كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الرواية العربية وآفاقها الزمنية والمستقبلية
قطعت الأزماتُ المُتلاحقة التي يعيشها العالَم، ولا سيّما وطننا العربيّ، هذا الشعور المكتشِف للحياة المُستمتِع بها، حيث يُغادرنا الناس ويُغادرنا الزَّمن وتُغادرنا الأمكنة التي هي في صلبها، بقدر ما نُغادرها. انكَفأْنا جميعنا بسبب «اختلال هذا العالَم» وموازينه تارة، وأمراضه تارةً أخرى، وآخرها وباء كورونا، وحروبه التي تعصف بأوطاننا ومُدننا، ما أفقدنا صُورَ أوطانِنا ومُدنِنا هذه ومثالاتها وما كنّا نسعى للوصول إليه فيها.
في خضمّ هذه المرارات كلّها، وأمرّ ما فيها الحروب الأيديولوجيّة أو الاقتصاديّة أو العسكريّة أو النفسيّة، تبقى الفنون عامّة، والفنّ الروائي خاصّة، من الأجناس الأدبيّة القابلة لمزيدٍ من الازدهار لما تنطوي عليه من خصائص تسمح بخلْق عوالِم تتهافت أمامنا فيما نحن نشهد دمارَها، ناهيك عن تهافُت أزمنةٍ أحببناها لم تعُد موجودة، وتغيُّر أمكنةٍ أو زوالها تمامًا عن خرائط عايشناها، وذلك في مدًى حرّ ورحب تبلغ لعبة التذكّر والتخييل فيه مداها. ولنا في كليلة ودمنة، تلك التحفة الأدبيّة الفنّية النثريّة التراثيّة، أكبر مثال على المبلغ الذي بلغه عمل نثريّ تخييليّ قبل نشأة الرواية، بمفهومها الحديث، في نقْد الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة السائدة، مُستعينًا بخيال طَلْق وإمكانات غير محدودة للتورية والتواري.
حَكَتِ الرواية العربيّة منذ نشأتها حكاية الاحتلالات العثمانيّة والفرنسيّة والبريطانيّة لبلداننا، كما حَكَتْ سيرورة الخروج من الريف إلى المدينة. حَكَتْ عن أحزمة الفقر وبيوت الصفيح، وعن وعودٍ وآمالٍ خاب مُعظمُها. حَكَتْ حكاية فلسطين ومأساة شعبها، حَكَتِ الكثير عن ظُلم المُجتمع للمرأة والحبّ المحرَّم والألق الحزبيّ والعدالة الاجتماعيّة والعروبة والهجرة… وصولًا إلى الزمن الراهن، وثورات الربيع العربيّ، والمُهمَّشين… وغيرها من الحكايات، التي تشي بعَظَمة الرواية في اختراق المسكوت عنه والتابوهات وبناء عوالِم مُوازية أكثر عدالة وإنصافًا وحبًّا.
وإذا كان من دَورٍ مهمّ للرواية في المرحلة الراهنة، فلا شكّ في أنّه ينهض من قدرتها على اختراق الزمن، لا انطلاقًا ممّا تسمح به خاصيّتها التركيبيّة والبنائيّة لجهة التجوُّل والسَّفر والذهاب والإياب بين الأزمنة فحسب، بل انطلاقًا من قدرتها على توليد زمنها الخاصّ المُناهِض للإيقاعات الزمنيّة الراهنة، المولودة من حركة لا تنقطع للتبادُلات المُعولَمة والسيطرة المُتزايدة للرأسمال الماليّ العالَميّ. تلك الإيقاعات الزمنيّة الراهنة التي تتميّز بقِصَرِ الفواصل بينها، والتي تُولِّد لدى الناس، بإجماع فلاسفة الزمن على اختلاف مَشاربهم، شعورًا بتسارُعه، وبانفلاته منهم، وكذلك إحساسًا دائمًا بضغط الوقت وضيقه، على الرغم من كلّ التسهيلات التي وفّرها التطوّر الحضاري وإنجازاته التكنولوجيّة التي تحقّقت منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن.
الزمن الخاصّ بالرواية قمينٌ بتعديل شعورنا بالزمن، أي بالديمومة البرغسونيّة، لقدرته على كبْح «تسارُع الزمن»، الذي تناوله الفيلسوف الألماني هارتموت روزا من منطلق إيقاعه وتأثيراته الضاغطة على المُجتمع عامّة، وذلك من خلال مُناهَضة سِمَتَيْن أساسيّتين للزمن الراهن؛ هُما «عنفه» و«دكتاتوريّته»، اللّتَيْن أفضتا إلى سيادة مَظاهر الطوارئ، والآنيّة، والفوريّة في المؤسّسة والمُجتمع بحسب نيكول أوبير.
ففي سياق السباق القائم على الفتْح والامتلاك، أصبح الطارئ أو المُلِحّ، الذي يحيل إلى زمنٍ اجتماعي مُختلّ، يضغطنا أو يضغط علينا من أجل التصرّف بسرعة أكبر بغية الاستفادة أكثر. وفي هذا الإطار تبقى الرواية، ومن خلال توليد أزمنتها الخاصّة، من أنجع الوسائل القمينة بمواجَهة هذا الزمن الطارئ أو المُلِحّ الذي يُمارِس عنفَه علينا، بعدما أضحت له أسبقيّة على الإنسان، الذي يُحاول جاهدًا، وأكثر من أيّ وقت مضى، الإمساك به أو كبْح جنوحه، في مناخات توتّرٍ مُعمَّمٍ، يُجبَر فيه الأفراد-بحسب نيكول أوبير- على إدارة وقتهم، ومن دون انقطاع، عبر الاهتمام بما هو الأكثر استعجالًا، وحيث يتغلّب الطارئ أو المُلِحّ على المهمّ، وزمن التصرّف أو العمل المباشر على زمن التأمّل.
على هذا تُسهم الرواية في تحريرنا من هذا العالَم المُضلِّل، الذي لم يُفضِ حقيقةً إلّا إلى وَهْم الحرّية. وقد توسّلت رواياتٌ عربيّة إبداعيّة في مسعاها التحريري مُحارَبة كلّ صنوف الاعتداء على الذاكرة في محاولةٍ دائمة ومتكرّرة لصياغة ذاكرة نقيضة وغير «معوَّقة»، أو انتشالها وإنقاذها من النسيان والتبدُّد؛ ذلك أنّ النصّ السردي هو أوّلًا وآخرًا، وبحسب بول ريكور «وساطة بين الإنسان والعالَم، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان ونفسه».
وباستنهاض الذاكرة وتفعيل سيرورة التذكُّر، تُمارِس الرواية وظيفة اجتماعيّة تُسهِم في تطوير الفكر وفي الارتقاء بالسلوك البشريّ والحضارة الإنسانيّة على حدّ تعبير الباحث الإيطالي نوتشيو أوردينه، والحؤول دون أن تكون الأجيال الطالِعة من البشر من دون ذاكرةٍ لا تَفْقَهُ للحياة، ولوجودِها في هذا العالَم؛ لذا ستستمرّ الرواية في إعادة تشكيل أُفق توقّعاتنا، وهي إذ تستمرّ بذلك تكون قد ضمنت لنفسها، كجنس أدبي فنّي، المُستقبل.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق