كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أتوضأ نصري وأنهزم
ينفتح الباب بشكل مباغت، داخلُه يصرخ بقوة: متى ينتهي هذا اليوم؟ زميلاه في الغرفة تكاد أعينهما تسأل: ما بك؟ سرعان ما تنطفئان وتعودان إلى الأوراق المتراكمة، ثمة عمل يكفي لسنة، آخر ما يشغلنا متقلب المزاج هذا؟!
يلقي بثقله على الكرسي، يبدأ فتح الأدراج، واستخراج رزمة ملفات، الأهمية للتواريخ القديمة، هذا من شهر، التالي من بضعة أيام، التالي معاملة متوقفة منذ ثلاثة أشهر، … أسبوعان، التالي التالي التالي، حياته تختصرها ملفات متراصّة، عليه الانتهاء بأسرع ما يستطيع، يقوم بترتيبها حسب التواريخ، الملف الأول يعود لبداية العام، سينتهي منه ثم ينتقل إلى الذي بعده، وهكذا.
طلب لنفسه: كوب قهوة بدون سكر، (يؤكد عليه) بدون سكر. مزاجه ليس في أحسن أحواله، تأخر البارحة في النوم، والد زوجته يعاني مشاكل صحية ما استدعى بقاءها إلى جواره، انشغل مع الأولاد، أخذهم إلى الشاطئ كي لا يسببوا إزعاجًا، يحب الأطفال إنما ليس إلى حد أن يصبح أمًّا ثانية، يعترف: لا أجيد التربية!
ببطء، يقرأ ملاحظة دوّنها بخطه: يجب مراجعة الفواتير واحتساب قيمتها التي ينبغي أن تتطابق مع خانة المصاريف، يرفع الورقة ويضعها جانبًا، يقلب الصفحة ليجد الحساب النهائي: ثلاثة وثلاثون مليونًا وأربع مئة وسبعة وخمسون ألفًا تكلفة الإنشاء مع مواد البناء، الفواتير موجودة بعدها مباشرة، يقلب الصفحة ويمد يده باتجاه الآلة الحاسبة.
يقترب عامل الخدمة ويضع الكوب بهدوء: قهوة بدون سكر. شكره ثم عاود دفن رأسه بين الفواتير، يحسب الأرقام عبر الآلة الحاسبة، النتيجة مختلفة، يحك رأسه، لا يدري أين أخطأ! يعيد الحساب، تأتي النتيجة مختلفة، يفقد هدوءه، مضت ساعتان ونصف أجرى الحسابات وما زالت غير متطابقة، يشعر بالاختناق، سيقوم بالحساب مجددًا، ربما أخطأ في الحسابات الداخلية، تسع مئة وعشرون ألفًا مبلغ لا يتبخر؟!
يسحب نفسه إلى الخارج، يستقل المصعد إلى الطابق الأرضي، يخرج من البناية الشاهقة، للشركة أذرع أخطبوطية في جميع المناطق، هنا المركز الرئيس، تدار العمليات عن بعد، اتجه بيده صوب جيبه، التقم سيجارة وصار ينفث الدوائر الدخانية في الهواء، واحدة لا تكفي، التقم الثانية، ذهنه مشغول بالحسابات الخاطئة، ظل يعيد على نفسه الخطأ؛ تسع مئة وعشرون ألفًا أين يمكن أن تختفي؟ فكَّر في الاتصال بالمدير المسؤول عن قسم المحاسبة، أبعدها عن رأسه؛ سيُسمعه كلامًا قاسيًا، ويتهمه بالتقصير والتكاسل، «آهٍ من المديرين، يظنون الموظف لا يجتهد في إنجاز عمله، إلا بالتهديد والوعيد، كم هم مخطئون!» قرر تأجيل الاتصال لحين الانتهاء من المراجعة الكاملة للفواتير، وإذا ظهر فيها خطأ لن يلومه بعدها.
بدل الاتصال بمديره قرر الاتصال بصديقه؛ ليذكّره بموعدهما: صباح جميل! صباحك أجمل. موعدنا بعد الانتهاء. لم أنسَ يا صديقي، لكن لماذا الاهتمام الكبير بهذا الموعد؟ أهناك ما ستخبرني به؟ لا شيء، اشتقت لك فقط. (يضحك علي ويجيب): أنا أيضًا مشتاق لك (يعض على أسنانه في نهاية الجملة): أنا في الأسفل أحتاج وقتًا للتفكير في الأعداد الكثيرة التي تمتلئ بها الفواتير، ألا تودّ مشاركتي؟ الهواء هنا منعش! ألتقيك على الموعد.
عاد إلى مكتب المحاسبة، وفتح الباب بهدوء، وجد زميليه منهمكين في الحسابات، تذكر أنه لم يحيهما: صباح الخير يا رفاق. يرفعان رأسيهما: صباح الظهيرة (في وقت واحد)، ينظر إلى الوقت؛ الحادية عشرة، استغرق وقتًا في الحسابات الأولى وما زال أمامه الكثير، يجلس على الكرسي، ويدفن رأسه داخل الملف، يسحب فاتورة، ويقوم بحسابها وحدها، يتأكد من مطابقة الأرقام للناتج النهائي، عشرات الفواتير قام بجردها وتنظيمها، الوقت يمضي سريعًا دون أن يشعر، رنّ الهاتف في جيبه، استخرجه ونظر إلى المتصل: علي عبدالواحد الصافي.
أهلا بك يا صديقي.
علي: أين أنت؟
عادل: في الملف! أقصد في المكتب.
علي: (يضحك برشاقة) «بعَدما انتهيت؟» نسيت الموعد؟
عادل: (بضيق) كم الساعة الآن؟
علي: الرابعة يا رجل!!
عادل: (يصدم رأسه براحة يده) كيف لم أنتبه! دقائق وسألاقيك عند البوابة.
علي: لا تتأخر.
عادل: سآتي حالًا، ( يسمع صوت علي يُنهي المكالمة).
وهذا الملف كيف أنتهي منه؟ استلّ ورقة بيضاء وضعها عند الفاتورة التي وصل إليها، سيعاود فتحه غدًا، أما الآن عليه أن يخرج!!
عند البوابة اتفق مع صاحبه أن يلتقيا أمام منزله، سيترك سيارته، وينطلقان في سيارة واحدة، اجتازا الشوارع الفاصلة بين الشركة والبيت، وصلا تقريبًا في وقت واحد، لا تعتبر الساعة بين الرابعة والخامسة من ساعات الذروة والازدحام، لهذا لم يستغرقا وقتًا طويلًا، أوقف سيارته، وترجل منها، ثم صعد مع صاحبه ومضيا؟!
جائع (يقول عادل)، بالتأكيد فلم أتناول شيئًا منذ البارحة (يجيب علي)، في الزاوية مطعم للوجبات السريعة (عادل)، يهز رأسه موافقًا، يطلبان وعادل ينظر في ساعته، تشير إلى الخامسة إلا ربعًا، سنأكل في الطريق، يصعدان إلى السيارة وينطلقان باتجاه حلبة صراع القطط، سنصل قبل انطلاق المباراة، أمامنا ساعة لبدئها.
طابور ممتد، يقطعان تذكرة الدخول، ينحرف عادل شمالًا إلى جهة يعرفها، يدخل مبنى، ثمة لوحة تعريفية معلقة، مكتوب فيها بخط صغير: مكتب الخدمات المساندة. الناس يخرجون من العدم، ازدحام شديد، يراهنون على القط الأبيض، شاهدوه مرات ومرات ينتصر على القطط الأخرى، واثقين من فوزه، اليوم سيحصلون على مضاعفة أموالهم، قَطع ورقة مراهنة، دفع مبلغًا محترمًا؛ يُمَنّي النفس بشراء هدية للأولاد وأمهم.
علي: يبدو المبلغ كبيرًا؟ هل أنت واثق من فوز الـ…قط؟ أجابه: فاز في جميع المباريات السابقة، حتمًا سيفوز اليوم، سترى كمية الأرباح عند مغادرتنا، متأكد لا تريد المراهنة؟ علي: لا أراهن على القطط، «من الممكن أن أراهن على البشر، أما القطط، لا أمان لها يا صديقي!» عادل: البشر أيضًا لا أمان لهم، من الممكن أن ينهزموا في أي وقت، على الأقل القططُ لا تعرف الخداع، أما البشر فبارعون فيه، لنذهب ونأخذ موقعًا مناسبًا قبل امتلاء الحلبة.
يتلقى اتصالًا فيفسح المجال لصديقه كي يختار موقعًا يمكنهما من الرؤية الواضحة، بينما ينشغل بالإجابة: ليلى. ترد: أهلًا حبيبي، اشتقت لك. علي: أنا مشتاق أكثر. ليلى: ما كل الفوضى التي أسمعها؟ يرد: مشغول الآن، أنا برفقة عادل. ليلى: حبيبي، لا تتأخر كثيرًا، سيزيد شوقي إليك. يرد: حسنًا. أقفل الهاتف، وبحث بعينيه، في الزاوية، جلس بجواره، الحلبة أمامهما، الحاجز الزجاجي يمنع وصول البشر إلى داخلها، لا يسمح إلا للقطط.
هل أخبرت رباب قد تتأخر في العودة؟ (علي)، في بيت أبيها، مريض بعض الشيء (عادل)، ماذا به؟ (علي)، يشكو من ارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة مع إغماء متكرر والطبيب يُفضل ذهابه إلى المستشفى لإجراء الفحوصات (عادل)، سكت قليلًا ثم أكمل: تعلم عناده! علي: كبار السن عنيدون، ويميلون للحساسية المفرطة، لا تخبرني. عادل: رباب والأولاد معه.
صوت المذيع الداخلي يرحب بالمشاهدين، الصراع اليوم بين البطل القط الأبيض الضخم في مواجهة المتحدي القط الأسود، القط الأبيض فاز في جميع مبارياته السابقة، لم يخسر أي صراع، القط الأسود قادم من الخارج، تم ترشيحه من قبل اتحاد القطط لينافس القط الأبيض، ستبدأ المعركة بعد قليل، القط الأبيض الضخم يصل الحلبة أولًا (تنطلق صيحات التشجيع وتملأ الصالة)، ثم يأتي القط الأسود (صيحات التشجيع أقل من الأولى بشكل ملحوظ)، يتخذ القطان وضعية الهجوم، كلّ في زاوية، يعود المذيع ليتحدث: الصراع حتى النهاية شعار اتحاد القطط، المنسحب يُشطب اسمه، ويُمنع من المشاركات المستقبلية، كما أن صاحبه سيدفع غرامة مالية، تنفتح الحواجز التي تمنع القطط من الوصول إلى وسط الحلبة، يتواجهان وتبدأ المعركة.
في الأثناء يخفق قلب عادل، يراقب ما ستؤول له النهاية، القط الأبيض يدور في الحلبة التي يعرفها جيدًا، والتي شهدت انتصاراته المتكررة، هجم على القط الأسود بصورة مفاجئة، الذي انزاح إلى اليمين متفاديًا المخالب، عاود الهجوم ثانية ونجح في إصابته، القط الأسود ليس متمرسًا في القتال، سيخسر (يحدث عادل نفسه)، ينتفض القط الأسود ويهجم على القط الأبيض، يصيبه ببعض الخدوش.
الصراع سجال، يرفضان الاعتراف بالهزيمة، نقط الدماء تتناثر على أرضية الحلبة، مشاهدة الدماء النازفة تزيد من شراستهما، يصطدمان ببعضهما، يغرس القط الأسود مخالبه في رقبة القط الأبيض، فيُصدر أنينا عاليًا، لكنه يعاود النهوض ويهجم بكامل قوته، يطيح بالقط الأسود بعيدًا وصوت أنينه يتعالى، يسمعه الجمهور فتزداد شهية الانتصار لديه.
الحلبة تصبح ساحة لتفريغ الضغوط النفسية، القطان يتصارعان حتى النهاية، الجمهور شدَّه منظر الدماء النازفة، صرخ بأعلى صوته تشجيعًا على المواصلة، نصف ساعة كانت كافية لينتقم القط الأسود، استطاع هزيمة القط الأبيض، وانتزاع البطولة منه.
الجمهور الحماسي الداخل إلى الحلبة، أمّل النفس بفوز ساحق يحققه قطه النجم، وها يراه متكوِّمًا على نفسه دون حراك، انتهت المعركة؛ خرج القط الأسود منتصرًا، أعلن ميلاد بطل جديد للحلبة، خرج الجمهور خاسرًا للمال الذي دفعه في المراهنة!!
خاسر وسعيد، الناس ينصرفون وهم يتحدثون عن خسارة مفاجئة مُنِيَ بها القط الأبيض على يد القط الأسود، لا يستطيعون تفسير الأشياء، يرونها كدورة الحياة، نجم صاعد، آخر هابط، لا بد للنجوم من يوم تهبط فيه عن المنصة، وتتوارى خلف الجدران، ليُفسح المجال لآخرين، ينتظرهم مستقبل باهر، المستقبل الآن ملكُ القط الأسود، الأموال التي خسروها في رهانهم، واثقون من استعادتها، ولو بعد حين، سينتصر القط الأسود لهم، ويجعلهم أثرياء، عليهم الانتظار لبعض الوقت؛ حتى تتحقق أحلامهم، خسروا معركة، لكنهم لم يخسروا الحرب، كانوا إلى جانب القط الأبيض طوال الفترة الماضية، ساندوه، وراهنوا عليه، مراهناتهم أكسبتهم المال، الكثير من المال، الآن بعد انقلاب المشهد والهزيمة المفاجئة، خسروا الأموال التي ربحوها، بل أكثر منها، خسروا مدخرات جمعوها طيلة حياتهم!!
خاسرون نعم، تعساء كلا، راهنوا بكل أموالهم ومدخراتهم، انتظروا الفوز، ولا شيء غيره، تفاجؤوا بالهزيمة، أصابتهم صدمة عصبية، لا يستطيعون استرداد أموالهم، الخسارة جزء من اللعبة، «المجازفة رهان الحياة؛ إما أن تربح كل شيء أو تخسر كل شيء، لا توجد بقعة في المنتصف»، يستطيعون عبرها استعادة أموالهم، لم يعتبروا ما حدث نهبًا، إفقارًا، سرقة، اعتبروه مجرد حادث عابر، مثله مثل الكثير من الحوادث. أحلامهم المستقبلية تضاءلت وتبخرت، تحولت إلى رماد، أحرقوها في المراهنة، دون أن يستطيعوا الإفصاح عن ذلك، سيلومهم الآخرون حين يسمعون الخبر، من الأفضل إمساك ألسنتهم، وعدم البوح بأسرارهم لأحد، ولا حتى زوجاتهم، فالزوجة تمتلك لسانًا مثل البقية!!
لم تكن السعادة الوقتية لتستمر، سرعان ما انقلبت إلى بكاء، يحاولون استعادة ماضيهم الجميل، أموالهم المفقودة، كرامتهم المهدرة، قيمة الإنسان تحددها أمواله، كلما نقص رصيده البنكي تضاءلت قيمته، كلما ارتفع رصيده تضخمت ذاته كأحد الجبابرة، المشهد في الخارج يبدو قاتم السواد، كأن القط الأسود ألقى لونه على الجمهور، باتوا يشبهونه في اللون، أحلامهم البيضاء استحالت للون الليل الفاحم، البكاء يتصاعد في أكثر من زاوية، عليّ يراقب المشهد بتشنج، بصره يتنقل بين الناس وبين صديقه، كأنه ينتظر منه التكفير عن ذنوبه، والبكاء أمام الإله، الذي لم يكن في ذلك الوقت سوى مكتب الخدمات المساندة!!
ذهب انتظاره هباء، لا يزال صامدًا، صامتًا لا يتحدث، حاول التخفيف عنه: الله يعوض .. نظر إليه بعين ذئب جريح، لا يريد شفقة، هذا اختياره، قراره، ووحده من يتحمل النتائج، لم يشأ عادل أن ينطق تلك اللحظة؛ حتى لا تصاب علاقتهما بشيء من فتور، أزاح عينيه جانبًا وهو يقول بحشرجة: أين السيارة؟
لم يستغرب موقف صديقه، طالما عرفه قويًّا عند حدوث مشكلة، ولمراعاة شعوره فضَّل ألَّا يبادر بالحديث، سيترك له الحرية، إذا تحدث معي سأرد، هبطت دمعة مختبئة على وجنة عادل، لحسن حظه صديقه مشغول بفتح باب السيارة فلم يلاحظها.
ماذا سيقول لزوجته وأولاده، اهتدى للحل؛ لن يتحدث أمامهم، سيتظاهر كأن شيئًا لم يحدث، والحياة ستستمر، عادل هو عادل، سيخفي آثار جريمته، فعلٌ اعتاد عليه، أتقنه لدرجة عدم اكتشاف أحد لما يدور في رأسه، خصوصًا في منزل العائلة، هل يمكنه الإفلات بجريمته كما في المرات السابقة؟ هذا ما سيكتشفه!!
يُخرج الـ«وينستون» لينفث أحزانه وآلامه ويحولها إلى رماد، كطائر الفينيق يمحو تاريخه الأزلي بإشعال النار في جسده قبل أن يقوم من الحريق شابًّا ليكمل الحياة المقدرة له… العلبة فارغة، يصاب بصدمة أخرى كأن الحياة التي فتحت ذراعيها واحتضنته خلال الأيام الماضية، طردته من الجنة، يتحدث ناحيتي محاولًا اصطناع ابتسامة عريضة: «حلقي نشف»، أبتسمُ في وجهه، مركزًا النظرات على عينيه، لاحقتهما دون فائدة، مصرّ على الهروب بمشاعره، اكتفينا بعلبتي «كولا»، بينما جدد مخزونه من الـ«وينستون»، ثم انطلقنا.
السكوت رفيق ثالث، لا همس ولا حتى نأمة، هدوء تام، ليسا في مزاج الصدام، لا يرغبان بخسارة علاقة أو إضعافها، اتفقا على هدنة غير معلنة، وجدا أن: «السكوت صوت لا يعلو عليه صوت آخر، بعض الأحزان تغسلها الدموع، إنما كل الأحزان يخفيها السكوت»، يمكن الوصول إلى داخل الإنسان عبر حديثه، بعد أن يختار البوح بمشاعره، في حال فقد الرغبة لن يعود كما ألفناه، سيصبح من الصعب فهمه، الألم الذي يعتصره بسبب خسارته الفادحة، يجعلني لا أعرف كيفية التصرف معه، صديقي القريب من قلبي، بيني وبينه سنوات من علاقة حميمة؟!
أخرج لسانه من سجنه، تمتم ببضع كلمات، لعن الحظ العاثر، لماذا اختارته الحياة ليكون أحد ضحاياها، لماذا الآن مع مرض والد زوجته، والظروف الصعبة التي يمر بها؟ عبثًا يحاول إلقاء اللوم على القدر، القوى الخفية إله لا يراه، لعله شيطان! من يدري؟ مؤكد أن «القدر وحده لا يستطيع فعل شيء، نحن من يصنع القدر، قراراتنا هي التي تصنعه، أما هو فمجرد لفظة نتعلل بها ونصبّ عليها إخفاقاتنا!».
ينطق بعد صمت استنزف روحه، لا يمكن لحادثة ما أن تغتال علاقته مع صديقه، ينظر إلى عداد السرعة: السرعة قاتلة. ينتبه إلى الصوت القادم، ويعجز عن الفهم، هزّ رأسه لطلب التوضيح! أنت تسرع يا صديقي، نظر إلى عداد السرعة، ثم رفع رجله عن «دواسة البنزين» فبدأت السيارة تخفف من اصطدامها بالهواء.
يسترق النظر، يشاهد السيارات تقتل الإسفلت، يحس بالناس، هم أيضًا فقدوا أموالهم، ربما أكثر مما فقد، لا يمكنه إعادة الزمن إلى الوراء، مضى ومن المحال أن يعود، «وحدهم الأبطال الخارقون يعيدون كتابة التاريخ، أظننا في زمن لا يتواجد فيه أي بطل خارق؟!» سابقًا المنتصر يكتب التاريخ روايته ونظرته للحدث، اليوم تغير الحال فالتاريخ ليس تمجيدًا للمنتصر، نعم سيكتبه للأجيال القادمة، لكن الرواية المضادة ستفضحه وترافق سيرته، نحن في زمن صعب فلا يمكن إخفاء الأسرار، الآخرون ينظرون إلينا ويشاهدوننا كصفحة في يدهم، لا مفرّ من الإقرار بالهزيمة أمام التكنولوجيا! هي التي تجلب السعادة إلى قلوبنا، وهي التي تنشر أسرارنا وتفضحنا على الملأ، لا فائدة من دفن رأسي كالنعامة، سأرفعه إلى الأعلى، سأتحلى بشجاعة تكفي لقتل فيل، سأخبر زوجتي بخسارتي، ليس الوقت مناسبًا! أدرك ذلك، والدها مريض ونفسيتها محطمة، أحتاج ضمة حب تمحو أحزاني، ربما بعدها أنام بهدوء!!
قدّر الإله لنا أن نخسر فخسرنا (يتوجه بالكلام إلى صديقه)، ينتظر للحظات ويبتلع ريقه، ثم يكمل: وضعتُ ما لدي من مال في مراهنة خاسرة، اكتشفت متأخرًا أننا «لسنا أكثر من دمى تحركها أيدٍ خفية لا نراها، المصايب التي تقع على رؤوسنا لسنا مسؤولين عنها، إنها تحدث فحسب، دون أن يكون لنا دور في توجيهها أو افتعالها»، صحيح أني خسرت اليوم، لكني لم أخسر بسبب أحد، القدر لم يقف إلى جانبي، ربما لأني لا أنتمي إلى الأخيار الذين ينتصرون في النهاية.
(يتحدث بعد توقف): سأعود إلى حياتي وأمارسها بطبيعية، لن تشكل الخسارة حاجزًا بيني وبين الحياة، ما زلتُ أرى الأشياء الجميلة، أمتلك عينين كالبقية؟! (يفتعل ابتسامة مزيفة، حينما يراها عليّ يرد عليها بابتسامة مماثلة، لثانيتين وهما ينظران في عيني بعضهما البعض قبل أن يرتبك عادل وينفجر ضاحكًا كأنه يريد إفراغ أحزانه، يبادله عليّ الضحك وإنْ بصورة أقل، فليس معتادًا على الضحك بوحشية مثلما يفعل صاحبه)، كلاهما يريد إيصال رسالة إلى صاحبه، رسالة عادل: «الحياة ستستمر وهي أجمل من أن نتعثر بالخسارات التي تشدّنا ناحية الحزن والانكفاء على الذات، أنا أقوى من كل أحزان العالم، سأخرج من معطفي الأسود، وأرتدي الفرو الأبيض، سأقفز على حزني وأساي؛ لأرى الوجه المشرق في الأيام القادمة»، أما رسالة عليّ: «يا صديقي مهما مررت بظروف صعبة، فتذكر أن لديك قلبًا إضافيًّا، قلبًا مزروعًا في جسد شخص آخر، يستطيع مساعدتك في تجاوز المصايب، وإذا كنت ستعيش حزنك السرمديّ، من الأفضل أن تستبدل بقلبك الضعيف الحزين قلبي، يا صديقي سنذهب إلى الإله، نتضرع إليه، أن ينقل قلبينا من مكانهما، أنت تأخذ قلبي وأنا آخذ قلبك، حينها سنتوحد وستزول أحزانك، فالبهجة في قلبي تتسع لسكان العالم أجمع، فما بالك بك أنت، أنت الذي أعتبره أعز سكان العالم؟!».
ثانيتان فقط اختصرت الحزن الكامن في قلب عادل والكلام الكثير الموجود على لسان عليّ، ثانيتان فقط بإمكانهما فعل الأعاجيب إذا جاءتا في وقت مناسب ومكان مناسب، ستعتبران بلا قيمة في موقف آخر، أما هنا بين قلبين متعلقين ببعضهما البعض، القيمة بكاملها حضرت، ثانية غسلت الحزن وأخرجت الكلمات المريضة المختبئة في قلب عادل، تلك التي تسجنه في عالمها وتدفع به نحو حافة الجنون، ففقدان المال يعني صعوبة الحياة، عادل أخرج الأحزان المتراكمة في قلبه، وقذفها إلى الفضاء، ثانية أخرى التقط عليّ فيها أحزان صديقه وبدأ بغسلها وتجفيفها، ثم نشرها على الحبل، يعرفه منذ الثانوية، لن يتركه الآن، أنا معك يا عادل، لن أتركك أبدًا، المصايب التي تقع عليك، تقع عليَّ، أنا شريكك في الحزن، الخسارة التي داهمتك سنتعاون من أجل إبعادها، تستطيع طلب المال الذي تريد، شريطة أن تستعمله بحكمة، لن أدفع إذا كنت ستغامر وتراهن مرة أخرى، «يا صديقي المراهنة خدعة، يقوم بها الأثرياء للإيقاع بنا نحن البسطاء، يزدادون مالًا، ونزداد حزنًا»، لا عليك من السعادة العابرة على الوجوه، القلوب محترقة من الداخل، البكاء لا يتوقف في المنازل، الأسف والحسرة يجتاحان الجميع، أما السبب فمراهنة خاسرة، يا صديقي عُدْ إلى حياتك الطبيعية، تذكّر أن لك قلبًا آخر تعيش به، قلبًا يتواجد في جسدي؟!
كان يومًا رائعًا! ( يقول عادل) رغم كل ما حدث.
عليّ: لا نستطيع كتابة أقدارنا! (يبتسم)
عادل: ( يبتسم أيضًا) أقدارنا مكتوبة منذ الأزل.
علي: أقدارنا نكتبها نحن (تظهر أسنانه الأمامية) والظروف قد تساعدنا على تحقيقها!
عادل: ينبغي أن نعيد كتابة أقدارنا إذن (يفتح فمه بابتسامة عريضة).
علي: إذا كنت تستطيع! (يفتح فمه وتصدر منه ضحكة يحاول كتمها).
عادل: ولِمَ لا، المحاولة لا تضرّ!
علي: المحاولة لا تضرّ؟!
يكمل: «الكثيرون يحاولون كتابة أقدارهم الخاصة، ولم ينجح منهم سوى قلة، إنهم العظماء يا صديقي»، وأنت… تبدو من العظماء (تنفلت الضحكة من شفتيه تقابلها ضحكة سعيدة من الجانب الآخر).
عادل: وأنت، ألست من العظماء؟ (يضحك).
علي: أنا صديق للعظماء لكني لست منهم (يضحك بنبرة عالية تقابلها ضحكة مماثلة من صاحبه).
عادل: أشكرك على كل شيء يا صديقي (ينطق بها بعد فترة توقف للضحك).
علي: نحن أصدقاء… صحيح؟ (يهزّ عادل رأسه موافقًا).
يكمل: هكذا يكون الأصدقاء (ويتجه بعينيه إلى عيني صديقه) وإلا ما الفائدة من وجودهم؟!
ينغلق المشهد أمام منزل عادل، ينزل من السيارة، يودّع صاحبه ويتمنى له ليلة سعيدة.
فصل من رواية جديدة صدرت حديثًا بالعنوان نفسه، عن دار إي في لندن.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق