كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
قصائد الغبطة
التحية
هذه الأعضاء الرقيقة
هاتان العينان، هاتان اليدان، التي أجدها هنا
هذا القلب النابض، مبدأ حياتي،
أين كنتم؟ وراء
أي ستار كنتم قد اختبأتم عني لفترة طويلة؟
أين وفي أي هاوية، كان لساني المشَكل حديثًا؟
أنا في الصمت،
لآلاف وآلاف السنين
أنا الذي يرقد في الفوضى تحت الغبار،
كيف كان يمكنني أن أدرك
الابتسامات والدموع والشفتين واليدين والعينين والأذنين؟
طوبى لك يا كنوز أتلقاها الآن.
أنا الذي كنت لفترة طويلة
عدمًا منذ الأزل،
قليلًا ما خطر ببالي أنني سأحتفل أو أرى
أفراحًا مثل الأذن أو اللسان،
سأسمع مثل هذه الأصوات، وسألمس مثل هذين اليدين، ومثل هذين القدمين،
سألتقي بمثل هاتين العينين، وبمثل هذه الأشياء على هذه الأرض.
أفراح مجلوة حديثًا،
أجمل من الذهب الأكثر محصًا ومن اللؤلؤ
أي كنوز هي أعضاء الأطفال
التي تقيم فيها الروح؛
مفاصلها المنظمة وأوردتها اللازوردية
تحتوي على ثراء يفوق ما في العالم الهامد.
من الغبار أنبثق،
ومن العدم أستيقظ الآن.
المناطق الأكثر علوًّا التي تحييها عيناي،
أقبلها كهدية من الإله.
الأرض، البحار، النور، السماوات العالية،
الشمس والنجوم ملكي، إذا ما أثنيت عليهم.
غريب هنا
يصادف أشياء غريبة، ويرى مجدًا غريبًا،
كنوز غريبة موجودة في هذا العالم الكثير الجمال،
غريبة كلها وجديدة بالنسبة لي.
لكن أن تكون لي، أنا الذي لم يكن شيئًا،
هذا هو الأغرب، ومع ذلك فإنه يحدث.
براءة (مقطع)
كان ذلك المشهد باب السماء؛ ذلك اليوم
جلب ضوء عدن القديم
في روحي. كنت هناك آدم
آدم صغير في دائرته
من أفراح. هناك شعوري المفتون
كان موضع ترحيب في الجنة
وكان لديه نظرة عن البراءة
التي لم يكن لها ثمن بالنسبة لي.
فكرة مسبقة عن الجنة، بالتأكيد!
لأنني كنت على كل الأرض مَلكًا.
في داخلي، وخارج ذاتي، كان كل شيء نقيًّا
يجب أن أصبح طفلًا مرة أخرى.
الدهشة (المعجزة)
هبطت مثل ملاك!
كم هي ساطعة الأشياء هنا!
وعندما ظهرتُ لأول مرة بين أعماله،
كم كان تتويجي بمجدهم باهرًا.
كان العالم يشبه خلوده
حيث كانت روحي تتجول
وكل شيء كنت أراه
كان يحادثني.
السماوات في بهائها،
الهواء الخفيف السلس،
كان سماويًّا، وهادئًا، ورقيقًا وجميلًا.
وكانت النجوم تستقبل ملكة حدسي،
وكانت كافة أعمال الإله تبدو
مشرقة جدًّا ونقية،
غنية جدًّا وعظيمة،
كما لو كانت ستدوم إلى الأبد
في الفكرة التي أكوِّن عنها
صحة وبراءة أصليتان
كانتا تنموان داخل عظامي،
وبينما كان إلهي يظهر كل أمجاده،
شعرت بعنفوان في مَلَكتي
التي كانت كلها روحًا؛ في الداخل، كنت أغرق
في موجات حياة شبيهة بالخمر؛
كل ما كنت أعرفه في العالم
كان سماويًّا.
بدت الشوارع مرصوفة بالحجارة الذهبية،
كان الأطفال والفتيات الصغيرات لي.
وكم كان محياهم المحبب مضيئًا لي؛
أبناء البشر، كلهم مثل قديسين،
في فرح وجمال ظهروا لي حينها،
وكل الأشياء التي كنت أكتشفها
(بينما كنت أنظر بعيون ملاك)
كانت للأرض زخرفة.
الماسات الغنية واللؤلؤ والذهب
يمكن رؤيتهم في كل مكان؛
الألوان النادرة، الأصفر، والأزرق، والأحمر، والأبيض، والأخضر
اكتشفتها عيناي من جميع الجوانب؛
كل ما كنت أراه بدا وكأنه معجزة،
كانت دهشتي تُكوّن نعيمي.
كان ذلك وثروتي يسيران للقاء بعضهما في كل مكان.
أي فرح لا يُقضى عليه بالقرب من هذا.
المِلكيات الملعونة، المخترعة بشكل سيئ
المصحوبة بالحسد، والجشع
والسرقة (هؤلاء الأعداء الذين يفسدون الجنة ذاتها)
لم تكن ماثلة أمامي.
ولا الأسوجة، والخنادق والعلامات الضيقة.
لم تخطر في بالي ولا لحظة
لكن الرؤية التي كانت لدي عن جميع ميادين البشر
كانت تمنحني الراحة.
لأن المِلكية ذاتها كانت ملكيتي
وكانت الأسوجة تتحول إلى زينة:
جدران المنازل، والخزائن ومحتوياتها الغنية،
اتحدتْ لجعلي ثريًّا.
الملابس، والمجوهرات الثمينة، والدانتيل، كنت أراهم
مثل ثروتي الخاصة التي يحملها الآخرون،
وبدوا جميعا يرتدونها من أجلي
في لحظة ولادتي.
توماس تراهرن: وُلد 10 أكتوبر 1636م في هيريفورد، وتُوفِّيَ 10 أكتوبر 1674م في تدينغتون؛ رجل دين، وكاتب، وشاعر إنجليزي؛ لكنه لم يُعرَفْ ناظمًا للشعر طوال حياته؛ لكنه اليوم يُعَدُّ أحد كبار الشعراء الميتافيزيقيين. اكتُشفت أشعاره مصادفة وتُعُرِّفَ إلى هوية صاحبها في بداية القرن العشرين، ونُشرت أعماله في جزأين؛ الأول منهما سنة 1903م، والثاني سنة 1904م. وعثر الباحثون أيضًا، في عام 1996م، على قصيدة ملحمية له من 1800 بيت شعريّ.
اكتشاف كتابات تراهرن الشعرية دفع بالكثير من المجلات الثقافية التي كانت تصدر خلال العقود الأولى من القرن العشرين، إلى تخصيص صفحات وأحيانًا ملفات لهذا الشاعر الميتافيزيقي. وهكذا، وتحت عنوان «قصائد الغبطة»، نشرت مجلة «هيرميس»، في عددها الصادر بتاريخ يناير 1936م في بروكسيل، مقتطفات من شعر توماس تراهرن، ترجمها الشاعر والفيلسوف الفرنسي جان فال. يقول هذا الأخير في تقديمه للأشعار المترجمة: «يعود اكتشاف قصائد توماس تراهرن، الكاتب المنتمي إلى القرن السابع عشر، إلى خمس وثلاثين سنة. برترام دوبيل هو من عثر على المخطوط… غالبًا ما يقال: إن منجزاته النثرية تفوق منجزاته الشعرية. ومهما كان كمال نثره، فإنه ليس أكثر قيمة من النقص المجيد لأبياته الخالية من الزخرف. موضوع تراهرن، هو دخول الروح، الروح الفقيرة التي لم تكن شيئًا، في الجسد الرائع، والهائل، وفي الكون. إنه يغني حالة ما قبل- آدمية، حيث كل شيء نقيّ، وحيث الحواس ممزوجة بالفكر، وحيث الروح تمتلك كل شيء، وترى كل شيء، وتَعُدّ كل شيء جيدًا ودون نقيصة».
المجلة التي كانت سبّاقة إلى تقديم تراهرن إلى قراء اللغة الفرنسية، خصصت عددًا للشعر الميتافيزيقي شمل، إضافة إلى ترجمة فال، مقالًا لإتيين فوتيي عن «الشعراء الميتافيزيقيين والميتافيزيقيين الشعراء»، ودراسة في «بعض موضوعات الشعر الميتافيزيقي في الآداب الإسلامية» لإميل ديرمينغيم. تجدر الإشارة إلى أن قراءة بعض نصوص تراهرن تذكر قراء اللغة العربية بعينية ابن سينا في النفس «هبطت إليك من المحلّ الأرفع/ ورقاء ذات تعزز وتمنع» وبالنصوص العميقة التي أبدعها متصوفة المشرق والمغرب، وإن كان جان فال يشدد على علاقة بعضها بالفيلسوف روسو وبالرومانسيين الألمان.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق