كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عبدالباري طاهر.. مفكر عابر للأديان والقوميات
لم يُكتب الكثير عن المفكر اليمني عبدالباري طاهر. وعلى العكس من ذلك تمامًا، ربما تعد مقالاته عن رواد الفكر والفن والأدب والنضال الحقوقي والسياسي، بالمئات؛ عربًا كانوا أم يمنيين. لا أعرف هل يشعر كل من يكتب عنه بأي قدر من المهابة؟ ذلك النوع من المهابة غير المهيمنة، لكنها تحضر مع كل كلمة يكتبها أحدهم عن شخصية جليلة لا يختلف فيها اثنان ممن يعرفونه، وبخاصة من يعرفونه بأية درجة من القرب.
يعرف كثيرون عبدالباري طاهر، الكاتب والصحفي والناشط المدافع عن الحريات والسلام. لكن هذه المعرفة تتضاءل، وبخاصة وسط جيل الألفية وربما وسط الجيل السابق لهم، عربيًّا، لكونه مفكرًا مهتمًّا بالسياسي والثقافي والفني والحقوقي والديني والمدني، وما إلى ذلك من حقول المعرفة التي خاضها خلال مسار اكتساب مخزونه منها، ونشاطه فيها؛ لذلك أردت الكتابة عمّا أظن أن قليلين جدًّا يعرفونه، أو يهتمون بمعرفته، عن عبدالباري طاهر الإنسان، وبعض تداخلاته مع صفاته في المجال العام. لكن بشكل رئيسي، سأكتب قصة تعرفي إلى واحد من الرواد القلائل، الذين تنبعث الألفة والحكمة من أصواتهم وملامحهم، بحيث يشعر من يقابله لأول مرة، أنه يعرفه منذ زمن. بقي هذا الشعور يتزايد عندي على مدى أربع سنوات من التواصل معه صوتيًّا فقط؛ عبر الهاتف.
تزامنت معرفتي به مع بداية عملي في الصحافة؛ فقد دخلت إلى «مهنة المتاعب» هذه عبر مهام محرر ثقافي بصحيفة «حديث المدينة» التي صدر عددها الأول في 30 مايو 2009م. حينها كنت أعرف عبدالباري طاهر من تصدّر كتاباته الثقافية والسياسية والتاريخية، على صفحات الصحف اليمنية، وبخاصة الأهلية والحزبية. غير أني لم أكن أعرف شيئًا عن موسوعيّته في الشعر والثقافة الشعبية، إلى أن أرسل عددًا من المقالات تعليقًا وإضافةً على كتاب الدكتور عباس السوسوة: «المُشَعْطَطات السبع». ومؤخرًا فقط، عرفت أنه دخل عالم الصحافة قبل سنتين من مجيئي إلى الدنيا.
قراءات معمقة في الراهن اليمني
عندما انتقلتُ من تعز للعمل في صحيفة «الأولى» بصنعاء، أواخر عام 2010م وبداية 2011م، ظل الهاتف وسيلة التواصل الوحيدة بيننا. تشرّفتُ باستقبال مقالاته واتصالاته لكي يتأكد من وصول كلِّ مقال. كتب في «الأولى» طيلة أربع سنوات ونصف السنة، وأتذكر ذلك الهمّ العام والإنساني الطافح منها، ومن قراءاته المعمقة في الراهن السياسي والاجتماعي والثقافي…، وما ينذر به من ملامح المستقبل القريب والبعيد لليمن.
كان اليمنيون حينها يعيشون المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة فبراير 2011م، بقلوب على الأكف خشية ما سيوصلهم إليه واقع الصراع وانهيار النظام السياسي للبلد. وكانت آمال المفكر الحكيم، في دولةٍ مدنيةٍ ومستقبلٍ مشرق، تتشبّع بنسبةٍ متزايدةٍ من حذر وحيرة الحليم. ذلك الحذر من الإفراط في الحلم، في بلادٍ يتجه بها قادتُها وفرقاؤها، وكثيرٌ من نخبتها، ونخب المجتمع الدولي، نحو هاويةٍ لا يرون منها سوى الحافة؛ بينما يرى، هو وقليلون جدًّا من أصحاب البصيرة المستنيرة، قتامةَ الهاويةٍ التي لا يعلم قرارها سوى الله وحده.
أحيانًا، كان يأتي صوته على الهاتف منقبضًا؛ لكن حجم الإرادة التي تدفعه تبدِّد ذلك الانقباض بين كلمةٍ وأخرى. لم تسلبني كثافةُ العمل الماحقة للوقت والجهد، قدرة الإحساس بالألم الذي كان يتسرّب من صوته في بداية الكلمة ويختفي في نهايتها أو العكس. حدث ذلك منذ تعرفتُ إلى نبرة الألم في صوته يوم التفجير الإرهابي الذي حصد أرواح أكثر من مئة جندي في ميدان السبعين، عام 2012م. يومها شاهدتُ رقمه في شاشة الهاتف، وتوقعتُ أنه سيخبرني عن مقالٍ أرسله أو بصدد إرساله. وعلى غير عادته، لم يبدأ المكالمة بالسؤال عن «الحال والصحة والأولاد»؛ بل سأل مباشرة: «هل علمتَ بمجزرة اليوم؟». كان الحزن والألم يُثْقلان صوته، وهو يتأسّى على الجنود الذين تطايرت أشلاؤهم، وعلى ضياع هيبة الدولة، متسائلًا بقلقٍ عن ملامح مستقبلِ بلدٍ ينزلق نحو العنف بتلك الوتيرة.
مقارعة اليأس وتفشي ثقافة الحرب
عندما أصابت انعطافة الحرب، في مارس 2015م، أصواتَ الكثيرين من الصحافيين والكتاب والمثقفين بالاحتباس، لم يتعالَ صوتُ عبدالباري على الحدث الصادم. لكنه لم يستغرقْ وقتًا طويلًا، لكي يستوعب الصدمة. نهض بسرعة ليقارع اليأس وتفشي ثقافة الحرب. طالما ناهض العنف؛ وها هو يكرِّس سنوات نضجه المعرفي والسياسي لمناهضة الحرب وترويج «نداء السلام»، والإسهام في إعادة النظر بشأن الكثير من سرديات التاريخ العربي والإسلامي.
ليس لديّ الكثيرُ من المشاهد البصرية لأتذكرها مع العم عبدالباري، إن جاز لي مناداتُه هكذا؛ ذلك أن معرفتي به إلى الآن، يكاد يغلب عليها الطابعُ السمعي. يعرف صوتي وأعرف صوته على الهاتف من دون عناءٍ؛ لكنْ عندما نتقابل، وقليلةٌ هي المرات التي تقابلنا فيها، يكون عليّ، في كل مرةٍ، التعريف بصاحب اليد الممدودة لمصافحته. ربما طول المدة بين اللقاء والآخر هي السبب في ذلك.
أتذكّر اتّصاله التحفيزي بعد أن قرأ، في عام 2013م، فصلًا منشورًا من روايةٍ لم أُكملْها ولا يبدو أني سأكملها قريبًا. أبدى استعداد الهيئة العامة للكتاب، التي كان يرأسها حينها، لطباعة الرواية فور اكتمالها. وعندما أخبرتُه أن إنجازها سيتأخر، طلب مني إحضار نسخٍ من مجموعتي القصصية الأولى إلى مكتبة الهيئة لشرائها بسعرٍ تشجيعيّ. ولأني أنفر من البيع التشجيعي، تأخرتُ في إحضار النسخ لما يقارب السنة، رغم تذكيره المستمر لي بالأمر. تحرجت من إخباره بسبب تأخري، لكن كان عليّ أن أخجل من نفسي وأذهب بالنسخ. حين دخلتُ مكتبه، كان عليّ التعريف لأول مرة بصاحب اليد الممدودة لمصافحته، في أول لقاء وجهًا لوجه.
عندما بدأنا التحضير لإطلاق موقع منصة «خيوط» على الإنترنت، لم ينقطع الاتصال بيني وبين الأستاذ المفكر، الذي لا تزال تتملّكني الرهبة كلما سمعت صوته. شدة تواضعه وبساطته الدقيقة في الحديث، تولد مثل هذه الرهبة الأليفة. غالبًا ما أتلعثم أثناء حديثي معه؛ بسبب تلك البساطة والألفة والثقة، في صوته.
نخلته الشهيرة عمرها 36 سنة
آخر مشهد بصري لي مع الأستاذ عبدالباري، كان في يونيو الماضي. زرته في منزله وتوقفت أمام نخلته الشهيرة. كانت المرة الثانية التي أراها فيها، بعد الزيارة الأولى برفقة الصديق محمد عبدالوهاب الشيباني. انتابني الفضول لأسأله عن قصة النخلة، فردّ بالإحالة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «النخلة أم».
في عام 1984م، طلب من أقاربه في قرية «المراوعة» في تهامة اليمن، أن يجلبوا له شتلة نخل. عمرها الآن ست وثلاثون سنة، وما زال يكرمها بالعناية، بينما تمدّ سعفها الوقور على مدخل البيت وجزء من الشارع الضيق. بعد شهرين، أستدرك بسؤاله عما تعنيه له هذه النخلة، فيأتي صوته مختصرًا بكلمة واحدة: «الكثير». ولـ«الكثير» هذه عبق رياح جالبة لمطر بلا صواعق؛ فقط برق كثير ورعود آتية من بعيد؛ عبر الزمن الممتد من عام 1946م، حين كان طفل الخامسة ذاهبًا في يومه الأول إلى كتّاب (مِعلامة باللهجة اليمنية) قرية «المراوعة» في محافظة الحديدة باليمن. سيحفظ القرآن ويتلقى الدروس الأولى في الفقه وأصول الشريعة.
وفي الخامسة عشرة، ترسله عائلته لدراسة علوم الدين في مكة؛ أبرز حواضر الحجاز. هناك يدرس علوم الشريعة واللغة العربية والبلاغة والنحو والصرف حتى منح درجة الإجازة. في مدرسة الحرم ومدرسة الفلاح بمكة، درس على أيدي أساتذة التعليم الديني حينها؛ علوي المالكي، ومحمد المشاط، ومحمد نور محمد الأمين، وعبدالله سعيد اللحجي. التحق أيضًا بالمدرسة الصولتية، التي يتذكر بوضوح أن مؤسستها كانت أميرة هندية، وأنه كان للمدرسة استقلال مالي وإداري.
سيعود الأستاذ عبدالباري طاهر للتدريس في مدرسة المراوعة في السنوات الأخيرة لنظام الإمامة في الشمال اليمني. وبالتزامن مع بداية تشكل النظام الجمهوري في اليمن، ولكن بدولتين مستقلتين، كان الشاب عبدالباري يمارس مهام موجه تربوي في المدارس الحديثة بمدينة باجل حتى عام 1966م. في السنة التالية، التحق بالمؤسسة العامة للتجارة الخارجية والحبوب في الحديدة، وفي المدينة نفسها سيكتب في مجلة الكلمة التي أسسها محمد عبدالجبار سلام، وسعى عمر الجاوي لتزويدها بمطبعة خاصة جاء بها من عدن- كما أخبرني محمد عبدالوهاب الشيباني. وفي السنة نفسها، سينتقل إلى صنعاء، محتفظًا بعمله في مؤسسة التجارة الخارجية، وبشغفه المعرفي وتوقه لنهضة أممية للعدالة وللشعوب. في عام 1974م، يدخل العمل الصحفي عبر صحيفة الثورة، ثم عدة مطبوعات حكومية وأهلية وحزبية، يمنية وعربية.
وبالرغم من غزارة كتابته، فإن ما جمع منها لا يتعدى ثلاثة كتب جميعها صدر بعد عام 1990م: «اليمن.. الإرث وأفق الحرية»، و«اليمن في عيون ناقدة» و«فضاءات القول». إنه واحد من المفكرين العرب، العابرين للأديان والقوميات، الذي يخبرك صوته وكلماته وهيئته السبعينية الحيوية، أنك أمام قامة معرفية وإنسانية كبيرة؛ واحد من أولئك الذين لم يكتفوا بالتوق لسلام العالم بكل تنوعه الديني والإثني، بل يعملون من أجله.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق