كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«صور إسرائيلية» مقالات مجهولة لمحمود درويش
عاش الشاعر الفلسطيني محمود درويش في القاهرة أقل من عامين ونصف عام واستقر فيها بين فبراير 1971م حتى منتصف عام 1972م، وجرب أن يعيش بين القاهرة وبيروت حيث عمل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ثم قرر الاستقرار في بيروت نهائيًّا قبل أن يغادرها عقب الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982م إلى تونس، ومنها إلى باريس قبل أن يستقر في العقد الأخير من حياته بين رام الله وعمان.
ولسنوات طويلة ظلت مدة إقامة درويش في مصر تقع في «فضاء غامض»، لم يمسه أغلب من تصدوا للكتابة عنه ذلك على الرغم من غزارة إنتاجه الشعري في تلك المرحلة. وربما نوّه بعض الدارسين بالأثر الذي تركته هذه الحقبة في إنتاجه الشعري مع انتقال قصيدته إلى مرحلة جديدة تقوم على تعدد الأصوات والتحرر من عبء السياسة إلا أن الكتابات النثرية التي أنتجها درويش خلال تلك المرحلة لم تكن موضوعًا للدرس أو الفحص، وظلت أقرب إلى «المتن المجهول»؛ لأن درويشًا نفسه استبعدها من إنتاجه النثري الذي ظهر منذ نشر كتابه «يوميات الحزن العادي» (بيروت 1973م) وتواصل عبر كتب أخرى منها: (في حضرة الغياب، وأثر الفراشة، وعابرون في كلام عابر) اتسمت كلها بنبرة سردية مائزة يغلب عليها الطابع الشعري ما دفع بعض الدارسين للحديث عن «شعرية النثر» في كتاباته.
ولا نجد تفسيرًا لقيام درويش باستبعاد تلك المقالات من إنتاجه إلا لو عددنا الشاعر الكبير قد رأى أن معظمها يقع في دائرة الكلام العابر والتعليقات الصحفية التي لا تصمد عادة أمام قطار الزمن. فقد استثنى من هذا الاستبعاد مقالًا واحدًا هو تنويعات على سورة القدس، نشره في كتابه «يوميات الحزن العادي»، طبعة أولى 1973م، وكان قد نشر بالأهرام 9 يونيو 1972م.
وقد لفت نظري خلال انشغالي بتقصي تجربة درويش في مصر وجود مجموعة من المقالات التي نشرها في صحيفة الأهرام التي عمل فيها بدءًا من أكتوبر 1971م، بعد شهور من عمله في إذاعة صوت العرب، وهي مقالات غنية بالكثير الذي يستحق أن نتوقف أمامه. وطوال مدة وجوده في مصر نشر درويش في الأهرام مقالات تعكس انشغالاته في تلك المرحلة من عمره، وكان قد احتفل في القاهرة بعيد ميلاده الثلاثين وظل بها لعامين بعد هذا الاحتفال.
وفي بعض المقالات ركز على الشعر وهو الجانب الأصيل في تجربته، وانشغل فيها بتناول قضايا فنية وثيقة الصلة بالشعر، وهناك مقالات أخرى كانت عبارة عن تغطيات صحفية لبعض المؤتمرات والمهرجانات الشعرية التي شارك في حضورها في عواصم عربية وعالمية عدة، منها (دمشق وبيروت وروتردام) وكان قد شارك في مهرجانات في (صوفيا ونيودلهي) أما الصنف الأخير من مقالات محمود درويش في «الأهرام» فيقع في باب التحليل السياسي. وقد اخترت أن أضع بين أيدي قراء «الفيصل» عينة من تلك المقالات نظرًا لأهميتها التاريخية؛ لأنها تناولت الشأن الفلسطيني في توقيت مضطرب جاء بعد مرحلة «أيلول الأسود» ومحاولات لمّ الشمل الفلسطيني عقب انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة 1972م.
على الصعيد الإقليمي ارتبط بموضوع أكبر هو الصراع العربي الإسرائيلي وما فرضه من خيارات أمام الفلسطينيين في الداخل والخارج بعد نكسة يونيو 1967م، والهزيمة أمام إسرائيل. وشهدت الحقبة نفسها تغيرات مفصلية أعقبت وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وتولي الرئيس السادات وكانت أقرب إلى «انقلاب متكامل» غيَّر تمامًا من ملامح الصورة التي أغرت محمود درويش بالمجيء إلى مصر.
وفي مقالات درويش تحليلات مبكرة قدمها حول الشخصية الإسرائيلية وتأصل ظاهرة «الخوف» بداخلها بخلاف إشارته المهمة حول عمليات الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وعكست المقالات في جانب منها همومه كشاعر ينتمي إلى عرب الأراضي المحتلة. والأهم أنها تركز على إيمانه بما كان يسميه الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين «المواجهة الحضارية» مع إسرائيل.
ثلاثة مقالات مجهولة لمحمود درويش نعرّف بها قُراء «الفيصل» وهي على التوالي: «صورة إسرائيلية الأبيض والأسود» و«غزة كل يوم» و«ظاهرة تثير القلق! من الانغلاق التام.. إلى الانفتاح التام».
صورة إسرائيلية بالأبيض والأسود
كان حادث زواج معقد مناسبة لطرح أخطر سؤال فكري وقانوني واجهه المجتمع الإسرائيلي في تاريخه، وهو: من هو اليهودي؟ ووسط مجموعة كبيرة من علامات الدهشة، وجدت أعلى هيئة قضائية إسرائيلية نفسها قبل حوالي ثلاثة أعوام، مضطرة إلى إيجاد صيغة ما للإجابة عن هذا السؤال المدهش الذي لم تستطع «دولة اليهود» طرحه قبل ذلك، بينما هي لا تكف عن دعوة يهود العالم للهجرة إلى إسرائيل على اعتبار أنها دولة كل اليهود، دون أن تحدد صياغة معقولة لتعريف اليهودي.
ويبدو أن هذا السؤال ليس سهلًا إلى الحد الذي يمكن تجاوزه والركون إلى قرار محكمة تبت فيه، وسيطرح نفسه في مناسبات عديدة أخرى ما دامت الفلسفة الإسرائيلية مصرة على عدم الاكتفاء بصيغة «الإسرائيلي» وتركها مرنة بحيث تستوعب كل يهودي، وما دامت مصرة على الإيمان بأن الدين اليهودي هو القومية اليهودية.
والآن، نرى أن العقلية الإسرائيلية قد وجدت نفسها عاجزة عن تحقيق الانسجام بين السياسة وبين مفاجآت الواقع، وبين ما تدعو إليه اليهود وما يفاجئها به بعض اليهود. ففي أوج الدعوة الإسرائيلية للهجرة اليهودية إلى إسرائيل لاستكمال عملية «البعث التاريخي» للأمة اليهودية «في أرض أجدادها»، ومنح الجنسية الإسرائيلية الأوتوماتيكية لكل يهودي يدخل المياه أو الأجواء الإقليمية الإسرائيلية، في هذا الوقت بالذات.. وجدت نفسها تتنصل من بعض اليهود وتطردهم، وتعرض نفسها لتهمة العنصرية العربية – تبحث عن الصفات المشتركة بينها وبين روديسيا.
ولست أشير هنا إلى انفجار الصراع الاجتماعي الذي أخذ شكل احتدام التناقض بين اليهود الشرقيين الفقراء وبين اليهود الغربيين الأغنياء. هذه المرة يدور الصراع بين اليهودي الأبيض وبين اليهودي الأسود.
فماذا حدث؟ لنقرأ، أولًا، هذه الرسالة التي كتبها إسرائيلي أبيض ونشرتها المجلة الإسرائيلية «همولام هزيه» {20/ 10/ 1971م}:
«قرأت برضا بالغ، عن الحملة الواسعة التي تقرر القيام بها لإبعاد السود عن أرضنا وشعبنا، بعدما تمكنوا من التسلل إلى الداخل تحت أقنعة السياح، ويدعون بثقة شديدة بأنهم ينتمون إلينا ومساوون للشعب اليهودي، إلى درجة أنهم يجرؤون على القول: إنهم يؤمنون بديننا، دين موسى، بعد أن صدر الأمر من الجهات العليا، وأطلق التلفزيون الطلقة الأولى، بدأت العجلات تتحرك، كل الاحترام.
لقد اهتز بدني أنا أيضًا عندما اتضح لي أن هؤلاء الزنوج يجرؤون على إلقاء القاذورات في شوارع ديمونة، ويجرؤون على إنجاب الأطفال بهذه الكثرة، وأن هؤلاء الأولاد السود يجرؤون أيضًا على اللعب وإحداث الشغب والضوضاء حول المنازل السكنية التي يقيمون فيها حتى بين الساعة الثانية والرابعة بعد الظهر. إن النوازع غير المهذبة وعديمة التربية لهؤلاء الزنوج قد تجاوزت كل حدود. والآن. أدرك جيدًا السياسة الحكيمة التي تتبعها حكومات صديقة مثل جنوب إفريقيا.
وإنني أقترح بأن يقام فورًا معسكر انتقالي لزنوج ديمونة في مكان منعزل، وذلك لكي لا يجري أي اتصال آخر بين هذه المخلوقات المنحطة وبين اليهود الطاهرين. إن لهم مكانًا آخر، حتى نتمكن من الاعتراف بهم بصورة قانونية ومنظمة. هذا المكان هو خارج البلاد. يجب أن تعود ديمونة، مرة أخرى، مدينة هادئة، طاهرة، ولطيفة مثلما كانت حتى وصول هذه الشعوب السوداء المنحطة.
وأعتقد أنه من الضروري أن يقام معسكرهم على مقربة من أحد السجون لكي نتمكن من إرسال هؤلاء المذنبين السود في المعسكر إلى السجن مباشرة. وقد يعترضون على ذلك لأننا ندافع عنهم –طالما هم ضيوفنا– من اليهود الطيبين الذين يرغبون في تطهير أرضنا من هذا الخطر الزنجي.
ينبغي لنا أن نعزلهم على عجل، وأن نضعف من زيادتهم الطبيعية. ولهذا من الحلم أيضا ألا نسمح لسياح زنوج آخرين بمغادرة المطار متوجهين إلى أرضنا الطاهرة. ويجب أن نرسل هذه المخلوقات الغريبة فورًا إلى الطائرة التي حملتهم إلينا».
غزة كل يوم
غزة لا تواصل انفجارها اليومي، لنقول لها شكرًا!
وغزة لا تواصل انقضاضها اليومي على الموت لكي نكتب عنها قصيدة.
وغزة لا تجد متسعًا من الوقت لكي تقرأ تحياتنا.
ولا بريد إلى غزة؛ لأنها محاصرة بالأمل والأعداء.
ورغم ذلك، نقف اليوم، وكل يوم لكي نصلي لاسمها النادر بين الأسماء. ليس صحيحًا قول الإسرائيليين إنهم عاشوا أشد الليالي سوادًا في غزة ليلة أمس الأول. كل لياليهم وأيامهم هناك سوداء؛ لأن جسد المقاومة في غزة ما زال ينبض حرائق مرادفة لحضور المحتل فينا. لكن الغزاة المسلحين بالبنادق والأساطير تصوروا، على ما يبدو، أن استشهاد قائد قوات التحرير الشعبية زياد الحسيني، في الأسبوع الماضي، قد يضفي على سواد أيامهم ولياليهم في غزة بعض النور والهدوء، وقد يدفع أهالي غزة إلى صراعات داخلية بسبب الظروف الغامضة لموت البطل، فالغزاة لا يعرفون طبيعة العرب الحقيقية حين يودعون شهداءهم. لقد فاجأتهم غزة -وهي ينبوع المفاجآت- بأنها سرعان ما ودعت بطلها الشاب وعادت إلى ممارسة إعلان جدارتها بالحياة والشرف والكرامة؛ لأنها تعرف أن هذه القيم تتحول إلى كلمات يابسة في ظل الخضوع للاحتلال. ومقاومة الاحتلال هي الضمانة الوحيدة لصيانة ما عداها من قيم. إن غزة تحرر نفسها وتاريخها كل ساعة، وتصون قيمها بالاقتراب الشديد.. بالالتصاق.. بالالتحام بالموت.
لم تعد غزة مدينة.
ظاهرة تثير القلق!
من الانغلاق التام.. إلى الانفتاح التام
من الانغلاق التام.. إلى الانفتاح التام.. ليس هذا شعارًا معلنًا، لكنه أصبح أمرًا متعارفًا عليه ومألوفًا تحت شعار «اعرف عدوك» كيف تعرف عدوك؟ هذا هو السؤال الذي نسينا طرحه منذ مدة طويلة اعتقادًا منا بأن هزائمنا المتكررة تعود، بالدرجة الأولى، إلى جهلنا بهذا العدو. وقد تحول اكتشافنا لهذا المبدأ الأول في علم الإستراتيجية والتكنيك إلى ما يشبه النعمة، فاستراحت كتب الدين والجنس في ركن قصي من المكتبات واحتلت مكانها كتب إسرائيلية مضمونة الانتشار. وهكذا، قفزنا مرة واحدة من نقطة الانغلاق التام.. إلى الانفتاح التام.
قد نجد تفسيرًا معقولًا لهذه الظاهرة الخطيرة. لكننا لن نجد تبريرًا لها ولن نجد مبررًا للاندفاع؛ لأن المسافة بين المعرفة وبين الدعاية صارت تضيق وصارت تثير المخاوف، فقد نفقد السيطرة على بداية عملية الغزو الفكري الإسرائيلي، وقد نفقد السيطرة على تعرض الوعي العربي العادي إلى القبول.
كنا على خطأ حين جعلنا من رفضنا الوجود الإسرائيلي ومن جهلنا التام به معادلة واحدة، وحين اعتبرنا محاولة الإطلالة على تركيب هذا العدو وفكره ومؤسساته خيانة قومية. وكنا على خطأ حين استهزأنا به وتبجحنا بقوتنا وبمقدرتنا على التغلب عليه يوم تدق طبول الحرب. وعندما حدثت المواجهة بين المعرفة وبين الجهل، اكتشفنا أننا جهلاء، فطرحنا شعار «اعرف عدوك»، تلبية لحاجتنا إلى إعلان الندم. وصار الموضوع الإسرائيلي موضوع الساعة؛ لأنه أصبح موضوعنا اليومي. ولا تسألني: ألم يكن موضوعنا قبل ذلك؟
لا يختلف أحد مع أحد على أن تخلف المؤسسات العربية عن دراسة المجتمع الإسرائيلي كان يعكس مدى الجدية العربية، ومدى استهتارها بالمجتمع العربي وبالوطن العربي قبل استهتارها بالعدو. ولعل هذا التخلف كان من الأسباب النفسية الرئيسية في حجم الصدمة وتأثيرها الفاجع على نفسية الإنسان العربي، الذي انتقلت أقدامه، في يوم واحد، من السير نحو المدن الفلسطينية إلى الدفاع عن العواصم العربية البعيدة، وهنا نتجت مقدمات ميل أو استعداد جاهز لتشتت ثقة الإنسان العربي، فعندما كان يعود في الإذاعة العربية إلى يافا، كان يواجه في الإذاعة الإسرائيلية حقيقة اقتراب الإسرائيليين من العواصم العربية. ومن هنا نجد هذا الإنسان نفسه مضطرًّا إلى الضغط على قلبه وكرامته وهو يبحث عن حقيقته وحقيقة وطنه لدى مصادر العدو. صارت لغته كاذبة وأغانيه كاذبة. وصارت وسيلة تعرفه على نفسه تمر بالضرورة، عبر معرفة العدو.
في هذا المناخ السياسي والنفسي القاسي تفتّحت قابلية الإنسان العربي على معرفة إسرائيل. فليس التحول نحو المنهج العلمي هو الدافع الأول نحو هذا الاهتمام. لكنه الزلزال الذي أصاب النفسية والكرامة القومية. ومن هنا، كان من الضروري أن يهتم الذين يديرون وسائل التعامل مع الإعلام، ومع الدراسات الإسرائيلية بمسألة التحويل التدريجي لنزعة الناس إلى معرفة العدو تحت ضغط الاستجابة النفسية، إلى نزعة المعرفة، تحت ضغط الحاجة العلمية السياسية، وإلا، فإن الحالة المزاجية ستبقى هي صاحبة الدور الأول في تحديد ما معنى أن نفهم العدو وفي تحديد الوسيلة لهذا الفهم، وفي اختيار النصوص والدراسات.
قضية إسرائيلية
إن الإسرائيليين الذين يتبعون المنهج العلمي في دراسة عدوهم لم يكونوا متفوقين علينا في هذا الميدان؛ بسبب عبقريتهم العرقية. والإسرائيليون يدركون حقيقة واحدة هي أن القضية العربية، بالنسبة إليهم، ليست قضية موسمية أو مزاجية أو فضولية، إنها قضية إسرائيلية. وهي التي تحدد مصيرهم، وهي التي تشكل أو تشترك في تشكيل وجودهم. وعلى هذا الأساس فلا يصح العبث بها، لا عبث المغالاة ولا عبث الاستهتار؛ لأن الوقوع في أي من هذين الخطأين سيكون نهاية قاتلة.
ومن هنا، كانت دراسة العالم العربي، من جميع وجوهه مبدأ أساسيًّا في إستراتيجية الحياة الإسرائيلية السياسية واليومية. وأن مصدر القلق الوحيد بالنسبة للإسرائيليين هو مصدر الأمان الوحيد في الوقت ذاته كيف يصبح القلق هو الأمان معًا، إن فهمهم الدقيق للعالم العربي يجعلهم يحدون ويحسنون تحديد تصرفاتهم في المنطقة. وطبقًا لذلك يبنون قوتهم ويحددون سلوكهم السياسي والعسكري. وما عدا ذلك فستتهمهم بالحماقة والجنون إذا كانوا يقدمون على هذه الحروب دون ضمان انتصارات إذا لم تتحقق، فإنها لا تعني الهزيمة بل الموت.
ليست طريقة عشوائية
ولكن اهتمام الإسرائيليين بدراسة عدوهم لا تجري بطريقة احتفالية أو عشوائية كما هو الحال عندنا الآن. إن هذه الدراسة خاضعة كلها، حتى في المجالات الأدبية لمتطلبات الصراع مع العرب. كل صحيفة إسرائيلية تُعنَى عناية خاصة بأن يكون أحد كبار محرريها خبيرًا بالشؤون العربية. فهل يعني ذلك أن يكون هذا المحرر حرًّا في نشر النصوص العربية على هواه. إنه ملتزم بآلية الماكينة العسكرية الإسرائيلية. وعندما يتعامل مع الوقائع العربية بطريقة موضوعية كما يقولون، فإنه يفحصها وفقًا للمناخ السياسي والنفسي في كل ظرف من الظروف. وعندما يبالغون في تقدير قوة العرب أحيانًا لا يكون الغرض من ذلك عشق الحقيقة، بل إثارة النزعة الإسرائيلية نحو الخوف والتكتل الضروري الناشئ عن هذا الخوف، لإلغاء مطالب اقتصادية وديمقراطية ارتفعت في هذا الوقت. وعندما يستهترون بقوة العرب أحيانًا أخرى لا يكون الغرض من ذلك عشق الحقيقة مرة أخرى: بل إثارة النزعة الإسرائيلية نحو الغطرسة القومية والغرور العرقي. لإلقاء علامات قلق ومخاوف وشكوك انتشرت في وقت من الأوقات. ومهما تبدل المناخ السياسي والمزاج النفسي، فإن قضية العالم العربي مطروحة دائمًا أمام الإسرائيليين؛ لأنها قضيتهم، لكن معلومات الصحفيين شيء ومعلومات الخبراء والمسؤولين شيء آخر. هؤلاء يعملون دائمًا وفي الخفاء؛ لأن معلوماتهم وخبراتهم تشترك في صنع القرار.
وعندهم دُور نشر كما عندنا، فهل أصبح الكتاب العربي في دار النشر العبرية منافسًا للكتاب العربي المترجم إلى اللغة العبرية كتابًا سريع الانتشار؟ أم هل أصبحت مجلات المطابع الإسرائيلية مفتونة بالتعامل مع الكتاب العربي؟ كما هو الحال عندنا الآن؟
الحد الأدنى للمسؤولية
لا بأس من أن نجتهد، ولا بأس من أن نسد ثغرة في جهلنا بالعدو، ولكن هذا الموضوع يبلغ حدًّا من الخطورة والحساسية لا يمكن التلاعب به. إنه من صلاحية مؤسسات ومراكز ينبغي أن يتوفر فيها الحد الأدنى من المسؤولية، وإلا فإننا سنخدم شعوبنا على طريقة الدب الذي أراد أن يقتل ذبابة وقعت على ساق صاحبه فرماها بصخرة قتلت صاحبه. هل تتم دراسة العدو على طريقة ترجمة مؤلفاته؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه منظر الكتب الإسرائيلية المترجمة إلى العربية والمعروفة في المكتبات هنا؟ لدينا أسئلة كثيرة عن فيض الكتب والمقالات التي تهتم بالقضية الإسرائيلية، والتى انتقل الأسلوب في معظمها من الاستهتار الشديد بإسرائيل، إلى المبالغة الشديدة، حتى صارت إسرائيل معجزة في عين المواطن العربي.
ثم جاء الفهود السود فأنعشوا الوجدان العربي الذي اطمأن إلى احتمال سقوط إسرائيل من الداخل. وانتظرنا السقوط حتى الآن، ثم أضرب عمال بعض المصانع الإسرائيلية فقلنا: هذه هي نهاية إسرائيل. تناقضات طائفية وتناقضات طبقية، وبعد قليل تتساقط دولة الظلم والعدوان، ثم ارتكب موشيه ديان خيانة زوجية مع امرأة أخرى، وطلبت زوجته الطلاق، فأفردنا الصفحات الأولى في جرائدنا لنشر فضائح عدونا الأخلاقية، وقلنا: هذا مجتمع كافر منحلّ لعنه الرب. ولم يفطن الكثيرون منا إلى أن الإلحاح على نشر مثل هذه الظواهر، وبهذا الأسلوب قد يثير إعجاب العربي بالمجتمع الإسرائيلي. لماذا؟ لأن المجتمع الطبيعي هو المجتمع الذي يرفع فيه العمال مطالبهم الاقتصادية، وتختلف الآراء حول سياسة الحكومة ويكون فيه للطلبة رأي الجامعات.
تساؤلات كثيرة
عندنا أسئلة وتساؤلات كثيرة حول هذا التبسيط العابث لمعنى «اعرف عدوك»، بحيث أصبح يتسع لكل شيء عن إسرائيل دون أن نتساءل عن احتمالات تأثيره. لا المبالغة تنفع، ولا التبسيط ينفع. إننا مطالبون بأن نبرهن على امتلاكنا لحس التوازن. والمقدرة على وضع الأشياء في أحجامها الطبيعية. لقد كنت أعمل محررًا في صحيفة «الاتحاد» الصادرة في حيفا عندما لاحظت مع زملائي أن الرقيب العسكري كان يحذف من الجريدة أخبارًا عادية أحيانًا عن اعتقالات عادية، بينما كان يفاجئنا بالسماح لنا بنشر أخبار مثيرة عن عمليات التعذيب الحيوانية التي يتعرض لها رجال المقاومة أو المتهمون بالمقاومة في المعتقلات والسجون الإسرائيلية.
لماذا؟ لأن من شأن النشر المروع لهذه الأنباء القاسية أن يردع المواطنين العرب عن الانضمام إلى المقاومة وأن يدب الفزع في قلوبهم. لقد واجه العقل الإسرائيلي في هذه الحالة اختيارين: إما أن يختار السمعة السيئة دوليًّا، وإما أن يختار الاعتبار «الأمني»، ولقد اختار الثاني؛ لأنه يحتل الأولية، ولأنه يؤثر على ردود أفعال الرأى العام العالمي، ويقوم هذا الاختيار على دراسة العدو لنفسية العربي. فهو يعتقد مثلًا أن العربي يفضل العرض على الأرض!!
عندنا أسئلة كثيرة حول الفوضى التي نقع فيها غالبًا أثناء تطبيقنا لمفهوم «اعرف عدوك»، وهي تحتاج إلى اجتهادات كثيرة وإلى جهود مشتركة، وتحافظ على التعاون بين جميع مراكز ومؤسسات الدراسات والأبحاث الإسرائيلية؛ لكي نعرف ماذا يجب أن نعرف عن العدو. وإذا لم نسرع إلى تدارك المسألة ستنطلق دُور نشر عربية إلى ملء المكتبات بالكتب الإسرائيلية تحت ستار «اعرف عدوك». إنني لا أستطيع أن أفهم المصلحة القومية في ترجمة ونشر الكتب العسكرية الإسرائيلية التي تمجد الجيش الإسرائيلي أو عبقرية الطيران الإسرائيلي. من الضروري أن يطلع المسؤولون العرب الإستراتيجيون والعسكريون على هذه الكتب، ولكن ما الفائدة من تقديمها إلى القارئ العربي العادي؟ وما تأثيرها عليه؟ هل نستطيع أن نطمئن إلى أن القارئ العادي يمتلك مناعة ضد مفعول هذه الكتب؟ وهل أصبحت مجتمعاتنا مفتوحة إلى الحد الذي نعطي فيه حق الكلام لإسرائيل والصهيونية؟ في حين نغلق الأبواب على بعض الفكر العربي.
فواصل مطلوبة
وهل نطالب بالكثير إذا طالبنا بوضع الفواصل بين دراسة العدو وبين نشر النصوص الفكرية للعدو كما هي وبدون مناقشة أو حذر في الاختيار؟ هل نحن ليبراليون إلى هذا الحد أم نحن محايدون؟ وما معنى نشر الكتب العسكرية الإسرائيلية المكتوبة بأسلوب صحفي جذاب؟
سيسألني سائل: ألا ينشر العدو فكرنا مترجمًا إلى اللغة العبرية؟
ليس بهذا الشكل. إنه يدرسنا ويعرفنا ولكنه لا يعممنا على الرأي العام الإسرائيلي. وهو دقيق الاختيار عندما يعمم. عندما يختار نصًّا يختار ما يضمن التفاف الإسرائيليين حول قيادتهم العسكرية ويختار من فكرنا ما يبعث فيهم الاشمئزاز والكراهية لا الاحترام والإعجاب. لقد نشر تهديدنا بذبح اليهود، ولم يسمح بنشر أي كتاب عربي عاقل قد يدفع الإسرائيلي العادي إلى التفكير وإعادة النظر في بعض الأمور التي يسلم بها.
وماذا بعد…؟
لا يختلف اثنان على الأهمية القصوى لدراسة العدو الإسرائيلي، ونعترف جميعًا بأن من أسباب هزائمنا جهلنا بهذا العدو. ولكن القفز من الإهمال المطلق إلى الاهتمام المطلق، قد يلغي بعض الحواجز القائمة بين معرفة العدو وبين الدعاية للعدو. من الضروري أن نعرف كيف نعرف العدو. وماذا يجوز أن يقدم للقارئ العادي وما يحظر تقديمه. وقبل أن نعرف العدو ينبغي أن نعرف أنفسنا، فذلك هو الطريق الوحيد لمعرفة الآخرين.
(الأهرام 2/ 6/ 1972م).
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق