كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
خطاب الرئيس ماكرون حول الإسلام والمعضلة الإخوانية في فرنسا
في مطلع أكتوبر الماضي، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خطابًا كان مخصصًا للتوقف عند المعضلة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية حصرًا، متحدثًا تحديدًا عما اصطلح عليه بـ«الانفصالية الإسلامية»، أو قل الانفصالية الإسلامية الحركية؛ لأنه يقصد بذلك ظاهرة التشدد الديني أو الغلو الديني الذي بزغ هناك خلال العقود الأخيرة، ولم يكن يقصد واقع المسلمين هناك، الذين يناهز عددهم نحو سبعة ملايين مسلم، بل يقترب هذا العدد من نسبة 10% من الساكنة الفرنسية، بمعنى أنه حتى من منظور سياسي انتخابي براغماتي لا يمكن أن تكون الجالية المسلمة أو الأقلية المسلمة في فرنسا، هي المعنية بمضامين هذا الخطاب، إنما المعنيّ الأول والأخير، المشروع الإسلامي الحركي الانفصالي.
مباشرة بعد هذا الخطاب، انخرط العديد من الأقلام الفرنسية والعربية والإسلامية في التفاعل معه، سواء من باب التأييد أو من باب النقد، بصرف النظر عن مرجعية التفاعل، لأن الأمر همَّ مجموعة من المرجعيات والأيديولوجيات، بما في ذلك الأيديولوجيات الدينية والمادية، وبصرف النظر أيضًا عن طبيعة التفاعلات، التي في الأغلب تتوزع على اتجاهين اثنين: اتجاه تفاعلي أيديولوجي صرف، يُسهِم في التشويش على الموضوع، وإثارة القلاقل التي نحن في غِنًى عنها؛ واتجاه تفاعلي معرفي، ميزته الأهم أنه ينتصر للمقاربة الرصينة والنافعة، بما في ذلك الاتجاه الذي يبحث عن المشترك الإنساني، ومن ثَمّ يأخذ مسافة من خطاب الصدام والاختزال، السائد لدينا ولديهم على حد سواء.
وعِوَضًا عن أن تنخرط أقلام الساحة العربية والإسلامية، في تقييم وتقويم ما جاء في الخطاب، من باب الإنصاف، وبمقتضى غلبة القراءات الأيديولوجية في الساحة؛ هيمن خطاب إثارة العواطف، ودخلت الأصوات الإسلامية المتشددة، وفي غضون الشهر نفسه، تطورت التفاعلات من العالم الرقمي والمنابر الإعلامية، إلى العالم المادي على أرض الواقع، عندما تورَّط شاب مسلم من أصل شيشاني، في مقتل مدرس تاريخ، بسبب مبادرة لهذا الأخير، ذات صلة بعرض بعض الرسوم الكاريكاتيرية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، على التلاميذ، حيث طلب من التلاميذ المسلمين الانسحاب سلفًا من القسم، حتى لا يتسبب في إثارة حساسيات دينية.
وهو الحدث الذي تلاه تفاعل صانعي القرار مرة أخرى، ووصل إلى التأكيد أن مقتضى «حرية التعبير» لديهم، يُخول لهم إعادة نشر تلك الرسوم في بعض المنابر الإعلامية، موازاة مع عرضها في بعض الساحات العمومية، بكل التداعيات الإقليمية التي ستتلو هذه التطورات، ومنها دعوة بعض الفعاليات في المنطقة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية، وفي مقدمتها الفعاليات المحسوبة على الحركات الإسلامية، التي كانت المعنيّة الأولى بخطاب إيمانويل ماكرون.
كشفت هذه الأحداث عن قدر كبير من الجهل المتبادل بين أغلبية المتفاعلين، ومنه جهل أبناء المنطقة بواقع العلمانية في نسختها الفرنسية، وجهل مضاعف بأنماط العلمانية في الساحة الغربية؛ لأن العلمانية علمانيات، كما كشفَت عن جهل أقلام الساحة العربية بواقع المعضلة الإسلامية الحركية التي بزغت هناك، موازاة مع معضلة تهمُّ الفرنسيين، وبعض الأوربيين، وهي معضلة الإسلاموفوبيا، فأصبحنا أمام صراع بين تشدُّدينِ، هما مجرد أقلية، ولكنهما يثيران القلاقل للجميع.
نروم في هذه المقالة، التوقف بالتحديد عند واقع الظاهرة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، ما دام هذا الواقع، كان في صلب خطاب الرئيس الفرنسي.
حتى عقد ونيف، كانت أخبار المسلمين في الساحة الفرنسية، حيث توجد أكبر جالية مسلمة في أوربا، لا تخرج عن عناوين من طينة: «مشكل الهجرة»، و«قلاقل ضواحي المدن الكبرى»، و«الجاليات العربية وتحدي الاندماج في المجتمع». ولكن مع تغلغل المشروع الإسلامي الحركي هناك، وفي مقدمته المشروع الإخواني، تحت اسم «اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا»، تغيرت تلك العناوين، فأصبحت الإحالة مباشرة على مشاكل المسلمين وقلاقل الجماعات الإسلامية، سواء كانت مشاكل تهم حالات فردية، متورطة في إبداء مواقف متشددة أو شاذة عن خطاب المسلمين هناك، أو كانت مرتبطة بخطاب تجمعات أو مؤسسات أو منظمات جمعوية، تخدم المشروع الإسلامي الحركي بشكل عام، والمشروع الإخواني بشكل خاص، بحكم غَلَبة الهاجس السياسي في الجهاز المفاهيمي عند أتباع هذا المشروع.
وليس مصادفة أن هذه التطورات، دفعت صناع القرار في باريس للاشتغال على تقارير بحثية، تسلط الضوء على المعضلة الإسلامية الحركية، ولن تكن آخر هذه التقارير، ما جاء في مضامين عمل بحثي رسمي، حتى في العام الماضي، أشرف عليه الباحث حكيم القروي، وعنوانه «صناعة الإسلاميين»، وجاء في 617 صفحة، وخلُصَ إلى التأثير الكبير لمواقع التواصل الاجتماعي في انتشار هذه الأفكار، مؤكدًا «تنامي الأيديولوجيا الإسلامية»، رغم أن «الإسلاميين يشكلون أقلية بسيطة بين مسلمي فرنسا»، ومضيفًا أن السلفيين «يكسبون مواقع داخل الجالية المسلمة»، خصوصًا «الشبان دون 35 عامًا»، داعيًا صناع القرار إلى امتلاك «وسائل وشبكات مهمة لبثّ خطاب مضاد» للأفكار الإسلامية الحركية.
في هذا السياق، صدر كتاب بالفرنسية عنوانه: «الضواحي التي غزتها الإسلاموية» لبرنارد روجييه وجاء في 412 صفحة، ط 1، يناير 2020م، محاولًا الإجابة عن مجموعة أسئلة، منها، على سبيل المثال لا الحصر: «كيف انتشر المشروع الإسلامي الحركي في ضواحي المدن الفرنسية، في دولة تتميز بأن نموذجها العلماني مختلف عن باقي النماذج العلمانية في القارة الأوربية؟ وكيف استطاعت مشاريع عربية أن تروج تصورها للإسلام في عقر الديار الفرنسية؟ ما تقاطعات المشاريع الإسلامية الحركية في فرنسا؟
والعمل في الواقع، عبارة عن تجميع دراسات ميدانية ونظرية، استمرت طيلة مدة تُرَاوِحُ بين ثلاث سنوات وأربع سنوات، أشرف عليها مؤلف الكتاب، الباحث الفرنسي برنارد روجييه، وهو بروفيسور في جامعة باريس 8، السوربون الجديدة، ولأهمية مضامين العمل، سُلِّطَ الضوء الرسمي والإعلامي عليه في الأشهر الأخيرة، إلى درجة استدعاء الباحث لكي يدلي بشهادته والرد على أسئلة أعضاء مجلس المستشارين الفرنسي. ومن مؤلفاته السابقة، نذكر: «الجهادي اليومي» 2004م، وترجم إلى الإنجليزية، حيث صدر عن جامعة هارفارد في 2007م؛ و«تشرذم الأمة» 2011م، وترجم إلى الإنجليزية، حيث صدر عن جامعة برنستون في عام 2015م. من مميزات العمل، أنه يتوقف بالشهادات والوقائع عند بعض معالم الأسلمة التي أصابت العديد من الضواحي الفرنسية، وبدرجة أقل الضواحي الأوربية، ومنها ضاحية بلدية مولنبك، التي بزغ اسمها في 22 مارس 2016م على هامش اعتداءات مترو الأنفاق في العاصمة البلجيكية.
مفاصل الإسلاموية في فرنسا
يشتغل العمل الجماعي على كشف بعض مفاصل العمل الإسلامي الحركي في الساحة الفرنسية، وأداء هذا المشروع في المراكز الدينية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني، التي تفضي مع مرور الوقت إلى تأسيس عزلة مجالية لمسلمي هذه الفضاءات عن المجتمع الفرنسي، ولا يتعلق الأمر هنا بالمراكز الثقافية والدينية وحسب، بل يهم منظمات المجتمع المدني، والنوادي الرياضية والسجون، وباقي التجمعات التي تتميز بحضور نسبة نوعية للمسلمين هناك، مع أن هذه تحولات لم تكن قائمة من قبل، أثناء قدوم الأجيال الأولى لمسلمي فرنسا، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق إعادة إعمار القارة ومعها فرنسا، مع تذكير المؤلف الضروري هنا بأن هذا الجيل الأول لمسلمي فرنسا، جاء بالتحديد بين عامي 1970م و1980م، بينما سوف تبزغ المشاكل المرتبطة بالتدين الإسلامي، لاحقًا بعد قدوم المشروع الإخواني، كما جسدت ذلك واقعة الحجاب الشهيرة في عام 1989م؛ بسبب العمل الميداني الذي كان وما زال تقوم به مؤسسة «اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا» التي تُعَدُّ بمنزلة الفرع الفرنسي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
من مفاتيح العمل النظرية، التي تتلوها تطبيقات عملية على أرض الواقع، مفتاح عنوانه تعامل الإسلاميين في فرنسا مع العلمانية، حيث أشار المؤلف إلى أن العلمانية في نسختها الفرنسية بالتحديد، لا تمنع المسلمين من ممارستهم شعائرهم الدينية، بدليل وجود مساجد لإقامة الصلاة، ومكتبات تبيع الكتب الإسلامية، وغيرها من المؤشرات الميدانية، ولكن ما تعارضه هذه المنظومة، هو التأسيس لخطاب طائفي، تروجه مجموعات بشرية ما، تدعي أن قيم الطائفية أسمى من الدولة والمعتقد، ومن هنا عداء الإسلاميين لقيم الجمهورية، بل يتحدث المؤلف عن رغبتهم في القضاء على الجمهورية؛ لأنهم ضد «الإسلام الليبرالي» المفتوح على النموذج الفرنسي.
وتوقف المؤلف عند مجموعة من الرموز الفرنسية التي تنحدر من الجالية المسلمة، سواء كانت تحمل الجنسية الفرنسية أم لا، منوّهًا بانخراطها في النسيج المجتمعي الفرنسي، انطلاقًا من مرجعيتها الثقافية والدينية، عادًّا أن هذه النماذج تجسد هاجسًا حقيقيًّا لمشروع الحركات الإسلامية في فرنسا، وبيان ذلك أن هذه النماذج لا تشتغل بعقلية الأسلمة، وإنما تترك الاعتقاد الديني في المجال الخاص أو في الدائرة العائلية حتى المجتمعية مع الفرنسيين غير المسلمين (من المسيحيين واليهود مثلًا)، من دون فرض وصاية إسلامية ما.
في معرض البحث عن أسباب غزو التديّن الإسلامي الحركي لدى الجاليات المسلمة في الضواحي الفرنسية، يُسلط الكتاب الضوء على أسباب عدة، ويصمت عن أخرى. فمن الأسباب التي يصمت عن الخوض فيها، مسؤولية السياسات العمومية للحكومات الفرنسية خلال العقود الأخيرة، وبخاصة السياسات العمومية التي تهمّ الضواحي، ومن الأسباب الخاصة بالتديّن الإسلامي، توقف الكتاب عند مسؤولية العديد من الدعاة والوعاظ الإسلاميين، الذين أرسلتهم الدول المغاربية، وليس مصادفة أن هذه الجزئية، ستكون أرضية التوجه الذي من المفترض أن تتبناه الدولة الفرنسية خلال السنوات القادمة، وعنوانه إيقاف نظام إعارة الأئمة من المنطقة العربية، أي الخيار الذي كانت تتبعه باريس طوال السنوات الماضية، وذلك في إطار خطة لمواجهة «الإسلاموية» وتعزيز قيم العلمانية بالجمهورية، حيث من المفترض، كما أشارت إلى ذلك أسبوعية «لوبوان» الفرنسية، حسب مضامين وثيقة «إستراتيجية لمحاربة الإسلاموية وضد الهجمات على مبادئ الجمهورية»، إنهاء «نظام الأئمة المعارين» من المغرب وتركيا والجزائر، مقابل تدريب الأئمة الفرنسيين من خلال تطوير «دورات في علم الإسلام» في الجامعات، ومشاريع المدارس الدينية، وخصوصًا في المؤسسات العسكرية والمستشفيات.
بل كان برنارد روجييه صريحًا في التأكيد أن خلاصات هذا العمل الجماعي، تفيد أنه طيلة ثلاثة عقود مضت، تأسست في فرنسا شبكات إسلاموية معقدة، تروم الهيمنة على تديّن مسلمي فرنسا، منوهًا بكون أغلب الأئمة في فرنسا لا علاقة لهم بالحركات الإسلامية، ولكن مؤكد أيضًا، يضيف روجييه، أن نسبة لا بأس بها من أئمة فرنسا، تنتمي إلى الأيديولوجية الإسلاموية، وخصّ بالذكر أربعة توجهات إسلاموية، يتقدمها المشروع الإخواني، ثم التيار الديني المحافظ، باسم السلفية، وبعده في مقام ثالث جماعات «الدعوة والتبليغ»، وأخيرًا، المشروع «الجهادي»، وإن كان أقلية في التصنيف الذي خلصت إليه أعمال الكتاب، عادًّا هذه المجموعات أو التيارات الأربعة، منخرطة في منافسة ميدانية من أجل الظفر بتمثيل الإسلام في الضواحي والأحياء والسجون والمؤسسات، مع اتفاقها الجماعي على معارضة النموذج الجمهوري والعلماني في الحكم للدولة الفرنسية.
أما أداء جماعات «الدعوة والتبليغ»، فيأخذ عليها الكتاب أنها تتبنى «أسلمة فولكلورية»، من باب الاقتداء بالنموذج النبوي حسب تصور أدبيات الجماعة، ومن هنا القيام بما يصطلح عليه أتباع الجماعة بمبادرات الخروج في سبيل الله، أي ممارسة الدعوة والوعظ في الأحياء والشارع، وبخاصة لدى أبناء الجاليات المسلمة، سواء استمرت المدة ثلاثة أيام، أو أربعين يومًا أو ثلاثة أشهر. صحيح أن هذه الجماعات بعيدة من العمل السياسي، وهذه ميزة نعاينها عند جميع تفرعات «الدعوة والتبليغ» في العالم الإسلامي والعالم الغربي، وليس في فرنسا وحسب، ولكن من أهم المؤاخذات عليها، حسب الكتاب، أنها جماعة تكرس ما يُشبه القطيعة مع المجتمع، مع أنها عضو في مؤسسة «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية»، أي المؤسسة التي تُعَدّ الناطق الرسمي باسم مسلمي فرنسا أمام السلطات الفرنسية وصانعي القرار.
ولكن مسألة القطيعة مع المجتمع كما أشار إليها المؤلف في معرض الحديث عن مشروع جماعات «الدعوة والتبليغ»، لا تهم هذه الجماعة وحسب، وإنما تهم مُجمل المشاريع الإسلاموية سالفة الذكر، محذرًا من مأزق الفصل بين هذه المشاريع، بوصفها منخرطة في غزو إسلاموي للإسلام الفرنسي، أو قل غزو إسلاموي أيديولوجي لتديّن مسلمي فرنسا الذي لم تكن له أي علاقة مع هذه الأيديولوجيات، على الأقل قبل قدومها وتغلغلها في المجتمع الفرنسي، وخصوصًا في ضواحي المدن الكبرى والمتوسطة.
ومما يغذي هذه الخلاصة، النتائج التي توصل إليها الباحثون المشاركون في هذا العمل الجماعي على هامش التدقيق في مضامين الكتب الإسلامية التي توزع وتباع في فرنسا، حيث اتضح أن نحو 31% من هذه الكتب، تتطرق لقضايا الفقه والعبادات والمعاملات، بينما يتطرق الباقي إلى الحديث عن «الدين الصحيح»، الذي يواجه الاعتداء الغربي، بما يُغذي الخطاب الإسلامي المتشدد من جهة، وخطاب أحزاب اليمين السياسي من جهة ثانية، حيث يتضح أن كليهما يريد إقناع المسلمين وغير المسلمين بأن الإسلاموية هي الإسلام، بينما الأمر خلاف ذلك. وما يعقد المشهد حسب المؤلف، أن هناك نسبة من النخب الفكرية اليسارية، تغذي هذا الطرح الاختزالي، وبخاصة اليسار المنخرط في نقد الأطروحات الاستعمارية.
معالم المشروع الإخواني في فرنسا
نأتي لأداء المشروع الإخواني في فرنسا، الذي يُسَلَّط الضوء عليه كثيرًا مباشرة بعد أي اعتداء إرهابي تتعرض له فرنسا، بمقتضى دعوة الرموز الإخوانية إلى ضرورة احترام قوانين الجمهورية، ويرى المؤلف أن المشروع الإخواني هناك تعرض لزعزعة نسبية بسبب الحضور السلفي، ولكنه ما زال قائمًا في مجالات ومبادرات عدة، منها مبادرة «تحالف المواطنة» الذي نظم مبادرة 21 مايو 2019م بمدينة غرونبل (جنوب شرق فرنسا) التي تدعي الانخراط الميداني في تنفيذ أعمال خيرية وإحيائية، من قبيل تنظيف الشوارع والمصاعد الكهربائية، ولكن تحت غطاء خطاب وعظي ديني، محسوب على المرجعية الإخوانية.
في معرض تقديم أجوبة عن أسباب تحول شباب منحرف نحو المشروع «الداعشي»، حتى إن عدد الفرنسيين الذين شدوا الرحال إلى سوريا خلال السنين الأخيرة، قبل سقوط تنظيم «داعش» ناهز 1500 شاب، بمن فيهم بعض زوجات هؤلاء، يرى المؤلف أن الأيديولوجية الداعشية، كانت ذكية في استقطاب هؤلاء من خلال تأصيل الاتِّجار في المخدرات أو سرقة أموال مؤسسات عمومية، بما فيها البنوك، بوصفها «نضالًا ضد الدولة الكافرة»، ومن ثَمَّ عَدّ تلك الأعمال جهادًا، ونستشهد هنا بعدة نماذج ميدانية، نذكر منها حالة محمد مراح أو صبري السعيد، مطالبًا بعدم اختزال هذه الحالات وتصنيفها في خانة «الذئاب المنفردة»، بقدر ما يتعلق الأمر بفشل إدماج الشباب، حيث استغله الخطاب الداعشي ووظَّفه لصالح مشروعه القتالي.
توقف الكتاب أيضًا عند بعض معالم التوافقات التي تنخرط فيها الرموز الإخوانية الفرنسية أثناء الاستحقاقات الانتخابات، البلدية والتشريعية، بمقتضى الحضور الميداني الجَلِيّ للمشروع الإسلامي الحركي، سواء في المؤسسات الثقافية أو في الضواحي والمساجد والجمعيات الرياضية ومحلات التجارة التي يُصطلح عليها هناك «التجارة الحلال»، والمؤسسات التعليمية. ومن نتائج ذلك، أن المنتخبين الفرنسيين، يتورطون في تغذية هذا المشروع وتقويته، إما بسبب الجهل بأداء هذه الأيديولوجيات الدينية، أو بسبب الرغبة في الظفر بأصوات الناخبين الفرنسيين من أصل إسلامي، فيما يُكرس ما يُشبه «اختطاف الدين» بتعبير المؤلف.
توقف المؤلف هنا عند حالة الباحث مروان محمد، الذي كان يُعَدّ أحد الأقلام البحثية والإعلامية التي كانت محسوبة في زمن مضى على الداعية والباحث طارق رمضان، حيث استعرض ارتباطاته بالمشروع التركي، بمقتضى دخول أنقرة على الخط الإسلامي الفرنسي عبر التمويل والدعم والمتابعة، من خلال أداء وزارة الشؤون الدينية التركية، موازاة مع الحضور الإسلامي الكبير في الساحة الألمانية، كما أشار المؤلف إلى اشتغال الإخوان في فرنسا على تأسيس هيئات ومنظمات إسلاموية جديدة، تكون البديل الميداني لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، بعد أن أصبح هذا الاتحاد عند صناع القرار وعند الباحثين والإعلاميين المتتبعين، محسوبًا على المشروع الإخواني، بينما الأمر مختلف مع المنظمات البديلة، من خلال عمل المشروع الإخواني بخيار التقية. وفي مقدمة هذه الهيئات، جامعة إسلامية، تحمل اسم ابن خلدون، حيث إلزامية تعلم اللغة التركية والعربية، انسجامًا مع مقتضيات التمويل التركي، بهدف إحداث اختراق المصالح السياسية التركية لدى الجاليات المسلمة في فرنسا، مع أنها جالية أصلها مغاربي أساسًا، وليست من أصل تركي.
في سياق التصدي للمشروع الإسلاموي عامة، بما في ذلك الإسلاموية الإخوانية، بوصفها الأكثر حضورًا في منظمات المجتمع المدني، يقترح المؤلف الانتصار لقيم الديمقراطية الحديثة، في شقيها الليبرالي (عبر ثنائية القانون والحرية) والجمهوري، محذرًا من أن فئة معينة من الإسلاميين، وبخاصة التيار الإخواني، توظف الشق الليبرالي في الديمقراطية، خدمة لأجندات طائفية، وانخراطها موازاة مع ذلك في نقد التاريخ الفرنسي، وتاريخ الثورة الفرنسية والمرجعيات الجمهورية.
نقد خبراء الإسلاموية في فرنسا
من مفاتيح الكتاب كذلك، تسليطه الضوء على مضامين المكتبات الإسلامية، حيث الحضور الكبير للخطاب الإسلامي الحركي، وتأثير هذا الخطاب في رؤية الشباب للآخر: العائلة، المجتمع، الدولة، المرأة… إلخ، مضيفًا أنه يمكن أن نجد الأعمال التي تتطرق للروحانيات الإسلامية أو للتصوف الإسلامي في المكتبات الفرنسية الكبرى والمتوسطة، ولكن هذه الأعمال غائبة وشبه محاربة في المكتبات الإسلامية المحسوبة على المرجعيات الإسلاموية، الإخوانية والسلفية.
وكانت هذه الجزئية الخاصة بالكتب الإسلامية، مناسبة لكي ينتقد المؤلف مواقف بعض الباحثين الذين يقزمون من تأثير الخطاب الإسلاموي، نذكر منهم أوليفيه روا وفرهاد خوسروخفار، مؤاخذًا عليهما، أنهما غير متمكنين من اللغة العربية، مذكرًا القارئ والمتتبعين، كما نقرأ في أحد الحوارات معه، أنه مباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، عاينا طلبًا كبيرًا على الكتب الإسلامية من الجميع، لولا أن واقع الحال في المكتبات الإسلامية، يفيد أن العديد منها تابع للأيديولوجيات الإسلاموية.
هذا معطى يُحيلنا إلى أحد أسباب نزول الكتاب التي تتطلب الكثير من التأمل، والإحالة على حالة تذمر أعلن عنها مرارًا برنارد روجييه مردّها تواضع الأعمال البحثية التي تتطرق للحالة الإسلامية في فرنسا، عادًّا أن النخبة السياسية والبحثية في فرنسا، تعاملت بازدراء كبير مع المشاكل المرتبطة بمسلمي فرنسا… وانتقد روجييه الخيط الناظم للعديد من الإصدارات الفرنسية المتواضعة التي اشتغلت على الظاهرة الإسلامية الحركية، إلى درجة وصول الأمر إلى أن بعض هذه الدراسات، اختزلت الظاهرة في البعد النفسي (الإحالة هنا مثلًا على أعمال عالم النفس الفرنسي من أصل تونسي فتحي بن سلامة)، أو تهميش التطرف لدى الأوربيين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد ناهزت نسبة هؤلاء في الظاهرة الجهادية الفرنسية نحو 10%، مع أن كل الظروف كانت متوافرة لكي يشتغل الباحثون هناك على الظاهرة من منظور علم الاجتماع خاصة.
إستراتيجيات العمل الإسلاموي
حاصل المشهد الإسلامي الحركي في فرنسا، أنه منذ عقدين تقريبًا، أصبحنا أمام تيارات دينية تريد السطو على المؤسسات الإسلامية والمشهد الإسلامي في فرنسا، مع استهداف الفئات المجتمعية الهشة من جهة، واستغلال النتائج السلبية لفشل سياسات إدماج الجاليات المسلمة من جهة ثانية، ليبقى الهدف موجهًا نحو إعادة تأهيل وإدماج في المجتمع من منظور إسلاموي صرف، إخواني خاصة.
من تطبيقات هذه الإستراتيجية، أننا نعاين عملًا ميدانيًّا فاعلًا لهذه التيارات الدينية، مؤسسًا على علاقة العداء التلقائي تجاه المخالفين، ومن نتائج ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، أن كل ما يصدر في حق هذه التيارات الإسلاموية عامة، على هامش التفاعل المجتمعي مع تبعات اعتداء مثلًا، أنه يُواجَه بخطاب التشكيك، من قبيل الحديث عن «الخلط بين التطرف والإسلاميين» أو أنهم «يهاجمون الإسلام» واتهامات أخرى موازية وجاهزة.
وموازاة مع خطاب الإخوان وباقي الإسلاميين، توقف المؤلف عند إشارات أو توجيهات بعض المواقع الإسلاموية الجهادية، تنصح الأتباع المنخرطين في العمل البحثي بالتسجيل في المؤسسات الأكاديمية لنيل شهادات جامعية، من باب اختراق الجامعات، والهدف حسب هذه الدعاية الإسلاموية، هو معرفة العدو ومنافذ السلطة والمؤسسات، في إطار العمل بإستراتيجية التمكين.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق