كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
نهضة الثقافة السيبرانية
في لمحة بصر تغير تفاعل العالم مع حدوده ومساحاته، ونشرت الفاجعة مشاعر الصدمة ليجتمع الناس حول مصير مشترك يبحثون عن خلاص. صدمت الأزمة الحالية كل القطاعات ومنها الثقافية والإبداعية التي أربكتها إجراءات العزلة والتباعد المتسارعة والتي طُبِّقَتْ في السعودية وغالبية دول العالم، وبخاصة المنارات الثقافية مثل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا. بل منذ اندلاع الفيروس التاجي في أكبر المدن الأميركية اضطرت مؤسساتها إلى إغلاق المتاحف، وتأجيل البرامج والعروض الفنية كلها تقريبًا وإلغاء النشاطات والممارسات الثقافية المجتمعية كالسينما والموسيقا والمسرح.
لكن الثقافة لا تتوقف أبدًا، ولم يمنع هذا الإغلاق العظيم الفرد من البقاء بصحبة الأدب، والشعر، والموسيقا والفنون الأخرى. بالنسبة لي، المقارنة ليست بين البث التقني المباشر وبرامج القنوات الفضائية التلفازية، وإنما محاولة تأمل ما بدأنا للتو الانتباه له، وهو دور المنصات التقنية في استمرارية، ونشر، ودعم الثقافة.
والمثير للانتباه، أننا في العالم الافتراضي كنا وما زلنا نتحاور، نغرد، ونتفرج على سيل من البرامج الفنية والثقافية عبر هذه التقنيات الرقمية المتعددة، وفجأة نتساءل عن ماهية علاقة هذا الفضاء بالثقافة وكأن ينابيعها انفجرت للتو على ضفافه.
من الواضح أن التكنولوجيا وضعتنا في مواجهة الآثار الجانبية لإغفالنا لها، تردُّدِنا وارتباكِنا منها، كما كشفت أنه لم يبدأ الحوار النظري المُلِحّ لتأمل هذا النسيج الذي جمعنا وأعاد ألفة إنسانية كادت تمحوها صدمة الفاجعة.
ومن البديهي أيضًا بعد أن تقلصت المساحات المادية، أن يصبح التحديق في ماهية الافتراضي وقراءة الإقبال عليه أمرًا مُلِحًا كما لو أنه ظاهرة جديدة. لكن هذا التدفق الثقافي الرقمي ليس جديدًا، بل كان معنا منذ عقود وكل المؤسسات التعليمية، والثقافية، والإعلامية في مختلف أنحاء العالم تبث برامجها وأنشطتها على المنصات التقنية ولها ملايين من المخلصين الذين يتابعون ويتفاعلون معها. وعلى الرغم من هذا الانغمار، ما زال يُنظر للفضاء التقني والتعامل معه على أنه فكرة ثانوية تقريبًا مما أجَّلَ التفاعل معه بشكل جادّ بعيدًا من الثنائيات والمقارنات غير المتكافئة.
بدأت التجمعات الافتراضية بتعويض الخسارة المفاجئة لقربنا الإنساني، لكن التجربة محليًّا امتزجت بمشاعر الدهشة ونبرة من التردد؛ لأن العالم المادي المحسوس للتجمعات الإنسانية وصخب المسارح والنوادي بهمهمات الجماهير قد لا تعوضه هذه المنصات الباردة، التي توحي لنا أنها اختطفت المشهد في ظل الأزمة كما عبر بعض النقاد والأدباء بعد مشاركات ثقافية لهم في هذا الفضاء الذي يرتادونه بتردد وجل. فخرجت علاقة الحب والكره مع الواقع الافتراضي. بينما ابتهج آخرون بوجود هذه الوسائط التي كانت أشبه بالعلاج لهذه العزلة القسرية، التي خلقت درجات قصوى من التعاطف بين الأفراد، وجعلتهم يشكلون تضامنًا شعريًّا ضد الفاجعة.
هنا تظهر الخسارة المفاجئة لأن النقاش النقدي التحليلي لم يبدأ بعد لمعرفة ما هي الثقافة في الفضاءات الافتراضية، وكيف تكون مؤثرة، وهل نحن أمام احتمالية تحول جديد لخلق ثقافة إعلامية جديدة؟ في هذا السياق يمكننا أن نلاحظ علاقة مثيرة للاهتمام: التقاء العالمي والجانب المحلي أو الإقليمي وهذه لحظة مهمة للغاية للتواصل مع الآخر وبث الوجوه الثقافية المتعددة للمملكة، والوصول الفوري للعالم عبر تطوير أشكال مبتكرة من المحتوى الرقمي وجعله متاحًا، ليس للجمهور المحلي، وإنما لجماهير دولية على نطاق واسع.
فهل يحمل المستقبل نهضة للثقافة السيبرانية؟
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق