المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

هل يمكن إقامة حداثة أخلاقية بلا فضيلة؟

القراءة الجماعوية لأزمة القيم لدى ألسدير ماكنتاير

بواسطة | سبتمبر 1, 2020 | مقالات

في كتابه «بعد الفضيلة: بحث في النظرية الأخلاقية» يقترح علينا ألسدير ماكنتاير(١) نقدًا طريفًا لجملة الحداثة بوصفها في عمقها إشكالية أخلاقية سيّئة الطرح. وذلك أنّها انحرفت عن التقليد الفلسفي العريق للفلسفة الخلقية -أي تقليد التفكير في الفضيلة والسعادة على عادة القدماء إلى حد ابن رشد- وعوّضته بنظريات نقدية حول مدى إمكانية «تسويغ» الأخلاق بشكل عقلي.

وفي هذا الصدد، هو يفترض أنّه لا يمكن فهم الأخلاق الحديثة إلَّا «من وجهة نظر خارجية» (ص13-14)، وذلك يعني عنده أنّه لا توجد معايير «كونية» أو «غير شخصية» يمكن أن تحكم بها على الصلاحية الأخلاقية التي يجب أن تتوافر في «القيم» المتنازع عليها، والموجودة لدى شعب ما أو في ثقافة ما. وذلك على خلاف ادّعاءات فلسفة التنوير منذ كانط التي أخذت تبحث بدءًا من القرن الثامن عشر عن مثل تلك المعايير الكونية من أجل فرضها
على الإنسانية.

وهكذا فإنّ أجدر طريقة لمعالجة المسألة الأخلاقية المتنازع عليها بين المحدثين (من كانطيين وأتباع مذهب المنفعة خاصة) هي أن نعود إلى «تقليد» آخر «غير حديث» كان قد صاغه أرسطو تحديدًا، وذلك من أجل «أن نفهم نشوء الحداثة الأخلاقية وورطتها» (ص16). لكنّها «عودة» تاريخية حمّالة لأمل أخلاقي جديد (ص15) وليس مجرّد «نوستالجيا» حزينة: لا نستطيع أن نفهم أنفسنا المعاصرة إلَّا «باستعادة تذكّر الأحداث من وجهة نظر الحداثة» (ص158) استعادة «تاريخية»، تفترض صراحةً أنّه لا يوجد «تسويغ عقلي» كوني للمعايير بل فقط إنّ المعايير «تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر (ص19)، وبالتالي نحن لا نستطيع أن نشرح مفهوم «الخير» الإنساني إلَّا بالاستناد إلى «مفردات اجتماعية محضة، وبلغة الممارسات والتقاليد والوحدة القصصية للحياة الإنسانية» (ص16).

لا أحد يكون «متخلّقًا» إلَّا بمعايير الثقافة التي ينتمي إليها، ومن ثمّ فإنّه لا يفهم «معنى» قيمة من القيم إلَّا متى نجح في إدراجها ضمن «قصة» متّسقة من الممارسات أو التقاليد الثقافية الخاصة بجيله أو شعبه أو عصره. وذلك أنّه لا توجد «معاير حيادية» (ص21) يمكن أن نحكم بها على الصلاحية الأخلاقية لمفهوم أو سلوك ما. ما يوجد حقًّا في كل مرة هو «نمط من الحياة الإنسانية» حيث تكون مجموعة من «الفضائل» هي «متجسّدة» بشكل «تاريخي» في ثقافة شعب «مخصوص» (ص23).

الفضيلة تُعاش ولا تُستنبَط من أيّ عقل لا يرانا: علاقة جديدة بين الهوية والأخلاق.

علينا هنا أن نبصر بالتقابل الذي يريد ماكنتاير أن ينصبه بين نوعين من الفلسفة الأخلاقية: بين الحداثة الليبرالية والفردانية التي تفترض وجود معايير كونية (ذات طبيعة «قانونية» حول ما هو «عادل» دومًا، كما صاغها كانط) يجب فرضها بوصفها «واجبات» خلقيّة شكلية «محايدة»، وبالتالي فارغة من أيّ تصوّر ثقافي حول معنى «الخير الإنساني» الذي تؤمن به «جماعة» أو يحمل توقيع أمّة معيّنة، وبالتالي هي بمنزلة محكمة عقلية للبتّ في صلاحية المفاهيم الأخلاقية المتنافسة، وبين موقف فلسفي «مضاد للحداثة الأخلاقية» الليبرالية والفردانية، يستلهم عناصر قوّته النظرية من «تقليد» أخلاقي ينسبه تاريخ الفلسفة المعاصر إلى القدماء، وبخاصة إلى أرسطو (وهو ما يعني أنّه ينسحب على حقبة الفلسفة العربية).

وهو تقليد غير ليبرالي ولا فرداني بل يتصوّر أنّ «الخير» الخلقي (وليس «الواجب الخلقي» أو «المنفعة» الفردية) هو موضوع الفلسفة الأخلاقية، وهو خير متجسّد في «فضائل» لا يتمّ «استنباطها عقليًّا» بل «يعيشها» أناس حقيقيون منخرطون في «قصة حياتهم»، وذلك في خضمّ سعيهم إلى «بناء وإبقاء أشكال من المجتمع موجهة نحو التحقيق المشترك لتلك الخيرات المشتركة، التي من دونها لا يمكن تحقيق الخير الإنساني الأقصى» (ص23).

وينطلق ماكنتاير في كتابه من «اقتراح مقلق» (ص33 وما بعدها)، وهو أن نفترض أنّ كارثة بيئية قد حدثت، وصار البشر يعيشون بعد تلك الكارثة في حالة فوضى. ومن ثمّ علينا أن ننطلق من أنّ «اللغة الأخلاقية في العالم الواقعي الذي نقيم فيه هي في حالة من الفوضى الخطيرة»؛ لأنّها فقدت الصلة بالعالم الذي نشأت فيه، بحيث صارت «أجزاءً تفتقر إلى البيئات [السياقات] التي منها استمدّت معناها وأهميتها» (ص35-36).

وهكذا فما تقترحه الفلسفة هو أنّه لم يعد يمكن أن نفهم مشاكلنا الأخلاقية إذا نحن لم نغيّر «نظرتنا لأنفسنا»(٢) بحيث تطالبنا بإجراء «تحوّل في نظرتنا لما نكون وما نفعل» (ص36)(٣). يجب أن نركّز هنا على الرابط الذي يقيمه ماكنتاير بين «ما نكون» و«ما نفعل»؛ أي بين «الهوية» و«الأخلاق». وذلك يعني أنّ «السياق» الأصلي الذي تشتقّ منه الأخلاق «دلالتها» ليس شيئًا آخر غير «ما نكون»؛ أي طريقتنا في أن «نكون أنفسنا»، ولا يعني ذلك غير «الهوية».

إنّ هوية الناس تسبق أخلاقهم. ومن ثمّ متى انهار عالم الانتماء انهار معه عالم القيم؛ لأنّ القيم لا «معنى» لها إلَّا ضمن شكل من «خُلق العالم»، أي من طريقة «السكن» في العالم. والسؤال عندئذ: أين يجدر بنا أن نبحث عن «مصادر» تساعدنا على إعادة بناء القيم الأخلاقية التي فقدت سياقها؟

أين يجدر بنا أن نبحث عن مصادرنا الأخلاقية؟

يفترض ماكنتاير أنّ ثمّة طريقةً واحدة لذلك: لا يمكن الانتصار على الفوضى إلَّا بالتأريخ لها. إنّ الفوضى الأخلاقية (حيث يسود التنازع بين المذاهب الأخلاقية على التسويغ العقلي الكوني الذي يغلب بقية التصوّرات الأخرى) لا يمكن الخروج منها إلَّا عندما ننجح في «فهم تاريخها» (ص36). وَحْدَهُ تاريخ الأخلاق يحرّرنا من وَهْم سيطرة مذهب على آخر. إذْ إنّ العيب الأكبر في أي مذهب أخلاقي، سواء كان ليبراليًّا أو محافظًا أو حتى موقفًا راديكاليًّا، هو الظنّ بأنّ «خطابه الأخلاقي» صحيح وأنّ «لغته الأخلاقية» جيّدة ولن تخذله.

والحال أنّ الفوضى الأخلاقية المعاصرة هي حصلت فعلًا، و«نحن سلفًا في حالة من النكبة لا علاجات كبيرة لها» (ص40). لا تريد الفلسفة هنا أكثر من إثارة «القلق» المناسب حول أزمة الأخلاق، وليس إنتاج الاستياء أو التشاؤم. فإنّ «التشاؤم أيضًا سيتحوّل إلى رفاهية ثقافية، علينا أن نستغني عنها للبقاء في هذه الأوقات الصعبة» (نفسه). بل القلق يهمّ شيئًا آخر: إنّه قلق المفاهيم التي نفكّر بها في المسألة الأخلاقية. والأطروحة التي يسوقها ماكنتاير هي التالية: «إنّ اللغة والظواهر الأخلاقية يدومان حتى لو تصدّع الجوهر الكامل للأخلاق» (نفسه).

إنّ الفوضى تعني بذلك أنّنا سوف نواصل استعمال مفردات أخلاقية فقدت السياق الذي نشأت فيه، وبالتالي هي مفردات تفرض علينا أن نؤرّخ لها من جديد حتى تعود إلى دلالتها الخاصة. وهو يشبّه هذه المعضلة بما يجري في ميدان الحرب الحديثة: «لا يمكن لحرب حديثة أن تكون عادلة، وعلينا الآن أن نكون دعاة سلام» (نفسه).

إنّ الفوضى تعني بذلك أنّنا سوف نواصل استعمال مفردات أخلاقية فقدت السياق الذي نشأت فيه، وبالتالي هي مفردات تفرض علينا أن نؤرّخ لها من جديد حتى تعود إلى دلالتها الخاصة. وهو يشبّه هذه المعضلة بما يجري في ميدان الحرب الحديثة: «لا يمكن لحرب حديثة أن تكون عادلة، وعلينا الآن أن نكون دعاة سلام» (نفسه).

ليس المشكل في أنّ فوضى الأخلاق هي حالة حرب بين القيم، أو بين تصوُّرات متنافسة عن «الخير» الإنساني، بل في أنّه لا يوجد مفهوم كوني عمّا هو «عادل» بين البشر. يعني العدل في الأخلاق وجود «قانون» خلقي كوني تقبله كل العقول؛ لأنّه قيمة محايدة إزاء جميع الثقافات. وكان كانط قد افترض مثل هذا «الاتفاق الأخلاقي» بين العقول من أجل بناء «أمر قطعي» يمكن أن يجعلنا «نحترم» القانون الخلقي لأجل ذاته، وبالتالي نقوم بــ«واجبنا» بشكل «غير شخصي». ولكن ما معنى أن نحترم شخصًا بشكل غير شخصي؟ وحسب افتراض ماكنتاير لا يوجد مثل هذا الاتفاق الأخلاقي، وبالتالي علينا أن نقبل الوضعية الإشكالية كما هي دون أن نخرّبها بمفهوم محايد لا وجود له.

وهكذا، فإنّ فلسفة الأخلاق هي فوضى قيم لا يمكن الخروج منها بأيّ اتفاق عادل حول معايير كونية، بل فقط أن «نكون دعاة سلام»، أي أن نكون مؤرّخين جيّدين لها. وَحْدَهُ تاريخ الأخلاق يمكن أن يساعدنا على فكّ طبيعة الخلاف الأخلاقي وتعطيله. وحسب هذه النظرة فإنّه «يمكننا أن نستنتج أن لا شيء في الخلافات المعاصرة سوى صدام إرادات متنازعة، وكل إرادة تحددها مجموعة من خياراتها الاعتباطية»، وذلك لعدم وجود «معايير موضوعية» قد تحسم النزاع (ص47).

أولًا إذ لا شيء يبرّر لماذا علينا أن نعدَّ القيمة الأولى في الأخلاق هي العدالة أو هي الحقوق أو هي المساواة أو هي الحرية… «فكل واحدة من الحجج صحيحة منطقيًّا» (ص44)؛ وثانيًا: إنّ البحث عن «حجج عقلية لا شخصية» يؤدي إلى «نوع من التفكير مستقل عن العلاقة بين المتكلم والسامع» (ص47)؛ وثالثًا: إنّ كل الحجج الأخلاقية لها تواريخ ومصادر تاريخية مختلفة ومتعددة لكنّنا لا نفهم تعدّدها، حيث إنّ «خطاب ثقافتنا السطحي ميّال للكلام برضى ذاتي عن التعددية الأخلاقية في هذا الصدد، لكن فكرة التعددية غير دقيقة أبدًا»(ص49). إنّ التعدّدية الأخلاقية تعني هنا «وجهات نظر» متنافسة ومتنازعة هي نفسها متجذّرة في «تنوّع السياقات» وتستعمل مفاهيم (مثل الفضيلة والعدالة والتقوى والواجب) قد «صارت غير ما كانت عليه من قبل»(٤) (ص49). ولذلك فإنّ التعددية الأخلاقية لا تخرجنا من حالة الفوضى التي أصابت الجدل الأخلاقي المعاصر.

الحداثة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬بوصفها‭ ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬فوضى‭ ‬القيم

تميل فلسفة الأخلاق إلى الدفاع عن الأحكام الأخلاقية بوصفها عبارة عن «أقوال» أو «تعابير» تقع خارج الزمن، ومن ثمّ يُستَدْعَى فلاسفة الماضي للمشاركة في النقاش حول القيم «كما لو أنهم معاصرون لنا ولكلّ واحد آخر»(٥) (ص50). ومن ثمّ فإنّ الحل الوحيد هو أن نعيد كل فيلسوف إلى عصره الخاص، وبالتالي نضع كل الأخلاق في «سياقها» التاريخي. وهكذا علينا معالجة مشاكل فلسفة الأخلاق عن طريق «إنشاء سرد تاريخي حقيقي تكون فيه الحجة الأخلاقية في مرحلة سابقة مختلفة اختلافًا نوعيًّا» (ص50)(٦).

إنّ الحقبة المعاصرة قد حاولت التحرّر من سلطة أخلاق الواجب (كانط)، وأخلاق المنفعة (جون ستيوارت مل) في الوقت نفسه، والتركيز على التعابير الأخلاقية نفسها. لكنّ النتيجة هي أنّها قد حوّلت «الأخلاق» إلى مجرّد «عواطف» نعبّر عنها بواسطة مفردات أخلاقية معزولة. وهذا يعني أنّ الأخلاق المعاصرة، وبخاصة في التقليد الأنغلوسكسوني، هي عامةً نوع من «المذهب العاطفي» (ص51) الذي يقوم على هذا المبدأ: «أنّ كلّ الأحكام التقييمية وعلى نحو أخصّ كل الأحكام الأخلاقية هي ليست سوى تعابير عن تفضيل ما، تعابير عن موقف أو شعور، بقدر ما هي خلقيّة أو تقييمية في طابعها»(٧) (ص51)، ومن ثم تكون مهمة الفلسفة هي تحليل لغتها بوصفها تستعمل تعابير لا هي صادقة ولا هي كاذبة؛ لأنّها سوف تعاني دائمًا التعارضَ الذي يحدث بين «معنى» الجملة الأخلاقية والسياق الذي «تُستعمل» فيه (ص55).

والنتيجة هي تخلي الفلسفة التحليلية عن مذهب العاطفة والتفرّغ لتحليل اللغة الأخلاقية (ص66). حتى في الفلسفة القارية (كما نرى ذلك لدى نيتشه أو سارتر) فقد اتُّهِمَتِ الأحكام الأخلاقية بأنّها مجرد «قناع» زائف لنوع من الإرادة الارتكاسية (نيتشه) (ص69)، أو مجرد «مظهر لإيمان زائف يمارسه أولئك الذين لا يستطيعون تحمّل الاعتراف بخياراتهم الخاصة بوصفها المنبع الوحيد للحكم الأخلاقي» (ص70). لكنّ النتيجة الفلسفية الكبرى هي ليست فقط أنّ «الأخلاق لم تعد كما كانت»، بل خاصة «أنّ ما كان أخلاقًا قد اختفى بدرجة كبيرة، وأنّ هذا يشير إلى انحطاط، وخسارة ثقافية كبرى»(٨) (ص70).

إنّ الجزء الذي اضمحلّ من فلسفة الأخلاق هو حسب ماكنتاير علاقتها التاريخية مع «السياق الاجتماعي» الذي نشأت فيه، ومن ثمّة فقدانها «المحتوى الاجتماعي» الذي تشتق منه معناها. قال: «نحن لم نفهم إلى الآن ادّعاءات أي فلسفة أخلاقية فهمًا كاملًا حتى وضّحنا ماذا يمكن أن يكون تجسيدها الاجتماعي»(٩)(ص73). والافتراض الفلسفي هو أنّ فلسفة الأخلاق هي دومًا «تفترض سوسيولوجيا» (نفسه) علينا أن نأخذها في الحسبان. تعني الفوضى الأخلاقية السائدة في عصرنا الخضوع لوجهة نظر فيبر بأنّ «مسائل الغايات هي مسائل قيم، وفي موضوع القيم يصمت العقل، ولا يمكن فضّ النزاع بين القيم المتنافسة بالعقل، وعوضًا عن ذلك على المرء أن يختار…» (ص78)، وأنّ «القيم تبدعها قرارات بشرية» (نفسه).

وحسب ماكنتاير، إنّ الشخصية الأخلاقية النموذجية في تشخيص فيبر لا يمكن أن تكون إلَّا شخصية «المدير» البيروقراطي في مجتمعه (ص80). وراء كل فلسفة أخلاقية أو ثقافة أخلاقية نمط من الشخصية التي تمثّلها. إنّ «الشخصيات هي الأقنعة التي تلبسها الفلسفات الأخلاقية»، وهي لا تنجح في الدخول الفعلي في صلب «الحياة الاجتماعية» إلَّا عبر «الأفراد» و«الأدوار الاجتماعية» التي يؤدّونها داخل مجتمعاتهم (ص82).

تدافع الأخلاق دومًا عن دور اجتماعي مخصوص وتقدّمه بوصفه «شخصية» اعتبارية يجب التشبه بها. وحين ينجح «دور» اجتماعي معيّن في الارتقاء إلى مرتبة «الشخصية» النموذجية حينئذ بالتحديد تظهر «قيمة» أخلاقية وتفرض نفسها في مجتمع ما. وليس كل دور يمكنه أن يتحوّل إلى شخصية أخلاقية. لا تظهر الشخصية إلَّا عندما ينجح الدور الاجتماعي في أن يصبح «مثلًا أعلى ثقافيًّا أو أخلاقيًّا» (ص85): عندما يوفّر الدور «البؤرة الأخلاقية لمجموعة من المواقف والنشاطات» وذلك بأن تُدمَج «الوظيفة» و«الادعاء الأخلاقي» معًا (نفسه). وهكذا يمكن القول بأنّ «الشخصيات هي تلك الأدوار التي توفّر لثقافة ما تعاريفها الأخلاقية» (ص87).

في ضوء ذلك يمكن استشكال الوضعية الأخلاقية للفرد الحديث بأنّها وضعية تسودها مقولة «الذات» التي تُعَدُّ «عواطفها» أو ميولها الفردية قيمًا أخلاقية. ومن ثم تبدو «أحكامها بلا أي معيار» فهي «ذات عاطفية» ولا يمكن أن تصدر حكمًا أخلاقيًّا إلَّا بواسطة «معايير التقييم العقلية، والذات العاطفية تفتقر إلى مثل هذه المعايير» (ص88). لقد «اختار» الإنسان الحديث أن يكون «فردًا» مستقلًّا في قراراته الأخلاقية عن «المجتمع» الذي يعيش فيه؛ لكنّه بذلك قد حوّل نفسه إلى «ذات» تزعم أنّها متميّزة عن أدوارها الاجتماعية. ومن ثم لم يبقَ من سياقٍ لفهم «القيم» التي تؤمن بها غير الأقوال التقييمية الخاصة بها في شكل «مشاعر» خلقية شخصية.

إنّ الذات الفردية قد ألغت «التاريخ الاجتماعي» السابق لها، ومن ثمّ فإنّ مكان «الفاعلية الأخلاقية» قد انتقل من المجتمع إلى الذات بمجرّدها، وهي ذات تقبل «التعددية» الأخلاقية بوصفها عبارة عن «اختلاف» في القيم بين أفراد أحرار في اختياراتهم و«ديمقراطيين». هنا يصوغ ماكنتاير اعتراضه الأساسي: «هذه الذات المدمقرطة التي ليس لها محتوى اجتماعي ولا هوية اجتماعية يمكن أن تكون أي شيء، وتتخذ أي دور أو أي وجهة نظر، وذلك أنها في ذاتها ولذاتها لا شيء» (ص89).

مثلًا: إنّ سارتر يقدّم الفرد بوصفه ذاتًا «متميّزة تمامًا عن أي دور اجتماعي خاص يمكن أن تفترضه» (نفسه). والخطأ هنا هو افتراض وجود «ذات جوهرية تتعدى العرض المركّب للعب الدور» (ص90). وهو ما يدافع عنه سارتر بأنّه «الاكتشاف بأن الذات لا شيء» (نفسه) أي هي في أول أمرها ليس لها أي محتوى سابق على اختيارها الفردي. ولأنّ هذه «الذات العاطفية» ليس لها محتوى اجتماعي تتجسّد فيه ولا لها معايير عقلية للحكم الأخلاقي فهي ذات مجرّدة لا تتوفر على «تاريخ عقلي في انتقالاتها من حالة التزام أخلاقي إلى حالة أخرى»؛ إنّها «ذات من دون استمراريات، ما خلا استمرارية الجسد الذي هو حاملها» (ص91). وبعبارة واحدة هي ذات بلا «غاية» يمكن الاسترشاد بها غير «هويتها» الفردية.

لا يمكن أن نقيس مدى فوضى فلسفة الأخلاق الفردانية إلا متى ألقينا نظرة خارجية على المجتمعات التقليدية «ما قبل الحديثة». هناك حيث لا توجد مقولة «الفرد» نفسها. وحيث لا توجد طريقة لتعريف هوية الفرد إلَّا «عبر عضويته أو عضويتها في عدد من المجموعات الاجتماعية. مثلًا، أنا أخ، وابن خال، وحفيد، وفرد من أفراد المنزل، وتلك القرية، وتلك القبيلة» (ص92).

لم تكن «الفردية» تعني أكثر من «عضوية» داخل «جماعة» انتماء سابقة على وجوده ولا يمكن أن يختارها. «فالأفراد يرثون فضاءً معيّنًا داخل مجموعة متشابكة من العلاقات الاجتماعية، فإذا خسروا ذلك الفضاء، فإنهم ليسوا بشرًا من نوع محدد، بل يكونون في أفضل الأحوال غرباء أو منبوذين مثل النفايات» (نفسه). على عكس الحداثة التي تعدو «الفرد» إلى اختيار نفسه بوصفه كائنًا «مستقلًّا بنفسه» أخلاقيًّا؛ لأنّه لا يعدو أن يكون «عدمًا» وجوديًّا، يبدو «العضو» في «الجماعة» منتميًا بلا رجعة إلى أفق هووي لا يستطيع مراجعته؛ لأنّه هو المادة التي يستمدّ منها ذاتيته.

لكنّ ذلك الأفق ليس ثابتًا بل لا يكون العضو «شخصًا اجتماعيًّا» إلَّا إذا كان يتقدّم نحو «غاية في الحياة» أو «يفشل في التقدم نحوها» ولا يفصله عنها إلَّا موته (نفسه). ولذلك فإنّ الحداثة الأخلاقية هي تعني في الأساس تعطيل ذلك التصوّر ما قبل الحديث للحياة الإنسانية بوصفه يسير بطبيعتها نحو «غاية» مخصوصة لها. فالذات الحديثة تراهن على فرديتها وليس على أي غاية خارجها. لقد خسرت تلك «النظرة إلى الحياة الإنسانية على أنها منظمة لغاية ما» (ص93). ولذلك هي قد عوّضت تلك «الغاية» الطبيعية بفكرة «الدور» الاجتماعي و«الشخصية» النموذجية في المجتمع. لكنّ الذات الحديثة هي فردانية بإطلاق.

توهمنا الحداثة الأخلاقية بأنّ ما وقع للذات الفردانية الحديثة هو «خصائص ضرورية وأبدية لجميع الأحكام الأخلاقية، ولأي واحد منها، ولجميع الذاتيات، وأي واحدة منها» (ص95). والحال أنّ ذلك مجرد نتاج تاريخي لنوع مخصوص من المجتمعات علينا أن نؤرّخ له. ومن ثمّ إنّ دعاة الحداثة هنا ليسوا سوى «الورثة الأخيرين -إلى الآن- لعملية تحوّل تاريخي» (نفسه) ليس أكثر.

يقدّم ماكنتاير هذا التحوّل التاريخي بأنّه تحوّل مضاعف: من جهة، «تحوّل للذات وأدوارها»، ومن جهة، تحوّل في «الخطاب الأخلاقي» نفسه (نفسه). ويعني التحوّل عمليّة انتقال تاريخي من «الثقافة السابقة» إلى «مشروع التنوير من أجل تبرير الأخلاق»(١٠). وبالتالي فإنّ فلسفة الأخلاق الحديثة ليست عملًا فردانيًّا أو اختيارًا شخصيًّا، بل هي نتيجة سلسلة من التغيرات الاجتماعية أدّت إلى «تمزّق الأخلاق وعزلها» (ص97) في مجرّد اختيارات فردية هي تعبّر عن حالة تمزّق اجتماعي وليست «قيمًا» معيارية بحتة، وهو تعبير بلغ صيغته النموذجية في «ثقافة عصر التنوير» في القرن الثامن عشر الفرنسي (ص98)، وهو تنوير لم يؤت أكله إلَّا مع الثورة الفرنسية التي حققت «إزالة الفجوة بين الأفكار الفرنسية والحياة الاجتماعية والسياسية الفرنسية» (ص100).

كيف‭ ‬استقلّت‭ ‬الأخلاق‭ ‬عن‭ ‬فضائلنا؟ أو‭ ‬النزاع‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬نشعر‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬نفعله

يرى ماكنتاير أنّ أفضل شاهد على ولادة «وجهة نظر حديثة متميّزة» في ميدان الأخلاق هو كيركغارد في كتابه «إمّا…أو» الذي نشره تحت اسم مستعار سنة 1842م. وتتمثل وجهة النظر الحديثة في بناء جدل أخلاقي يقوم على صراع مرير بين «مقدمات أخلاقية» من جهة، و«التزام أخلاقي» من جهة أخرى، وهو ما يحوّل الموقف الخلقي إلى مسألة «اختيار» شخصي لا يوجد أيّ «تسويغ عقلي له» (ص103). هذا الاختيار يقدّمه كيركغارد بأنّه يجري بين نمطين متباينين من الحياة: حياة «إستطيقية» (حياة أ) وحياة «أخلاقية» (حياة ب). وهكذا فإنّ الاختيار بين الأخلاقي والإستطيقي «ليس هو الخيار بين الخير والشر، إنه الخيار في ما إذا كان عليك أن تختار أو لا تختار بمفردات الخير والشر» (ص105). في الواقع هو اختيار بين «نموذج التعبير الإستطيقي» الذي هو موقف «العشق الرومانسي» وبين موقف «النموذج الأخلاقي الذي هو الزواج» (نفسه). هذا النوع من طرح المشكل الخلقي هو حسب ماكنتاير قد قُدّم بوصفه «اكتشافًا فلسفيًّا» وفي الحقيقة هو من نوع «مربك ومروّع» (ص103).

ذلك أنّه طرح يجعل الأخلاق مجالًا لتناقض عميق بين ما هو اختيار شخصي وما هو أمر أخلاقي، وحيث تبدو الأخلاق بمنزلة «المنطقة التي يكون فيها للمبادئ سلطة عليا، مستقلة عن مواقفنا، وتفضيلاتنا ومشاعرنا» (ص107). بذلك نُصِبَ حاجز فاصل بين «ما نشعر به» في حياتنا وبين ما يجب علينا أن نفعله كي نكون

متخلّقين. وعندئذ فإنّ الصعوبة الفلسفية هنا هي: «أنّ السؤال كيف أشعر في أيّ لحظة معيّنة هو غير هام بالنسبة إلى السؤال كيف أحيا»(١١) (ص107). لا يمكن حسم الخيار الأخلاقي باللجوء إلى أي نوع من المشاعر. ومن ثمّ لا يمكن الربط بين ما نشعر به (إستطيقيًّا) وما يجب أن نفعله (أخلاقيًّا).

ولذلك يبقى علينا أن نحدّد طبيعة المصدر الذي تستمدّ منه الأخلاق سلطتها.

ما يوحي به كيركغارد هو أنّ «المبادئ التي ترسم الطريقة الأخلاقية للحياة يجب تبنّيها ليس من أجل سبب ما، ولكن من أجل اختيار يقع ما وراء الأسباب، فقط لأنّه الاختيار لما يجب أن نحسبه نحن بوصفه سببًا. ومع ذلك فإنّ الأخلاقي يجب أن تكون له سلطة علينا»(١٢) (ص109). وبالتالي نحن أمام سلطة أخلاقية تستمدّ صلاحيتها من اختيار هو نفسه بلا سبب.

وهكذا تكون الذات الحديثة قد ذهبت بعيدًا في تنصيب نفسها بمنزلة مشرّع وحيد لميدان الأخلاق. وهكذا يُلْجَأُ إلى سلطة (أخلاقية) عندما لا تكون لدينا أي أسباب (إستطيقية). ويرى ماكنتاير أنّ هذا المفهوم للسلطة الأخلاقية هو «مفهوم حديث بشكل خاص إن لم يكن حصريًّا، وقد تمت صياغته في ثقافة كانت فكرة السلطة فيها غريبة وبغيضة، بحيث كان يبدو اللجوء إلى السلطة أمرًا غير معقول» (نفسه).

خاتمة – الأخلاق والسلطة

يبدو الفرد الحديث كائنًا فَقَدَ ثقته التقليدية في أجهزة السلطة، ومن ثمّ قد جعل مشروعه الأول هو التشريع بنفسه لقوانين لا تملك أي صلاحية أخرى غير أنّه اختارها لنفسه بنفسه. وذلك أنّه يرى أنّه لا يمكن الاحتفاظ بحريته الطبيعية إلَّا عندما يخضع لقوانين شرّعها بنفسه. هذه العلاقة المحطّمة مع السلطة جعلت الفرد الحديث لا يثق في أي أخلاق إلا تلك التي اختارها بنفسه، ومن ثم صارت بالنسبة إليه سلطة نابعة من حريته. وهكذا على الرغم من نقد كيركغارد فلسفة الأخلاق الكانطية، فإنّ من أعدّ المشهد الأخلاقي لكيركغارد هو كانط (ص110). كان التميير بين الإستطيقي والأخلاقي إحدى نتائج مشروع التنوير الذي كان يرمي إلى «توفير أساس عقلي لتسويغ الأخلاق» (نفسه).

والنتيجة حسب ماكنتاير هي أنّ الفلسفة الأخلاقية الحديثة قد أخفقت: أوّلًا لقد أخفق كانط في إيجاد «تبرير عقلي للأخلاق»، كما أخفق كيركغارد في «اكتشاف أساس لها في فعل الاختيار» (ص116-117). لا يمكن أن نختار قيمنا كما أنّ العقل لا يسوّغ تشريعًا لا يتطابق معه. كان كيركغارد قد انطلق من فشل كانط: «يجب استدعاء فعل الاختيار للقيام بالعمل الذي عجز العقل عن القيام به» (ص117).

إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذًا أخلاقيًّا من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصًّا معلمنًا من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكنًا، بل مطلبًا مثيرًا لأجيال ما بعد الحداثة.‬


هوامش‭:‬

‭(‬‮١‬‭)‬ Alasdair MacIntyre‭,‬‮ ‬After Virtue‭: ‬A Study in‭ ‬Moral Theory‮ ‬‭(‬University of Notre Dame Press‭, ‬1981‭).‬

وقد‭ ‬صدرت‭ ‬ترجمة‭ ‬عربية‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬طبعته‭ ‬الثالثة ‬(2007م)‭ : ‬ألسدير‭ ‬ماكنتاير،‭ ‬بعد‭ ‬الفضيلة‭. ‬بحث‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬الأخلاقية‭. ‬ترجمة‭ ‬حيدر‭ ‬حاج‭ ‬إسماعيل (‬بيروت‭: ‬المنظمة‭ ‬العربية‭ ‬للترجمة،‭ ‬2013م)‭.‬

‭(‬‮٢‬‭)‬ Alasdair MacIntyre‭,‬‮ ‬After‭ ‬Virtue‭. ‬Op‭. ‬cit‭. ‬p‭. ‬2‭.‬

‭(‬‮٣‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬2‭.‬

‭(‬‮٤‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬10‭.‬

‭(‬‮٥‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬11‭.‬

‭(‬‮٦‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬11‭.‬

‭(‬‮٧‬‭)‬ Ibid‭. ‬12‭.‬

‭(‬‮٨‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬22‭.‬

‭(‬‮٩‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬23‭.‬

‭(‬١٠‮‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬36‭ ‬sqq‭.‬

‭(‬‮١١‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬41‭.‬

‭(‬‮١٢‬‭)‬ Ibid‭. ‬p‭. ‬42‭.‬

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *