لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
خصوصية التعبير البصري لدى الرسامات العربيات
لا يعني البحث في خصوصية العمل الفني والتجربة البصرية التشكيلية للمرأة فنانةً، عَزْلَها في التصنيف أو طرح قضية ما يعبّر عنه «الفن النسوي»، بل هو بحث في تميزها الأنثوي من دون فصلها؛ لأن لها تحليلها وموقفها بأساليب التعبير لديها وتفردها فيها، كما أنها ليست مجرد عنصر يتوافق مع المنظومة الأساسية التي تعبّر جماليًّا ولكنها كيان ثقافي، له دوره وحضوره المنافس والحر والقادر على خلق الابتكار، ولها أيضًا اختياراتها وأسلوبها ومستوى إدراكها وعاطفتها وعلاماتها ورمزياتها، ومن ثَمّ فالبحث في عالمها الإبداعي التشكيلي يعبّر عن تناقضات واقع ومجتمع ونفسية وانعكاس ومعايشة وتحدٍّ وإثبات حضور وجدية طرح للمفاهيم.
والبحث عن خصوصيات التعبير الفني للمرأة ليس تصنيفًا اجتماعيًّا؛ لأن الطرح الفني لا يطول المرأة وحدها، بل كل مكونات المجتمع بتفاصيله التي كثيرًا ما تحوم حولها إشكاليات مختلفة واستفسارات بحث تحاول فهم اختلاف التعبير الفني مقصديًّا ودلاليًّا ورمزيًّا، واختلافُه بينها وبين الرجل وكيفية حضورهما في منجز الآخر، ومدى توافقه مع الموقف الفني والقدرة على وصولهما إلى عمق التجلي البحثي لكسر حواجز الاختلاف والتخالف، الصدام والتصادم، بفعله البنّاء في خلق الموقف الجمالي من التجلي الفني، فما خصوصية الفلسفة البصرية التي ترى بها المرأة العربية تعابيرها وعلاماتها في تجربتها التشكيلية الحديثة والمعاصرة؟ وكيف تتعاطى مع الواقع والخيال والعلامة والرمز في مفاهيمها الفنية باختلاف تجاربها وتنوع انتمائها ودرجة استيعابها الثقافي؟
كثيرًا ما تتعامل المرأة مع الصور والتعبير بحساسياتها المفرطة في التوغل الذهني، وكثيرًا ما تدقّق في التفاصيل الواضحة بعلامات عميقة البحث تجيد التعتيم المقصود منه التعمق أو استدراج المتلقي لعوالمها ومحاولة قراءتها، مثل التعبير الكثيف الذي تخوضه المصرية الرائدة زينب السجيني، أو الكويتية ثريا البقصمي، أو السعودية منيرة موصلي، أو التونسية يمينة المثلوثي، وهن يستثرن العلامة التراثية في عمق التعبير الأنثوي، ويستخرجن الدلالة الموقعة بالفلسفة البصرية التي تعبر عما تسعى المرأة إلى تحقيقه بصريًّا والتعبير عنه. وعلى الرغم من أن الاختلاف في الرأي جاهز سواء في أن المرأة تتميّز -أو تتشابه- عن منجز الرجل التشكيلي، فإن التصور في حد ذاته لا يتوقف عند هذه النقطة الجدلية وحدها؛ لأنه يتعمّق في التحليل النقدي البصري لكل تجربة بمختلف جمالياتها وثيماتها.
الجماليات وفلسفة الرؤية
إن فكرة الاختلاف والتنافس والتميز والتفرد قد توقع البحث عن الخصوصية الفنية في مراتب التصنيف الواقعي، غير أن المحرّك الأساسي الداعي لتمييز العمل والمنجز الفني هنا هي الجماليات وفلسفة الرؤية التي تحلّل بصريًّا، خصوصًا أن المرأة تدقّق في التفصيل والسرد والتفتيت والمبالغة والحدة والسخرية والبحث في كوامن الشخصية العاطفية والنفسية، مثل تجربة الكويتية مشاعل فيصل، فهي تركّز على الملامح المألوفة في المجتمع وتعالج نفسياتها وواقعها بلغة جمالية مشوهة الملامح تكاد تشبه الكاريكاتير ولكن في تراتبية وتدريج لوني وشكلي، فكائناتها كما تعبّر عنها تعكس المجتمع وتحاول أن تنفلت في الفكرة نحو كشف طبيعة العلاقة في حالاتها ومزاجها في فرحها وحزنها، بتكبير الأعين وتكرار الرأس وتدريج الألوان التي تبعث في المنجز حركة وحيوية.
وعلى الرغم من أننا في كثير من الأحيان نكاد لا نميّز بين عمل لرجل أو لامرأة، فإن قواعد التعامل مع منجز فني تقدّمه المرأة يخضعها لقواعد مبنية على النضج والتكافؤ، الندية والتميّز، ومن ثَمّ إصرار ذاتي على إحداث الفرق في التصور الجمالي. وهنا نلحظ أن أعمال المرأة يميّزها التريث والحكمة في الخطوط والأشكال، في اختيار الموضوعات وترتيب الفكرة، حتى في الإشارة العامة بالتخصيص، مثل تجربة ليلى كبة ومدى توظيفها الأسطورة والتاريخ ومقارنتها مع حضور المرأة العراقية، أو تجربة سمر غطاس في التماهي الواقعي بين الفكرة والحلم في الواقع الفلسطيني، وتماهي الطموح الفردي مع الرغبة الجماعية من خلال مزج الصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، أو تجربة النحت والحفر لميرفت عيسى، باشتغالها على الفكرة المقاومة لواقع المرأة الفلسطينية المهجّرة، وكذلك تجربة السعودية إيمان الجبرين في فكرة الهوية وتناقضات الكشف والتحفظ، بين ما يريده الآخر وما تريده هي نفسها بكل حرية وانتماء فعل.
ففي المنجز عامة لا تقدّم المرأة موضوعاتها المطروحة ومفاهيمها المبتكرة بشكلها الجاف أو العابر لإثارة التعاطف والشفقة، بل تتعمق في مفاهيمها تعمقًا غير مباشر تفرضه طبيعتها الجادة والدقيقة، وهذا لا يعني اسنتقاصًا من دور الرجل الفنان وتجربته، ولكنّ تثبيتًا لتأثيره وتأثر المرأة بأسلوبه وتفاعلاته، ودمج عواطفها وخصوصيتها معه ومع الطبيعة والثقافة والانتماء والمعارف. فهي المستفيد من التوافق والتكافؤ والمنافسة، ويجب عليها بقدرتها البحثية أن تروّض أسلوبها ترويضًا أعمق، حتى تتمكّن من التميّز العالمي أكثر وأبعد من ناحية الاطلاع والتطلع، فلا يمكن تناول بحث جمالي للمرأة بمعزل عن منجز فني رجالي في مجتمع واحد بعناصره البنائية وواقعه الاجتماعي.
المرأة: حضور الموروث والانتماء
إن القيمة الأساسية للمنجز الجمالي للمرأة تحيل على تفاصيل الحنين وانتماء الذات وحضور الأنوثة ورغباتها، إضافة إلى ألوان الترقب والانتظار والقلق والحيرة والتمرّد والرضوخ والحب والانتقام والتحدي. وعلى الرغم من أن الرجل يرى في المرأة الأرض والحبيبة والأم والوطن والحلم والطموح والقضية والفوضى والانعتاق والأمل، والحياة بقوتها وضعفها وبتناقضاتها الحسية، فإن المرأة ترى في الرجل تعابير الرومانسية واكتشافات الأنوثة والتوافق الطبيعي في علاقتهما، وفي الوقت نفسه ترى فيه السلطة والتحكم والرقابة والتسلط والتحريم والغموض والخوف. وهي تناقضات لم يصنعها الاختلاف بل هي مَنْ صنعَته مِن واقع مختلف ومتفاوت في ثقافاته وموروثه وعاداته وتقاليده ودرجاته الذكورية، وهي من عزلته في زوايا التمييز الاجتماعي. وهذه التصورات الفكرية والاجتماعية والنفسية الوجودية كثّفتها بصريًّا التشكيلية الكويتية مها المنصور، في علاقاتها الرمزية وسريالية التفتيت البصري لفكرة الانتظار والترقب وحيرة التأمل وخوف الاندفاع وتردد التقدم كعناصر توظّف معها العلامات الرمزية، مثل المقص والأرقام والساعات وصورة الظلال التي تحيل على وجود الرجل في زوايا كل تعبير وفكرة.
الجسد وقيمة العلامات الجمالية
إن الاختلاف واضح في الرمزية والإنجاز والتوجيه الأسلوبي للفكرة وتوظيفات الجسد والعلامة بين تجربة وأخرى نسائية، حسب الانتماء والعلاقة والتعامل مع الطبيعة والأرض والحضارة والحضور، فمثلًا العلامة الخاصة في «البرقع» في تجربة التشكيليات في الخليج العربي تختلف حسب توظيفاتها. في الإمارات تتقارب في مفهومها الدلالي كموروث يعكس الواقع والانتماء وارتباط التراث بالعادات والتقاليد، ويمكن أن يحيل على الحضور والتغييب حسب المفهوم وطبيعة الأسلوب كالتعبيرية والواقعية أو المفاهيمية، فهي كرمزية فنية تختلف بل تتجاوز التعاطي المفاهيمي في الفكرة والمعنى والمقصد، فتتحوّل من العاطفة الذهنية إلى الذهنية العاطفية، ومن ثَمّ تتغير وتختلف طبيعة استقبالها للمقصد الجمالي والفهمي للرمز وكيفية رؤيته، وقد تتجاوز العاطفة الذهنية حضورها المتفاوت في التجربة التشكيلية السعودية مثلًا، ففي تجربة التشكيلية فاطمة النمر تختلف الفلسفة البصرية تمامًا في توظيفات التراث والانتماء الخاص بثنائية الأرض والمرأة والتراث والهوية لتصنع منها عوالمها، فنساؤها بحضورهن يعكسن ذاتية وتفرّدًا جماليَّ الفكرةِ يتجاوز الخطوط والألوان والتقوقع، فهي تبحث عن الجمال في تصوراتها وأساليبه ومستوى التجريب في أعمالها، التي طوّرت فكرة البحث الأيقوني للمرأة بمميزاتها الإنسانية.
وعلى الرغم من أن فكرة الجسد المادية وتوظيفاتها التشكيلية كثيرًا ما تتراءى إيروتيكية التوظيفات، وموجّهة نحو أفق تمردي، فإن التوظيف النسائي لجسد المرأة كثيرًا ما يتجاوز التسطيح المألوف للفكرة، فالمرأة تحاول إضفاء روح من الإحساس والانعتاق الحر، كما نجد في تجارب فنية معاصرة مثل تجربة العراقية هيف كهرمان التي توظّف الجسد لطرح علاقات المجتمع بالمرأة، ونقد السلطة الخاصة بالمجتمع التي لا يفرضها الرجل بل تفرضها المرأة نفسها، فهي تُظهر نساءها بكل الأمزجة والحالات المغرية والحالمة والمخادعة والطائعة والمتمرّدة والساكنة.
إن الإضافة الجمالية التي حقّقتها المرأة في الفن لم تقتصر على محاكاتها لذاتها، ولا تقوقعها في نقطة التفريق والتمييز والتصنيف، بل في فهمها العميق لواقعها وطموحها ونجاحها وتطوّر تجربتها التشكيلية والبصرية، فلم تقف على الحدود بينها وبين الرجل، بل حاولت ابتكار مساراتها من خلال التجريب والتقليد والسطحية والعمق، في الفكرة والعاطفة، في الحضور والتماهي، في الاختفاء والتجلي؛ لتعبّر ولتكون باختلاف أساليبها ومستوياتها الفنية.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق