كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«في القسوة» لكنعان مكية
المسافة الفاصلة بين الحياة والموت
يمكن القول: إن القسوة هي القاسم المشترك في كل ما كتبه المعماري والكاتب كنعان مكية عن العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي، سواء كتابه «جمهورية الخوف»، أو «القسوة والصمت»، أو «النصب التذكارية» حتى روايته «الفتنة»… ويقرّ مكية بأنه لم يكنْ واعيًا بذلك في البدء، ولكن تجربته الشخصية إثر انتفاضة 1991م ضد نظام صدام حسين، كانت نقطة التحوّل إلى درجة دفع المصطلح إلى الصدارة في ذهنه «منذ ذلك الحين، تحولتْ حرفة الكتابة إلى تجارب تأمل في القسوة، تهيمن عليها المشاعر التي انبثقت تلك السنة».
كنعان مكية الذي يبدو كتابه الجديد أشبه بمجموعة كتب متداخلة في كتاب واحد (عن التسامح والمظلومية والذاكرة والمواطنة…)، يقول: «إذا كانت تجربتي في الكتابة عن القسوة قد علّمتني شيئًا، فهو أن القسوة ظاهرة إنسانية تمامًا، فضلًا عن أنها من القضايا التي يصعب مناقشتها بوصفها ظاهرة». فـ«القسوة الجسدية على وجه الخصوص، تتجاوز حدود العقل، ولعل هذا هو السبب الكامن في أن الفلسفة والعلوم الاجتماعية ليس لديها الكثير لتقوله في هذا الموضوع. عالم الكتابة والتفكير المجرّد وبحوث علم الاجتماع تجتنب القسوة، لكن العكس يحدث في عالم الفن… هناك أعمال لبعض الفنانين تدعو حقًّا إلى التفاؤل، فهم ليسوا غرباء عن القسوة، ومن خلال أعمالهم نستطيع الوصول إلى جوهر هذه الظاهرة. فمن دانتي والتقاليد السائدة في تمثيل مشهد الصلب المُخلّص وشغف المسيح في الرسم الإيطالي، إلى غويا الإسباني وهوغارث الإنجليزي، وروايات دوستويفسكي وديكنز، على سبيل المثل لا الحصر، نرى أن الفنانين كانوا أبرز من نجح في إلقاء الضوء على الفظائع التي نقوم بها نحن البشر، بعضنا ضد بعض».
وكنعان مكية الذي أهداه والده قطعة مستنسخة من جدارية لأسد آشور يصارع الموت، وفي ذكرى وفاة والده الأولى قرر أن يزور المتحف البريطاني حيث العمل الأشوري الأصل الذي كان هذا الأسد أحد تفاصيله، ويقرأ في حيثياته وطقوس القديمة، وهو إذ لم يعطه الاهتمام الذي يستحق من قبل، فـ«قد تحول فجأة إلى إحساس غامض وغريب ومذهل»، يضيف «هدفي هنا، بعد ما حدث لي وأنا أقف أمام صيد الأسود، إضافة فنان حرفي آشوري مجهول إلى قائمة الأسماء اللامعة أعلاه؛ ذلك الفنان (القديم) بحسب الرسام العراقي جواد سليم «كان دائمًا حرًّا في التعبير عن نفسه، حتى في خضم الدولة في آشور، يتكلم الفنان الحقيقي من خلال دراما الحيوان الجريح».
شرعنة القسوة
لا يركز كنعان مكية على ممارسات القسوة بل يميل إلى بيان أسس شرعنتها عبر التاريخ في الأفكار، والثقافة، والدين، والمشاعر المتداولة، وأساليب إضفاء الشرعية فضلًا عن تاريخ المرحلة التي نحن فيها. وينتقي مكية أنماط المعاناة التي يمكن عدّها قسوة حسب تعريف كتابات كثيرة، وأعمق ما كتب في الموضوع على أيدي أناس اختبروا ما يكتبون عنه هم: بريمو ليفي في كتابيه «البقاء في أوشفيتز»، و«إذا كان هذا رجلًا»، ألكسندر سولجينتسين وكتاباه «أرخبيل الغولاك» و«يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش»، وفاسيلي كروسمان عبر كتابيه «كل شيء يمضي» و«الحياة والقدر»، وهي رواية تقارن برواية «الحرب والسلام» لتولستوي ولكنها تغطي معركة ستالينغراد التي غيرت مجرى الحرب العالمية الثانية.
يركز مكية على الكاتب ميشيل دي مونتين الذي ذكر القسوة إلى الدرجة التي لم يكن يطيق «النظر إلى دجاجة وهي تذبح» كما كتب؟ لأن صراخها وتفاصيل وجهها وحركاتها الهستيرية كانت توحي له بمقدار ألمها، ومن بين كتاباته الغزيرة، هناك جملة واحد من آلاف الجمل ألحَّت رقابة الكنيسة الكاثوليكية على حذفها، عندما كان مونتين مقيمًا في روما بين العامين 1580م و1581م، رفض الكاتب حذفها وأصرّ على تكرارها مرتين في الطبعة الثانية من كتابه: «يبدو لي أن كل أذى يتعدّى الموت بأبسط أشكاله هو قسوة نقية، أي صافية من كل شوائب».
ويسأل مكية لماذا خشيت رقابة الكنيسة الكاثوليكية في روما هذه الجملة؟ ويجيب لأنها تصف بالكلمات ما كان ينحته الفنان الأشوري المجهول قبل ثلاثة آلاف عام. إنها عملية معقدة أن تتعدى الموت، أي أن يكون هدفك وحساباتك تمديد المدة الزمنية التي يهاجم فيها الألم الجسد قبل الوصول إلى الموت. علينا أن نتذكر أن التعذيب الذي نشمئز منه اليوم، لم يكن منبوذًا على مدى التاريخ، بالعكس، كان التعذيب مستخدمًا ومقبولًا اجتماعيًّا في الحضارة اليونانية والرومانية العتيقة، عملية التعذيب حسب ظن تلك الحضارات، تمسح الفروق بين البشر.
الألم الجسدي
لا يهدف مكية إلى الكلام عن القسوة العقلية، بل الألم الجسدي الذي يرعبنا جميعًا ويمثل صنفًا خاصًّا قائمًا برأسه، وهو مختلف نوعًا ما عن سائر أصناف المعاناة. ويدعو إلى عدم الخلط بين مفاهيم العنف والقسوة، فالقسوة التي يقصدها هي الإفناء من العالم من دون موت. القسوة والتعذيب لا يعنيان القتل بل العكس؛ إذ يغدو الموت وحدة مقارنة بأهوال التعذيب مثل «لعب الأطفال».
القسوة هي المسافة الفاصلة بين الحياة والموت. «العنف ظاهرة أعم من القسوة»، وقد كانت موجودة في الطبيعة بين الحيوانات قبل دخول الإنسان على الخط. القسوة باختصار، هي ابتكار جنسنا البشري بعد انفصاله البيولوجي عن عالم الحيوانات. «العنف في صميمه أداتي وحياتي، فيما تمارس القسوة لإفناء ذات الإنسان» كما كتب الفيلسوف النمساوي جان أمري الذي ذاق العذاب على يد الغستابو الألماني، انتحر بعد الحرب العالمية الثانية، لكن خلف كتابًا مهمًّا عن تجاربه ومشاعره تحت التعذيب. «لا يمكن أن نقف محايدين أمام القسوة، فحتى عندما يدافع الإنسان عن ضرورة استخدامها، فهو يشمئز منها»، يقول مكية: منذ فويرباح ونيتشه وفرويد في العصر الحديث، حل الخوف في الفناء عن الوجود وعذاب جهنم محلّ قوى الطبيعة الفتاكة، التي أصبحنا نسيطر عليها بفعل التقدم التكنولوجي… والحيوانات مثل أسود آشور، التي يفتتح مكية الكتاب بسردية عنها، تعرف العنف والألم الذي هو جزء من الطبيعة لا خيار فيه، لكنها لا تعرف القسوة التي ابتكرها الجنس البشري، وفي ضوء كتاب الأنثروبولوجي إرنست بيكر «إنكار الموت»، يبدو أن الجنس البشري استخدم فكرة التضحية غالبًا، وسيلة لدرء مخاوفه من الموت.
وإن لإدراكنا الخوف من الموت هو الدافع الرئيسي الكامن خلف كل الحضارات والإنجازات الإنسانية. وبات واضحًا أن أي بحث في تاريخ الوعي متعلق بظاهرة القسوة، عليه أن يبدأ بتجارب القارة الأوربية؛ منها يظهر على الفور أن للقسوة المبرمجة على يد السلطة تاريخًا طويلًا وخاصًّا بها، لقد بدأ التصدي للممارسات البشعة مع القرن السابع عشر في فرنسا وبريطانيا على يد مجموعة من المفكرين والنشطاء في الساحة العامة والأفكار، أصبحوا فيما بعد رموز عصر الأنوار، من نحو مونتين الذي يعدّه كنعان مكية الأب الروحي لكتابه، ولوك ومونتسكيو، المنظر الأبرز لمبدأ فصل السلطات، وفولتير الذي تزعَّم حركة احتجاج واسعة في فرنسا ضد عقوبات الكنيسة الكاثوليكية.
ولم يكن دور الفنانين في تناول القسوة أقل أهمية من سواهم من المثقفين، فالفنان الإنجليزي وليم هوغارث رسم «مراحل القسوة» في أربع لوحات وُزّعت كالمناشير بين الناس. الرسام الإسباني غويا الذي كان شاهدًا على رعب «الحرب النابليونية»، ركز في أعماله على الإساءة إلى الأسرى وجرائم الحرب، في سلسلة من الصور المسماة «كوارث الحرب».
انتهاك حرمة الجسد
طوال المدة التي عملت فيها الرموز الثقافية من أمثال غويا وتصدرت للقسوة في مجتمعاتها الأوربية، انصبّ القسم الأكبر من نقدها على انتهاك حرمة الجسد. ودور الرواية لا يقل أهمية من الفنون التشكيلية وتفشي الأفكار الجديدة التسامحية. الرواية الحديثة الأولى كما يؤكد أكثر من ناقد ومؤرخ، تعود إلى سرفانتس الذي نشر الجزء الأول من روايته «دون كيخوته» عام 1615م. عاش سرفانتس حياة قاسية جدًّا بمقاييس عصره؛ إذ جرح في معركة ليبانتو، وهو ما أدى إلى فقدانه كفه اليسرى، وألقى القراصنةُ القبضَ عليه عام 1575م، ليُستعبَد في الجزائر خمس سنوات، وعمل جاسوسًا لإسبانيا بعد الإفراج عنه في البرتغال والجزائر.
لأسباب غامضة، بدأ كتابة «دون كيخوته» وهو في السجن. أهمية قسوة الحياة التي عاشها تأتي في الطريقة الفذة التي جسدها في روايته… في عالمنا العربي هناك الكثير من التجارب المشابهة في التصدي لظاهرة القسوة، منها إميل حبيبي الذي نقل قسوة الحياة الفلسطينية موضوعًا لروايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، يقول مكية: «إن الرواية، ولا سيما تلك التي تعتمد الضحك، هي العدو اللدود للقسوة أينما رفعت رأسها».
في المقابل اليوناني أفلاطون لا يخاف بعض فناني الضحك والسخرية؛ لأنهم قد يشكلون معارضة لجمهوريته المثالية فحسب، إن مشكلته مع الضحك والسخرية أعمق من هذا، إنه يخشى الضحك نفسه، يخشى المهن المرتبطة بإخراج وتسويق الضحك، ولا سيما عندما يمارس على أيدي المتفوقين فيه، يفهم أفلاطون أيضًا أن هذه المهن لا تنبثق من شيطان أو إبليس خارج الإنسان بل داخله. وأصول القلق الأفلاطوني من فنون الضحك تكمن في أنها تمثل هروبًا من العقل باتجاه المشاعر والغرائز، وتنطوي على نوع من الإنفلات النفسي.
يرى مكية أن الحبّ المفرط للنفس، أو للذات العربية أو الإسلامية، الذي بات في وضع يتجه من سيئ إلى أسوأ، قد أبعدَنا من التأمل في ظواهر تخلفنا، مثل قسوة مجتمعاتنا وفقرنا وقمعنا المتفاقم للأقليات…، وكل شيء ينتج تداعيات لا تنتهي، فإذا كان من الطبيعي التضامن والتعاطف مع ضحايا القسوة كرد فعل على الظلم، فلقد انطلقت كل حركات التحرر، بشكل أو بآخر، من غريزة التضامن تلك.
هذا التعاطف يكون جديرًا بالتصديق ما دام المرء يدرك أنه ليس «أنا» الذي يعاني الظلم، بل «الآخر». لكن الإغراء الأخطر هو أن نذهب أبعد من هذا التضامن، لننسب المثالية للمظلوم وكأنها موجودة ومتأصّلة في حالة المظلومية نفسها، أي أن نجعل المظلوم في مخيلتنا قدوة أو مصدر إعجاب، بل مَثَلًا أعلى في الحياة…
ويقرّ مكية بأن رفض القسوة من دون تحفظ وفي المطلق يُعَدّ إنجازًا مهمًّا للإنسانية؛ إذ مهد الطريق للفردانية بوصفها الحجر الأساس للمواطنة الحديثة. أصبح رفض القسوة هو السبيل والشرط الأساسي للمواطنة لا العكس، ولكن في الوقت نفسه كان بداية لشق الطريق إلى الحداثة، «القسوة هي حالة قصوى من الوجود كالفقر المدقع. القاسم المشترك بين تغلغل القسوة والفقر هو الدرجة التي يختزلان فيها خصوصيات الإنسان؛ هويته وثقافته ودينه وانتماءه الطائفي… الفقر والقسوة سوية»… الإنسان تحت التعذيب أقرب إلى الفقير الذي يبحث عن لقمة العيش…
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق