كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هذه المعركة ليست معركتك أيها الشعب، إنها معركة «الإخوان»
دأبت جماعة «الإخوان المسلمين» منذ تأسيسها إلى اليوم على تقديم مصلحتها الحزبية على كل مصلحة أخرى، بل حتى على التضحية بالمصالح الوطنية والقومية «والدينية» إذا اقتضت مصلحة الحزب مثل تلك التضحية. لقد أبدت منذ بدايات ظهورها استعدادًا لتدمير الدولة الوطنية الناشئة التي كانت في الآن ذاته تحارب الاستعمار المباشر وتواجه شتى أشكال التدخل الأجنبي، من أجل الاستمرار في بسط الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية باستخدام الأشكال التي صارت تدرج تحت تسمية الاستعمار الجديد، وذلك بحجة أن هذه الدولة لا تستجيب لمقومات الدولة الإسلامية، وأنها جاءت على أنقاض دولة الخلافة، ومن أجل قطع الطريق أمامها، وأنها لا تستند في تنظيماتها وقوانينها إلى المرجعية الدينية كما يتصورونها ويفهمونها، على الرغم من وجود آراء أخرى وتصورات إصلاحية كان لها أثر في تأسيس الدولة الوطنية وفي وضع قواعدها وقوانينها، وكان ما يعلن صراحة استمدادها من الشريعة الإسلامية، وفي بناء مؤسساتها، وكان قد تبناها ودافع عنها أعلام مصلحون، منهم من كان ذا مرجعية إسلامية، ومنهم من ينتمون إلى أحزاب وطنية شاركت في مقاومة الاستعمار.
فالإخوان يرون كل دولة لا تعلن صراحة عن أن «القرآن دستورها»، ولا تستمد الحلول لكل الوضعيات والمشكلات التي يعانيها المجتمع من الإسلام، ولا ترفع شعار «الإسلام هو الحل» دولة مارقة وشعبها في جاهلية.
ولقد وقفت الجماعة في وجه الدولة الوطنية وعدتها عدوًّا للخلافة التي كانت قد انحلت قبل سنوات معدودة، ولم ترَ حرجًا في أن تلتقي مع الاستعمار في غايات، ولا في أن تتحالف معه في مجالات من أجل تدمير هذه الدولة، والتمكين للجماعة وتقريبها من هدفها الأسمى وهو الوصول إلى السلطة. كما لم ترَ الجماعة حرجًا في أن تنسب المجتمع برمته إلى الجاهلية، ضاربة عرض الحائط بطموحات شعب عانى التفقير والتجهيل طيلة قرون من الاستعمار العثماني، وطيلة عقود من الاستعمار الغربي. وكأن المطلوب منه أن يعود إلى كهوف التاريخ في أنماط عيشه وأشكال ملابسه ومظاهره وفي طرق تفكيره ووعيه وتصوراته حول العالم حتى ينال رضا الجماعة فلا تكفره ولا ترميه بالجاهلي.
وفي طور ثانٍ وعندما كان جمال عبدالناصر يعلن تأميم القناة ويواجه العدوان الثلاثي، ويخوض المعارك ضد الصهيونية، ويعمل على تثبيت الاستقلال الوطني والقومي، ناصَبَته الجماعة العداء، وتحالفت مع أعدائه، وخططت لاغتياله بتعلّة أنه يعمل على غير هدي الله ومنهج رسوله، وكأنه كان على عبدالناصر ونظامه أن يتخليا عن كل الشعارات الوطنية والقومية التي عملا بكل إخلاص على تحقيقها حتى يحظى بمساندة الجماعة أو على الأقل بحيادها. وما كان للجماعة أن تقبل بتوجه مختلف أو برأي مخالف؛ لأن توجهها مبنيّ على أنموذج سياسي ديني مغلق لا يسمح بالاختلاف ولا يقبل بالحريات.
أما آخر الحلقات في مسار تدمير الدول الوطنية، فقد كشفت جوانب منها رسائل هيلاري كلينتون، التي فضحت تآمر جماعات الإسلام السياسي مع قوى عالمية معادية تنتمي في الغالب إلى حلف الناتو، ولا تخفي أطماعها الاقتصادية والسياسية في منطقتنا. وكل ذلك لا دفاعًا عن الديمقراطية كما تسوّق وهي الأشد عداءً لها، وإنما من أجل الوصول إلى السلطة، وكان تدمير سوريا وليبيا بتورط واضح ومباشر منها ومن القوى الإقليمية الداعمة لها.
ولم تتوانَ جماعة الإخوان عن التحالف مع جماعات أخرى من صنفها أشد منها تطرفًا للاستيلاء على ثورات الشعوب ضد الاستبداد، فكانت النتائج أن دفعت الشعوب الثائرة من دم أبنائها، ومن لقمة عيشها، ومن استقرارها، ومن مقدراتها الوطنية ثمنًا غاليًا جدًّا، لعل أشده وطأةً عودتها أكثر من نصف قرن إلى الوراء؛ لتعاود الانقسامات على أساس ديني وطائفي وعرقي، بل إن منها ما شهد لأول مرة في تاريخها مثل هذه الانقسامات، حيث يروج لتقسيم الناس إلى مسلمين وكفار تبعًا لموقفهم من الجماعة ومن طريقتها في الحكم كما هو الشأن في تونس التي لم تعرف في أغلب مراحل تاريخها انقسامات ولا صراعات من هذا النوع.
نتائج كارثية
وبما أن النتائج كانت كارثية في كل الأحوال؛ إما بسبب التطرف والعنف والتحول من الاستبداد السياسي إلى استبداد مغلف بغلاف ديني، أو بسبب الفشل في تكريس الديمقراطية التي طالبت بها الشعوب التي عبرت الجماعة ومن دافع عن حقها في المشاركة السياسية، كذبًا وبهتانًا، عن استعدادها للعمل بها ولاحترام مقتضياتها، فضلًا عن الفشل العام في تحقيق المطالب الاجتماعية وفي معالجة الأوضاع الاقتصادية التي ازدادت انهيارًا، فإن الجماعة وجدت نفسها مضطرة إلى العمل على استعادة القاعدة الشعبية التي بدأت تفقدها بسبب فشلها السياسي، وعلى التغطية على تورطها في التآمر على بلدانها وشعوبها مع قوى معادية خارجية وإقليمية ومع جماعات دموية أشد منها تطرفًا، بل حتى مع عصابات الفساد داخليًّا حتى دُمِّرَت هذه البلدان ودُفِعَ بها إلى حافة الإفلاس.
وهو ما اضطر جماعة الإخوان المسلمين إلى إصدار بيان موجه إلى أعضاء الجماعة بتاريخ 13 أكتوبر 2020م لطمأنتهم «على سلامة وضع الجماعة» إثر انعقاد مجلس شورى الإخوان لمناقشة موضوع واحد هو تسريبات رسائل هيلاري كلينتون، ودعت أعضاءها ومناصريها إلى «نفي كل تلك التسريبات جملة وتفصيلًا وذلك في اجتماعات الأسر وبين كل المؤيدين والمحبين»، وحثت مسؤولي الاتصالات على بذل قصارى جهدهم باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في «التشكيك في تلك التسريبات… مع الاستمرار فيما اتُّفِقَ عليه سلفًا»، (دون تحديد ولا تعيين لهذا الذي اتُّفِقَ عليه التزامًا بالنهج السري الذي دأبوا عليه). كما أكدت ضرورة «عدم الانصياع إلى أي تعليمات مهما كان مصدرها بالتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية خلال هذه المدة لحين انتهاء الانتخابات هناك».
ومن أجل تفعيل هذه التوصيات والتغطية على خطورة المعلومات المسربة في رسائل كلينتون، وهي معلومات كفيلة بالقضاء المبرم على مستقبلهم السياسي لو اطلعت عليها الشعوب المعنية وأدركت خطورتها وفهمت حقيقة الدور الذي قامت به الجماعة خلال ما يعرف بثورات الربيع العربي، استغلت الجماعة وحلفاؤها من الجماعات الأشد تطرفًا، وحماتها من القوى الإقليمية وأذرعتها الإعلامية، الجريمة الإرهابية التي اقترفها متطرف شيشاني بذبح المعلم الفرنسي وما رافقها من لغط ومن خلط ومن تصريحات غير محسوبة العواقب، لتحول مسار المعركة من معركة ضد الإرهاب والتطرف والتوظيف السياسي للدين إلى معركة بين مؤمنين يدافعون عن مقدساتهم وعن رسولهم، وكفار يسيئون إلى شخص الرسول ويستغلون كل الفرص للكشف عن عدائهم المتأصل ضد الإسلام والمسلمين.
المعركة المقدسة
واستخدمت بالفعل وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إطلاق هذه «المعركة المقدسة»، فكان أن أطلقت قناة الجزيرة الذراع الإعلامية للجماعة ولحلفائها وسمًا يدل ظاهره على هدف نبيل، بينما هو في الحقيقة مصنوع بإتقان كبير لتحقيق أكثر من هدف: من ذلك استعادة الجموع التي بدأت تفقد ثقتها في جماعات الإسلام السياسي باستغلال شعورها الديني واستغفالها للزجّ بها في معركة مصنوعة لخدمة الجماعة وحلفائها ولا مصلحة فيها لهذه الجموع. ومن ذلك أيضًا تقديم الدعم للحليف العثماني في صراعه مع أوربا عامة، ومع اليونان وفرنسا خاصة من أجل السيطرة على المجال الحيوي وعلى ثرواته في ليبيا وفي شرق المتوسط بتوظيف مشاعر المسلمين الصادقة نحو رسولهم، وباستغلال الأحداث للدعوة إلى مقاطعة فرنسا وبضائعها، والحال أنه لا معنى لمقاطعة الشعوب في ظل التنافس الرسمي على البضائع والأسلحة الفرنسية.
هكذا يزجّ بنا في معارك لا مصلحة لنا فيها، وهكذا يستغل الدين من أكثر من طريق وبأكثر من وسيلة من أجل إحكام السيطرة على الشعوب والتحكم في وعيها واستثمار عقائدها في سوق مصالح القوى العالمية والإقليمية واتخاذها سلاحًا تخوض به جماعات الإسلام السياسي والدول المتحالفة معه معاركها من أجل السلطة والمصلحة. وهكذا تُحَوَّل وجهة المعركة الحقيقية التي كان على الشعوب أن تخوضها، وهي معركة من أجل إقامة دولة مدنية ديمقراطية مستقلة عن كل القوى والمحاور، ومن أجل التنمية الاقتصادية والرفاه المجتمعي، ومن أجل التصدي لكل القوى التي تسعى إلى إقامة أنظمة أشد استبدادًا، من الأنظمة التي ثارت ضدها وللقضاء على الفساد بكل أنواعه وكشف المتورطين فيه، لتتحول إلى معركة وهمية تغطي أصواتها المرتفعة على صوت الشهادات والوثائق الذي كان يجب أن يسمع ويتمعن فيها حتى يعرف هذا الشعب أي معارك عليه أن يخوض حقًّا.
هل هو مدعوٌّ إلى أن يخوض معركة الدفاع عن كرامة وطن وشعب ينتهكها أعداء الخارج وفشلة وفسدة الداخل أم نتركه ليزج به في معارك مفتعلة لا رابح فيها إلا من يفتعلها للتغطية على جرائمه وعلى حقيقته، ومن لم يرَ حرجًا بأن يزجّ بالرسول الأكرم في معركة هي في الحقيقة معركة بين تركيا وأوربا عامة وفرنسا خاصة من أجل تقاسم المصالح في بلداننا؟ ومن الذي يبدو مهدّدًا حقًّا ومعتدى عليه وممسوحًا بكرامته الأرض؟ أهو هذه الشعوب التي تعاني قهر الاستعمار الجديد وقهر أنظمة محلية فاشلة لم تتح لها سوى المزيد من الفقر والخصاصة والتجهيل والأمراض وانعدام الخدمات العمومية، أم هو شخص الرسول المحفوظ بقدرة الله جل في علاه من يوم أن اصطفاه لتبليغ رسالته؟
ثم لو أخذنا في الحسبان أن الرئيس الفرنسي والدولة الفرنسية قصدا حقًّا الإساءة إلى الرسول ولم يكن قصدهما حماية مواطنيهم ولا نظامهم ولا القيم التي يؤمنون بها، فما جدوى الردّ بتلك الأساليب الغوغائية التي لن يجني منها الشعب شيئًا بل على العكس من ذلك، فإنه يثبت لدى المشنعين على المسلمين وعلى دينهم الأحكام التي يروجون لها؟ أليس من الأجدى أن يكون الرد تمثّلًا عمليًّا بخلق الرسول الأكرم واقتداء به في فعله الحضاري، عندما استطاع أن يرسي دعائم ثابتة أنشأت أمة وبنت دولة وأسست حضارة من أعظم الحضارات التي عرفها التاريخ واستفادت منها الإنسانية.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق