كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«الكتابة والزمن» جديد أحمد بوقري
دراسات مفتوحة على التأمل الفكري والنقدي
عدد من الأسئلة يضعنا أمامها كِتاب القاص والناقد أحمد بوقري «الكتابة والزمن- في الراهن واليومي واللحظي»، الصادر مؤخرًا عن دار «خطوط وظلال» الأردنية، الذي قسمه كما يتبدى من العنوان إلى ثلاثة أقسام هي (الراهن واليومي واللحظي)، هذا التقسيم الزمني لم يكن مطلقًا بقدر ما كان محددًا بفعل الكتابة ذاته، ومن ثم كان لابد أن يتوقف بوقري أمام فكرة الزمن وتقسيماتها عندما قرر أن يضع عنوانًا لكتابه. ويبدو أن هذا التوقف جعله ينتج واحدًا من أبدع الفصول النقدية والفكرية في الكتاب، فمن النادر أن توجد في الثقافة العربية كتابات تأملية حول فعل الزمن وعلاقته بالكتابة، يقول بوقري: «طرأت في ذهني فكرة البحث عن معنى الزمن في الكتابة وأنا بصدد وضع عنوان لكتابي النقدي هذا، حينها غمرني فيض الزمن.. فيض الوجود، وتصدعات الكينونة المتماسكة، ولفحتني موجة جافة من الغياب أحدثت خدوشًا في الذاكرة، فانسابت التأملات والتداعيات الفكرية كما لم تَنْسَبْ من قبل، وأخذ الزمن يعلن ثقله الماثل على لوحة الكتابة الباسقة».
وضع بوقري إطارًا جامعًا لشتات الدراسات التي جمعها بين دفتي كتابه، تلك التي تباينت ما بين دراسات نقدية وشهادات إبداعية وأخرى عملية وتأملات فكرية وحوارات صحفية، التي وُزّعت على أقسام الزمن التي حددها في العنوان. في هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام نوع جديد من الكتابة وذكاء شخصي من الكاتب؛ حيث إننا أمام كتابة مفتوحة على التأمل الفكري والنقدي، أكثر منها قراءة لنصوص أدبية سواء لدى درويش أو الدميني أو فوزية أبو خالد أو محمد علوان أو غيرهم، وهي الكتابة التي تنحو تجاه الرؤية الفلسفية التي عز وجودها في واقعنا العربي.
في المقدمة النظرية التي أعدها بوقري عن الكتابة والزمن تساءل إن كانت الكتابة تشيخ أم لا، وتوصل إلى أن هناك كتابات خالدة لا تشيخ مهما تقدم بها الزمن؛ لأنها تحمل من غزارة اللغة والمعنى ما يجعلها قادرة على تخطي حدود الزمن النفسي والزمن المعيش مدة كتابتها، مشيرًا إلى أن هناك كتابات يستنفدها الزمن سريعًا؛ لأن ما تحمله من لغة ومعنى لا يتجاوز زمن كتابتها. وقسم بوقري لعبة الزمن مع الكتابة إلى ثلاثة أزمنة؛ الأول هو الزمن النفسي الذي يستحضره الكاتب سواء من الماضي أو من المستقبل، والزمن المعيش الذي يكتب فيه نصه، والزمن التاريخي الذي تعيش فيه الكتابة باحثةً عن خلودها، لكن ذلك، كما يذكر، لا يتوافر إلا للكتابات صاحبة المكونات الغزيرة في اللغة والمعني، وهو ما يجعلها تتجاوز المدة التي كتبت فيها إلى مُدَد وأجيال قادمة، وقد تصبح كتابة خالدة مثل الإلياذة والأوديسة.
لم ينسَ بوقري أن يكشف عن مفهومه لحلقات الزمن التي حددها في عنوان الكتاب قائلًا: «عند قولي بالراهن فأعني اختزاله لليومي واللحظي والماضي القريب، وعند قولي باليومي فإني عنيت به ألا أنظر لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل، فأجزئه في ساعات قليلة تحتفي بها الكتابة في سيرورتها، ففي الكتابة يتم تقطيع الزمن إلى أزمنة متعددة لا تخلو أبعادها من لحظات التقاطع والتجاذب والتنافر والتصارع». ولكن بوقري أفرد المساحة الكبرى في كتابه لما سمّاه بالراهن، ربما لانشغاله بمعالجة كوابح النهضة العربية الراهنة؛ حيث أفرد جانبًا كبيرًا من هذا القسم للحديث عن رؤيته الفلسفية لواقعنا الفكري والنقدي.
كتب بوقري في الزمن الراهن عن الفارق بين الفكر والنقد في حياتنا، ذاهبًا إلى أنه من الصعب القول بأننا كانت لدينا حركة فكرية متماسكة كي نقول أنها توقفت، ولكن كانت هناك جهود فردية لمفكرين وباحثين تماسوا نقديًّا مع بداية الحركات الإبداعية الجديدة، ومما يزيد الأمر صعوبة هو غياب دور الجامعات، فمن الصعب الحديث عن وجود مناخات مناسبة لطرح حركات فكرية وبحثية كبيرة، وبخاصة في ظل غياب العلوم الإنسانية، وهيمنة السلطة الثقافية والدينية على الخطاب المجتمعي.
المثقف والمعرفة
يرى بوقري في سياق بحثة في راهن الثقافة العربية أن أهم أسباب تخلف الحركة الفكرية في بلاده، هو غياب الليبرالية وهيمنة الفكر التقليدي الذي يرى أن التفكير خطيئة، وهو ما جعل المجتمع يضع الحركات الإبداعية الجديدة في إطار الاتهام والإدانة، واستعدى السلطة السياسية على الحراك الإبداعي والثقافي، ومن ثم سرعان ما انطفأت الحداثة الشعرية والقصصية التي توهّجت في ثمانينيات القرن الماضي بسبب هذه الاتهامات، وإن كانت لم تمت.
ورصد أحمد بوقري في مقالته الثانية العلاقة بين كل من المثقف والسلطة، موضحًا أنها دائمًا ما كانت توصف بأنها علاقة صراع وتناقض، فالمثقف المتمرد يرتاب في كل ما ينتج عن المؤسسة، وذلك على نقيض المثقف التقليدي الذي يتماهى مع كل ما تطرحه السلطة من مفاهيم ورؤى. وفي كتابه يطرح بوقري مفهوم المثقف العملي بديلًا من مفهوم المثقف العضوي لدي غرامشي، موضحًا أن المثقف الجديد بات يمتلك كلًّا من الوعي المعرفي التقني والروح الانتقادية في آنٍ واحد، وهو ما جعله بعيدًا من الأيديولوجيا المنتجة للوعي الزائف.
وأكد الكاتب السعودي أن ما يعيشه المثقف في الحياة الراهنة هو الوصاية الكاملة؛ إذ إن السلطة التعليمية والثقافية تعدان المصدر المغذي لعقول الشباب بالنمطية والأحادية المنحازة للتراث الحضاري، من دون الدعوة لإعادة النظر في هذا التراث، ومن ثم لا بد، في رأيه، أن تقوم هذه المؤسسات بتقديم التراث عبر آليات عصرية مقبولة، ووضعه في سياق أنه حلقة من حلقات تكوين الوعي والفكر الحاضر. ووضح بوقري أن مواجهة التطرف لا تكون من خلال معطياته، ولكن من خلال ثقافة العصر الراهن وروحه. كما أكد في سياق تساؤله عن موقعنا في مجتمع المعرفة الحديث، أن المجتمعات العربية ما زالت تعاني اتساع الهوة الرقمية المعلوماتية، ومن ثم فإنها تتعثر بشكل بائس في السباق الحضاري المعاصر حسبما قال نبيل علي في كتابه «العقل العربي ومجتمع المعرفة»، هذا الكتاب الذي أفرد له بوقري صفحات لقراءته نقديًّا.
مستقبل اليسار العربي
وفي سياق بحث بوقري عن معوقات النهضة في الواقع العربي الراهن تساءل عن اليسار العربي ومستقبله، وذهب إلى أنه لم يبقَ لنا إلا اليسار الثقافي الذي يجب أن نتمسك بمهمته التنويريه، تلك التي يستحوذ فيها على قضايا التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي القضايا الحيوية لدى أي مواطن عربي، وليست حكرًا على فئة أو جماعة بعينها، ولا خلاف فيها إلا على طريقة العمل الثقافي والسياسي التي تحقق دولة المؤسسات والقانون، وهذا ما طرحه المفكر اللبناني كريم مروة في كتابه «نحو نهوض جديد لليسار في العالم العربي»، الذي قدم من خلاله مشروعًا ثقافيًّا سلميًّا بمضامين سياسية لا يختلف أحد عليها، ومن ثم عَدَّ بوقري رؤية مروة مشروعًا تجديديًّا ينفخ الروح في طائر الفينيق/ اليسار العربي من جديد.
ما كان لبوقري في سياق دراسته للمشاريع الفكرية العربية، الباحثة عن نهضة العقل العربي، أن يغفل الحديث عن دور المفكر المصري فؤاد زكريا، وبخاصة في كتابه «التفكير العلمي»، فأفرد له فصلًا خاصًّا بعنوان: «فؤاد زكريا بين التفكير العلمي والتفكير السياسي»، متوقفًا أمام مشروع زكريا الفكري الذي استهله في بداية شبابه بكتاب عن الفيلسوف الهولندي «إسبينوزا»، نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في منتصف الستينيات، ثم ما لبث أن أنجز مؤلفًا آخر عن الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه»، ولم يكن قد أنهى زكريا الثلاثينيات من العمر. وذكر بوقري أن زكريا تنبأ في كتابه عن «الصحوة الإسلامية» بالثورة والتغيير، لكن القدر لم يمهله حتى يرى ثورة 25 يناير التي حلم بها في كتاباته. وكان فؤاد ذكريا، بحسب بوقري، وضح في كتابه قدر الزيف الذي اشتملت عليه هذه الصحوة، وما بها من عداء للإنسان والتاريخ ونزوع للعنف والإرهاب.
لم يكن باراك أوباما بمنأى عن رؤى أحمد بوقري النقدية، فقد كتب عن حماسه له وتفاؤله به آن مجيئه، وذلك في كتابه «السيف والندى»، لكنّ رجاءه فيه سرعان ما أصيب بالخيبة، فلم يتحلّ أوباما بالجرأة المأمولة فيه سياسيًّا لقيادة العالم نحو عالم آمن ومستقر، وسرعان ما خضع لمخططات الأجهزة الأميركية العتيدة في تفتيت منطقتنا العربية وإضفاء مزيد من الظلام عليها. وفي مقال عن نكسة 1967م، كتب موضحًا أن الهزيمة ما زالت قائمة في وعينا وأعيننا، وأنها على مرمى بصر منا. وكتب في مقال آخر عن التحولات الثقافية التي تعيشها المملكة العربية السعودية الآن، وذلك في سياق رؤيتها لعام 2030م، ويرى بوقري أنها ليست بعيدة مما طرحه طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي وضع التعليم في قلب العملية الثقافية. وذهب بوقري إلى أن السعودية هيّأت الشرط الاجتماعي المطلوب لإحداث تغيير ثقافي قادر على جذب المثقف نحو التفكير الجديد، والمشاركة الواعية بأهمية إحداث نقلة نوعية في الحياة الثقافية والفنية. وأهم معوقات السياسات الثقافية في مجتمعاتنا الراهنة، بحسب بوقري، هي الدائرة المغلقة التي يقبع فيها المثقف العربي، والمتمثلة في رؤيته الأحادية لقضايا الدين والمرأة والمجتمع، فضلًا عن معوقات السلطة الأبوية للمؤسسة الثقافية التي تمارس استعلاءها ووصايتها على الفكر.
فيما هو عملي واجتماعي
في القسم الثاني «اليومي: فيما هو عملي واجتماعي» قدّم بوقري مجموعة من الدراسات عن نماذج قدمت منجزًا مهمًّا في المجتمع، في مقدمتها غازي القصيبي الذي وصفه بالاستثنائي في حياته وعمله الإداري، ثم إياد مدني الذي وصفه بأنه مثقف ومجدد ومفكر، كما كتب عن «الخطاب السياسي حين يخلو من ضميره ـ إسرائيل نموذجًا»، وعن «أدواء ثقافية لا براء منها»، في مقدمتها الصورة الزائفة عن الذات التي تصيب صاحبها بتعالٍ لا مَحَلَّ له، وهو ما سمّاه بوقري التورمَ الذاتيَّ، وكذلك متلازمة الأكاديمية، وكأن المثقف لا بد أن يكون أكاديميًّا، كما قدم تأمله الخاص في «الخيط الرفيع بين كرة القدم والأخلاق»، وخواطره الخاطفة عن «كأس العالم». أما في الزمن الأخير «اللحظي فيما هو شخصي وحميمي»، فقد قدم شهادة مطولة عن الشاعرة فوزية أبو خالد، وأخرى عن الشاعر علي الدميني، وثالثة عن شركة أرامكو التي عمل بها نحو ثلاثين عامًا، ويرى أنها نموذجًا جيدًا في الثقافة والإدارة والاعتماد على الأداء العلمي.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق