كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أصوات أطياف قريبة قضايا وشهادات بكتاب
صدف سعيدة هي تلك التي تعطي الإنسان أصدقاء يعلمونه بسلوكهم، يحاورهم في الوقت المتاح، يقتربون ويبتعدون ويستقرون، بعد رحيلهم، في الذاكرة. جاءت صدفتي من لقاء طويل مع الروائي عبدالرحمن منيف والمسرحي سعد الله ونوس. أنجب اللقاء صداقة ممتدة، وطدها تعاون ثقافي عنوانه: «قضايا وشهادات»، كتاب ثقافي دوري، صدر منه ستة مجلدات، وسابع أخير احتفى بسعد الله بعد رحيله.
أذكر عبدالرحمن يأتي مبتسمًا يصاحبه اقتحام أنيس، واضح الخطوة كعسكري قديم، أنيق بلا تكلف، تتلامح لفته كلما اقتربت، فإذا جلس قال: «يا قوي» ويضحك عاليًا. لم أعرف أن كلامه المتضاحك يحجب غضبًا دفينًا إلا بعد صدف لاحقة. بعد تعبيره المرافق له: «يا قوي» كان يتذمر من «أخبار وقحة»، يمحوها سريعًا بكلام عن «الشُّغُل»، يشير إلى رواية جديدة تنتهي بعد أسابيع معينة، ويأتي تحديده دقيقًا. قال لنا مرة: «إن شخصية الإنسان من طريقة عمله»، ولم يقل: إن حياته عمل متواصل تنقصه الراحة. حين سألته قبل رحيله بأيام، في بيته القائم في المزة، جبل في دمشق، عن الصحة والعمل، حدق في الفراغ وأحكم الغطاء على ساقيه.
بعد رحيل سعد الله ونوس، كتب عبدالرحمن، أو أبو عوف كما كنا ندعوه، عن: «لوعة الفَقْد». أسر لي مرة في لحظة حزن: «رحيل سعد الله كسرني». بعد رحيل الاثنين كتبت عن «انحسار الضوء» الذي أعقب غياب أديبين لامعيْنِ وصديقين يعلمان غيرهما القيم بسلوك نزيه.
لم يكن في مظهر ونوس ما يتقاسمه مع عبدالرحمن. هادئ الحركة أقرب إلى البطء متذمر لأسباب متجددة، واهن الصوت يرى الكلام الصباحي مشقة، ولا يعترف بمجيء النهار إلا بعد الخامسة عصرًا. تكامل في شخصيته مثقف نقدي متطلب وفنان يتابع حياة الناس ويسائل تاريخ الأشكال الفنية. كان في قامته الناحلة، المتوجة بذؤابة رمادية، وفي وجهه الشاحب المحدق في الفضاء، ما يرسم صورة فنان رومانسي استقرت فيه شهوة إصلاح العالم.
يحضر الآن فعل «كان» كما يريد. ابتعد الصديقان وذهبت «قضايا وشهادات» إلى الصمت، وانتهى حوار طويل عن معنى الكتابة، أخذ مكانه حوار متقطع مع الأطياف. «جماليات الكتابة قابلة للتأجيل»، كان يقول عبدالرحمن مشدودًا إلى «الهنا والآن»، حيث «الهنا» عوالم عربية موزعة على ماضٍ لا تحسن قراءته وحاضر لا تسيطر عليه، «والآن» زمن تنفقه السلطات في مراقبة الرعية. كان سعد الله يعلق ساخرًا في لحظات الصفاء: «الكتابة فعل لا ينتظر مكافأة ولا يعد بالتغيير»، فإن تصاعدت سخريته أضاف: «أرجو ألا نشبه في رغباتنا آخر الموهوك»، مشيرًا إلى قبيلة شجاعة من «الهنود الحمر» أزاحها ظلم التاريخ عن وجه الأرض. كان الحوار المتضاحك يطول، أحيانًا، فيشده عبدالرحمن بجملة جادة: «لا تعني الشجاعة النصر، إنها استمرار التحدي لأمر غير مقبول». لم نكن نتحدى أحدًا، ولا قِبَلَ لنا بالتحدي، بل نذكر بأفكار عادلة قال بها سابقون علينا، ورحلوا وظل الظلم مقيمًا.
حين جاءت إلينا فكرة «الكتاب» الذي أشرفنا عليه، بحثنا عن عنوان متقشف لم تستهلكه المجلات العربية: الطليعة، المسيرة، التقدم، النهضة،…، وغيرها من عناوين تعد بتحويل العالم. قال سعد الله ليكنْ: «قضايا وشهادات ـ كتاب ثقافي دوري». تابع: كتاب عن «قضايا» العالم العربي الذي يتقهقر عما كان عليه قبل مئة عام، و«شهادات» تدل على أن ما سنقوله قال به غيرنا، وسقطت أقوالهم في «المزايدات الأيديولوجية»، ولامسها النسيان. أكمل: ليكن العدد الأول عن طه حسين. فهذا العام يصادف مرور قرن على ميلاده 1889م.
هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة
احتفت أطراف ثقافية عربية متعددة، آنذاك، بمئوية ميلاد صاحب كتاب «الأيام»، حتى بدا اقتراحنا تزيدًا لا ضرورة له. أضاء سعد الله اقتراحه قائلًا: البدء بطه حسين أشبه بالإعلان عن هوية فكرية لا علاقة لها بالصدفة. لذا جاء في تقديمه للعدد الأول: «الأمر محض صدفة، فلو صدر هذا الكتاب منذ أن فكرنا بإصداره منذ سنتين، لكان طه حسين موضوع ذلك العدد، وكذلك لو تأخرنا في إصداره سنة أو سنتين أخريين…، لا يرمي هذا الكتاب إلى مد الاحتفالات باحتفال جديد، بل يأمل أن «يَسترد» طه حسين ضوءًا وعونًا في هذه الظلمة التي نتخبط فيها،…».
قصدنا «بالاسترداد» تخليص فكر «السيد العميد» مما علق به من تزوير وتشويه. فقد اختصره بعض إلى «فرعونية» وتبعية للاستعمار قارئين، خطأ، كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، اختزله آخرون إلى كفر وإلحاد وعلمانية، وهو الذي دافع عن عدالة الإسلام دفاعًا لا مزيد عليه، وانشغل «علماء زائفون» في تشويه عقيدته، فصار يهوديًّا ومسيحيًّا وشيوعيًّا، وصهيونيًّا، ولم يرَ بعض المتكسبين في موروث حسين كله إلا نثر كتابه «الأيام» الذي هو «تحديث للبلاغة الأزهرية» لا أكثر. الجدير بالذكر أن «حسين» دافع عن القضية الفلسطينية، في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مقالات صحفية متتابعة، جمعها حلمي النمنم في كتاب عنوانه: «طه حسين والصهيونية»، صدر عن دار الهلال عام 2010م. والحريّ بالذكر أيضًا أن تسفيه طه حسين، شخصًا ومعتقدًا ومعرفة، تحول إلى صناعة رائجة في سبعينيات القرن الماضي، كما لو كان إسقاط فكره ردًّا وحيدًا على هزيمة 1967م.
لم يكن طه حسين، بالنسبة لنا، صوتًا تنويريًّا عربيًّا متسقًا، ابتذل فكره «تنويريون سلطويون»، إنما كان مشروعًا ثقافيًّا عقلانيًّا متكاملًا، غايته مجتمع عربي مستقل يؤمن بحقوق المواطنة، ينعم فيه المواطنون بحقوق وواجبات متساوية. فاستقلال وطني لا يبني مجتمعًا عادلًا لا ضرورة له، وتعليم مدرسي يطرد أمية القراءة بأمية التفكير يفضي إلى مجتمع لا يحسن القراءة ولا التفكير معًا. بل إن استقلالًا وطنيًّا لا حداثة اجتماعية فيه «أسوأ من الاستعمار الذي سبقه»، كما جاء في الصفحات الأولى من كتاب حسين: «مستقبل الثقافة في مصر». بدا لنا مشروع حسين قديمًا وجديدًا في آن، أجهضه زمنه، ووصل إلينا في دراسات وكتب، وإن كان ما استجد بعد «الاستقلال الوطني» أكثر خرابًا وقتامًا من الزمن الذي سبقه.
أسهم في العدد الأول مثقفون من بلدان عربية عدة، وزعناه على مقولات ثلاثة: العقلانية، إذ خلق العقل ليفيد الإنسان ويحميه، والديمقراطية، فبلدان يحكمها مرجع وحيد فوق القانون تعيش خارج الأزمنة الحديثة، والحداثة التي تعني تطورًا يفرق بين الأزمنة. تميز «الكتاب» في صفحاته خمس المئة والخمسين بمقدمة ونوس التي صبت نقدها على «أعلام ثوريين» وصفوا حسينًا «كاتبًا إقطاعيًّا»، جاء من الريف واحتواه نظام ملكي، ومفكرون من النظام الناصري الذي دفعت «محرماته» بالسيد العميد إلى الصمت. أُغلق الكتاب، وليس بلا قصد، بقصيدة للعراقي الشهير محمد مهدي الجواهري ألقاها في «مأدبة أقامها الوفد المصري برئاسة طه حسين حين حضر مهرجان المعري في سوريا عام 1944م، وحثه فيها على زيارة العراق». اختار منيف القصيدة محتفيًا «بقلم عربي قديم» احتفى بذكراه مصريون وسوريون وشاعرًا «عَلَمًا من الحاضر»، يؤكد وحدة العرب الثقافية.
جسرت موضوعات الكتاب المسافة بين ماضٍ قريب يراوح في مكانه وراهنٍ لا يقوى على التقدم إلى الأمام. اختار ونوس صفحات من كتب حسين شاركه فيها عبدالرحمن، توسع فضاء الكتاب النظري: «العلم والدين»، من كتاب «من بعيد» 1925 -1935م، الأدب والتاريخ من كتاب «في الشعر الجاهلي» 1926م، وصفحات من: «حديث الأربعاء» 1923م، و«مرآة الضمير الحديث» 1949م، وخامسة وسادسة… أضاءت الصفحات- الوثائق، أو «الشهادات»، فكر حسين في جوانبه المختلفة، ومثّلت دعوة إلى تأمل اجتهاداته، تحاوره و«تستعيده»، بعد أن كاد يُبتسر في تزوير جاهز منقطع عن الحقيقة.
لم نكن نقصد تنزيه طه حسين عن الخطأ، ولا تمجيد صوابه وخطئه، وهو نهج يوائم التسلط والمتسلطين. كان المقصود استعادة نقدية لمشروع حداثي منهجي، بقي مفردًا في الفكر العربي الحديث، جمع بين مراجعة الماضي وتوحيد التعليم والديمقراطية وتحقيق العدل الاجتماعي وتحرر المرأة والانفتاح على معارف «الآخر» واستقلال المؤسسات العلمية… ولعل مبدأ المشروع الثقافي- الاجتماعي، وهو ما أخذ به طه حسين، هو الذي أتاح لنا أن نقرأ فكره موحدًا، وأن نطمح إلى «كتاب» يوحّد بين أسئلة الفكر النظري وقضايا الواقع الاجتماعي. استرشد «كتابنا» في مجلداته اللاحقة بمقولات: العقلانية، الديمقراطية، الحداثة القائلة، في التحديد الأخير، بدولة وطنية الوسائل والغايات. فلا وجود لوطن إلا بمدرسة وطنية لا تفصل بين المعارف والحاجات الوطنية.
اشتق كتاب: «قضايا وشهادات» موضوعاته من حاجات الواقع العربي المعيشة، عملًا بقاعدة «الهنا والآن»، بعيدًا من تجريد أكاديمي زائف الموضوعية، وحياد فكري ينتمي إلى الحسبان التجاري والمنافع الشخصية. بيد أن «تشاطر» المتكسبين بالكتابة، كما أنصار «العطارة الفكرية»، أنزل بالكتاب تجريحًا وتسفيهًا فتحول عندهم إلى هزيمة مقنعة ولواذ باسم شهير هزم بدوره. «فالماركسيون الذين تداعت فلسفتهم، التمسوا العون لدى عقلاني ليبرالي مهزوم». الطريف أن «المتشاطرين» افتقدوا إلى «هوية فكرية» واضحة؛ ذلك أن منهجهم ينصاع إلى تحولات الفصول.
أراد كتابنا أن يكون ذاكرة «للفكر النهضوي» الذي أُسقط ولم يسقط وأن يدافع عن أطروحة فكرية لا يجوز التخلي عنها: لا يدعو إخفاق الأفكار العادلة إلى التنكر لها، فهي صحيحة في ذاتها، لا فرق إن انتصرت أو هزمت، حال مقولات: الشرف والأمانة والصدق… بين الصحيح الثابت والمفيد العارض مسافة لا تجسر. وكنا نستذكر جيلًا من المثقفين العادلين: الجزائري مالك بن نبي، والتونسي الطاهر حداد، واللبناني رئيف خوري، والمصري سيد درويش… لم نفصل بين ذاكرة الفكر النهضوي، الممتد بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين، وذاكرة ما كنا ندعوه بكثير من الرضا: ذاكرة الثقافة الوطنية.
اللغة اليومية وصناعة الإذعان
كنا نتحاور طويلًا في عناوين الموضوعات القادمة. يقترح عبدالرحمن: هل انتهى زمن الدولة الوطنية؟ يجيب سعد الله: الأمر قيد التداول ويقترح: مظاليم الأدب، وأسارع إلى موضوع ثالث: اللغة اليومية وصناعة الإذعان. غير أن الموضوع الأعلى صوتًا هو ما اقترحه سعد الله. كان يذكرنا، ونستذكر معه، الروائي العراقي غائب طعمة فرمان، المبعد والبعيد في منفاه الروسي، والأردني المهاجر: غالب هلسا الذي غطت بساطته اليومية على روايته الطليعية شكلًا ومنظورًا، والمصري الراحل الدائم اللطف والابتسامة محمد البساطي في اقتصاده اللغوي المدهش… وكان لنا، أو كان لي، لحظات من الرضا الحالم. كأن أتصور ونحن نستقبل الأموات في «كتابنا» أننا نكتب معًا، ونحتج على تدهور عربي يضني المتطلع إليه.
وكثيرًا ما كنا نحاور الأموات ونسأل ساطع الحصري عن وحدة القومية العربية واللغة، وقسطنطين زريق وتفاؤله باسترجاع فلسطين «قريبًا» وكثيرًا ما تعجبتُ من طه حسين وهو يمحو التاريخ العربي من تاريخ مصر، ويعين «البحر الأبيض المتوسط» حاضنة أوربا «لمصر الحديثة». وعابثت في سري سلامة موسى، «المربي التنويري»، وهو يشرح، مرتاحًا، صفات «السوبرمان» -الإنسان الأعلى- بداروينية تقترب من السذاجة.
شكل «الآخر» الممثل في الغرب حضارة وثقافة واستعمارًا، بعدًا داخليًّا في سياسة الكتاب الثقافية. كنا نترجم ما يتفق مع الكوني والعقلاني وما يأتلف مع عالم عربي يحتاج إلى الجديد الفكري. نترك القارئ العربي مع حداثة عربية مجهضة ومع «حداثة الآخر» التي سيطرت على الدنيا. تضمن المجلد الثاني في جزئه الأول وثائق فكرية عربية متعددة. الطهطاوي، أديب إسحاق، محمد حسين هيكل، أدونيس، جبران خليل جبران، وحوارًا فكريًّا قديمًا بين مصطفى صادق الرافعي والدكتور محمود عزمي. انطوى الجزء الثاني على صور الحداثة في المجتمعات المتقدمة معبرًا عنها بدراسات: فالتر بنيامين والاستنساخ الآلي، مارشال بيرمن: التحديث أمس واليوم وغدًا، إدوارد سعيد والتعليم الجامعي المغلق، فريدريك جيمسون والمجتمع الاستهلاكي.
صَوَّرَ «الكتاب» الذي لم يعش طويلًا، أبعادًا من جماليات الصداقة وإخلاص الأحياء للأموات وتكامل الثقافة الإنسانية التي تعترف بوحدة العقل الإنساني وبتساوي البشر. حمل آثارًا من سعد الله ونوس الهاجس بالمُخْضَعين الذين يعيشون أقل ولا يتاح لهم الكلام وبمظاليم الأدب، وعلامات من عبدالرحمن منيف المشدود إلى «الهنا والآن» المتطلع إلى عالم لا سجون فيه والكاره لصناعة الإذعان واسترقاق الأرواح.
ظهر المجلد الأول من «قضايا وشهادات» في خريف 1989م، وتوقفت عن الصدور بعد أعوام أربعة.
المنشورات ذات الصلة
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
الفلسطيني: صعوبات كتابة سيرة ذاتية
هل يستطيع فلسطيني أن يكتب سيرة ذاتية؟ يبدو السؤال في البداية بسيطًا قوامه ذاكرة قوية أو معطوبة وقدرة على السرد بلغة...
كتاب دوري أضاف جديداً إلى عقولنا، وآلية تحليلنا لواقعنا، وفتح لنا نوافذ خلاقة رأينا بها المسكوت عنه، والمهمَّش في ثقافتنا العربية الحديثة، ووأقمنا علاقتنا معها على أسس جديدة تنزح الغبارَ عن المتكلِّس في هذه الثقافة، وتراها رؤية مغايرة لما قرأها به شيوخ الثقافة العربية الرسمية .