كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
طعام للمُتشرِّدين
جدَّتي، تطبخين أَلَذَّ ما لديك، وتُوَزِّعينه على المُتشرِّدين، وأنا معك، في البداية أقف على بُعْد أمتار قليلة منكِ، أراقبك، أخجل أن أعطي المُتشرِّدين، أشعر بارتباك خفيف لا أفهمه، لكني تشَجَّعْتُ، لم تقولي لي شيئًا كي أتَشَجَّع، فقط أرى تلك الضحكات الصديقة بينك وبينهم، لم يكن الأمر أنك تُوَزِّعين الطعام وتنصرفين، كأنكِ ملاك هبط عليهم من السماء، أو إنسانة بقلب كبير، أو أنهم بدونك سيموتون جوعًا، لا شيء من هذا لأنه بالفعل لم يكن أيّ شيء من هذا، لم يكن لديك شعور بأنك تُعْطِين، لم أرَ فيهم أنهم يأخذون، فقط تَمُدِّين يدك إليهم، يأخذون منك ببساطة، تجلسين إلى جوارهم لبعض الوقت، ينظر إليَّ أحدهم، فأختبئ بنصف جسدي خلف شجرة، أو خلف نفسي، وأفهمُ أنه يتحدث عني، أراك تلتفتين إليَّ وتبتسمين، لا تُشيرين لي كي أجيء إليك، تركْتِ الأمر لي، أفهمه وأقترب منه وحدي، كان هذا ذكيًّا منك، كنتِ تعرفين أني سأفهم وأقترب، صحيح؟ صِرْتُ أقف على مسافة أقرب، أسمعك أحيانًا تسألينهم عن رأيهم في طبيخك، فيضحكون، أنا أيضًا سأضحك، كنتِ تسألينهم بجديَّة، فيضحكون بجديَّة، أنت الطبَّاخة العظيمة، كل هذا لم يستغرق مني غير أسبوعين حتى طلبْتُها منك، أريد أن أُوَزِّع الطعام، في المرات الأولى تقفين إلى جواري، أو خلفي بنصف خطوة، بعد قليل تقفين على بُعْد خطوات، ثم صِرْتُ أفعل هذا وحدي بشكل كامل، أنتِ تطبخين وأنا أُوَزِّع، ومِثْلكِ، لم أشعر أبدًا أني أعطيهم، أو أنهم يأخذون؛ لأن الأمر في حقيقته ليس أن شخصًا يعطي وآخر يأخذ، إنما.. إنما ماذا؟ لم أهتم، أتبادل معهم حوارات، أسأل عن أحوالهم، يسألون عن أحوالي، وعنك، نضحك معًا، أجلس إلى جوارهم، بيني وبينهم حكايات نستكملها من مقابلة لأخرى، اكتشفْتُ سعادة خاصة، عرفْتُ أسرار عن المُتشرِّدين والشوارع، شكرًا لكِ، ولهم.
الحيوانات المُتشرِّدة تأتيكِ حتى باب بيتك، لكنهم، وبإرادة منهم لا يدخلون كي لا يُعطِّلوك، تضعين إلى جوار الباب أطباقًا ورقيَّة ملأى بالطعام الطازج، يأكلون وينصرفون إلى شوارعهم، تَشَرُّدِهم، في إحدى المرات، بينما أصعد السُّلَّم قابَلَني صَفُّ حيوانات، يمسحون فمهم بألسنتهم وأيديهم، نِمر، ثلاثة كلاب، ذئب، عنزة، قِطَّتان، وقفْتُ في جانب السلم لأُفسِحَ لهم، أبتسم وأمسح على ظهورهم أثناء مرورهم، يبتسمون لي ابتسامة شبعانة، رائحة طعامك اللطيفة تفوح منهم، قلتُ لهم: «تعالوا كل يوم»، ضحكوا، سمعْتُ النمر يقول: «أنا سأفعل»، راقبْتُهم حتى اختفوا في دوران السُّلَّم، صعَدْتُ درجتين، رأيت دُبًّا يخرج من بيتكِ جدَّتي، ربما دخل لأنه أراد منكِ شيئًا إضافيًّا، توقف أمام الباب لحظة يمُصُّ شفتيه، ثم التفَتَ خلفه إلى عمق البيت وهَزَّ رأسه بسعادة، كنتِ هناك بمواجهته، صحيح؟ أو ربما لا، في طريقه للنزول، نظر إليَّ، وقال: «نهارك سعيد، حبيبة»، «نهارك سعيد، دُبّ»، قلتُ وراقبْتُ مِشْيَتَه الظريفة لثوانٍ، وقبل أن أُكمل صعودي سمعْتُه يقول: «انتبهي للنمل»، رأيت على الأرض صفًّا من النمل ينزل السُّلَّم، بدايته عند بابكِ جدَّتي، لم أكن أعرف أن هناك نملًا متشرِّدًا، ربما النمل أحد المُتشرِّدين الكبار في العالم. سأراكِ جالسةً القرفصاء في شرفة مطبخك، وسط طيور تُطعمينها بيدك، عصافير، حمام، هداهد، وحولكم حبوب القمح، الذرة، فُتات الخبز، وأحيانًا شرائح فاكهة.
جدَّتي، ما كان ذلك الطائر ذو اللون الأحمر الناري، العينان البرتقاليَّتان، والجناحان العظيمان، يكاد أن يملأ الشرفة، كنتما وحدكما، يأكل من يدك جمرات مُتَوَهِّجَة، طائر العنقاء، صحيح؟ لم أره قبلها لكني عرفته، لم يكن لديَّ شك، نظرْتِ إليَّ عندها، ابتسمْتِ بهدوء، وأنا، لم أشأ أن أُزعج الطائر الذي يلتقط التوَهُّج من كفِّك بمنقاره الأصفر الذهبي، أومأتُ لك، ودخلْتُ غرفتي، رسمْتكما معًا، كنتُ مُتَوَهِّجَة بما رأيت، انتهيْتُ من لوحتي قبل أن ينتهي العنقاء من طعامه.
بعد أن سرقَكِ الزهايمر، رأيتكِ وأنتِ تطردين الطيور من شرفتك، وظلَّت هي تعود مئات المرات، لا لتأكل، إنما تريد أن تفهم ما حدث؟ رأيتكِ تطاردين الحيوانات على السُّلَّم، فتعود مئات المرات، لا أنسى منظر الدُّبّ وهو يبكي أمام بابك، ويتحَمَّل ضرباتكِ على رأسه بتلك العصا، حتى أخذْتُها منك، ورجَوْتُه أن ينصرف، فقط كان يريد أن يعرف ماذا حدث لك، كنتُ مستعدة أن أُطعمهم بدلاً منك، لكنهم حزَانَى لأجلك، عرفوا ما حدث لك، لم يعودوا ثانية، أقصد أنهم لا يجيئون إلى البيت، أراهم من وقت لآخر في شوارع قريبة، نتبادل الابتسام من بعيد، أو قريب، أحيانًا أجد نفسي وجهًا لوجه مع أحدهم، فأمسح على ظهره، أو رأسه، نتبادل كلمة أو اثنتين، أو يمضي كلٌّ منا دون كلام، أعرف أنهم يطمئنون عليك، أو فقط يريدون رؤيتك، سألمحهم أحيانًا في الطابق الثاني من المدرسة، حيث يكونون بمواجهة شُرْفة مطبخك، وعندما أفتح باب الشُّرْفة، يمكنهم أن يلمحوكِ تتحرَّكين داخل البيت، حبيبتي، سأفتح الباب فقط في الأوقات التي تكونين فيها هادئة.
فصل من رواية قيد النشر بعنوان «100 ملِّلي حبيبة».
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق