كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الطربون
ببساطةٍ آسرة يستطيع الشاعر ديريك والكوت أن يهدّد وجود القصيدة التي خبرناها ومللناها. لدرجة أننا نشعر أثناء قراءته بهبوب رياح الجنوب الحارة، ونرى الحشرات المضيئة والبخار المتصاعد من البحر ونحن نتألم مع الطربون بعد كل ضربة دامية من الصياد الغاضب. حتى إن طمأنينتنا لا يمكن أن تدوم طويلًا، بل سنبقى نرمق الأبدية معه بعين نهمة، وباستعداد لنتلقف كل الإشارات التي ستمنحنا إياها قصيدته وبشغف، كما أننا سنحتاج إلى قفزات كبيرة ومضنية لنجوب معه في كل قصيدة الأمكنة الأثيرة إلى قلبه، كما في قصيدة «المنبوذ».
ديريك والكوت، شاعر وكاتب وُلد في جزيرة سانت لوسيا إحدى جزر الهند الغربية التي كانت مستَعمرة بريطانية. حاز العديد من الجوائز من أهمها جائزة نوبل للآداب عام 1992م، وجائزة تي. إس. إليوت، وزمالة ماك آرثر 1981م.
المنبوذ
العين المتضورة جوعًا تلتهم المشهد البحري من أجل
إبحار قليل.
يَنْظمه الأفق إلى ما لا نهاية.
الفعل يربّي الجنون. أستلقي،
محرّكًا الظلّ المخطّط لراحة اليد،
خائفًا من ترك أي أثر.
رملٌ هَبوب، رقيق كدخان،
ضجر، يزحزح كثبانه
الأمواج المتكسّرة تطوّق قلاعها كطفل.
الدالية الخضراء المالحة بأزهارها البوقية الصفراء،
شبكة، على مدى بوصات لا شيء فيها.
لا شيء: سوى سخطٍ مُلِئَت به رؤوس ذبابات الرمل البيضاء.
متع رجل عجوز:
صباحًا: تجريد تأملي، يرى أن
الورقة اليابسة، خطة الطبيعة.
تحت أشعة الشمس، قشور غائط الكلب
تبْيضّ كالمرجان.
من الأرض بدأنا، في الأرض ننتهي.
أصولنا في أحشائنا.
إذا أصغيت، يمكنني أن أسمع البَوْلَب يبني،
نبْض الصمت بموجتي بحر.
أطقطق قمل البحر، أشطر الرعد.
كإله، يمحق الربوبية، الفن
والذات، أتخلّى عن
استعارات ميتة: ورقة اللوز كقلب،
العقل اليانع يتعفّن كبندقة صفراء
تُفرّخ جَلَبة
قمل البحر، ذبابات الرمل، واليرقات،
زجاجة النبيذ الخضراء بِشارة مخنوقة في الرمل،
دلالة على حطام سفينة،
وخشب البحر المسمّر أبيض كراحة يد.
البَوْلَب: اسم يُطلَق على أشكال من الحيوانات المائية البسيطة كالمرجان.
الطربون
في*سيدروس، صادمًا الرمل الميت،
بتشنج، حدّق الطربون
بعينٍ ذهبية، منغمرًا
بثقل، مجلودًا بألم وحشي
في هذا البحر الذي أتنفسه.
بلا حراك، جسمه
مشدود إلى عدسة العين، ببطء
تلمّس حالَه، جفّ كحرير
برويّة، تحول إلى لون الرصاص.
البطن، حرشفي، فضي، منتفخٌ
كقرحة باردة للكشط.
فجأة ارتعد بارتياب هائل،
لكن الفك التعب كان يبربر، غير مفصح
عن شيء سوى بضعة خطوط جديدة
من الدم، مع كل ضربة دامية
ضرب بها الصياد المسعور رأسه
حرّك ابني الصغير رأسه.
هل كان بوسعي أن أناديه ألَّا تنظر
ببساطة إلى عالم واحد تقاسمناه؟
فاقدٌ الحياة، ومفحوصٌ بدقة،
جسم الطربون يزداد بهاءً.
الحراشف، برونزية، موشّحة بعفن نحاسي مخضرّ،
من عمر درع من عملات معدنية،
شبكة من وصلات فضيّة فاقدة لبريقها
الظهر بلون أزرق بحري داكن حتى الذيل
الوتدي المستدق على شكل Y.
العين المفتوحة
راسخة في جمجمة مثلثية، من حجر،
مطوّقةً بالذهب، ضجرة هناك.
شكل بسيط للغاية، كصليب،
يإمكان ولد أن يرسمه في الهواء.
غُسِلت حراشف الطربون، ورقاقة جلده
على حافة البحر، ووُضِعت
قبالة الضوء، بدَتْ تمامًا كما
قال الصياد المُكَشّر ستغدو
سميكة كزجاج مقسّى ولكن ناعمة،
محزّزة بألماس، وقد أظهرت
رسم ولد لسفينة،
بشراعين، وصَارٍ.
هل بإمكان هكذا تعقيد للشكل،
وهكذا جسم، برعبه، وغضبه الشديد
في شكل بريء للغاية،
أن يتحرك عبر سديم وهمي أكمد،
لكن بخَدَر،
وحيث يرسله الخيال، يُبحر؟
*سيدروس: جزيرة مكسيكية في المحيط الهادئ.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق