، حيث يتمكن القارئ من المشاركة في تخيل الأماكن التي يتحدث عنها، بل إن قدرته السلسة على تصوير المكان وربطه بأسلوب فعّال مع الحدث الرئيس وتحركات الأبطال يُسهم في تدعيم سياق «الرواية-الحكاية» في بنائها القائم على التصاعد والتشويق من البداية إلى النهاية.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق
Trackbacks/Pingbacks