لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
أدونيس كما تراه أخته فاطمة في مناسبة بلوغه الـ90:
بلا أسلاف، يمشي في الهاوية وله قامة الريح
تفتح الفنانة فاطمة إسبر كتاب الماضي الحاضر المستمر، منجزةً عالمها المتخيل عن شقيقها الشاعر أدونيس. هي الرسامة التشكيلية والباحثة الأكاديمية التي انتزعت رسالة الدكتوراه في نقد الشعر الحديث، مبحرةً في محيط الشاعر المترامي، لتأتي رسالتها بعنوان: «الرفض في شعر أدونيس».
من هنا تروي لنا فاطمة عن (علي أحمد سعيد إسبر) في مناسبة بلوغه التسعين من العمر، فتقول لـ«الفيصل»: «الكتابة عن أدونيس ليست بالأمر السهل عليّ، وبخاصة أن حياته كشعره تغلّفها سهولة فاتنة، غير أنها ممتنعة على الوصف الذي يوازيها، وثانيًا أنه تفصلنا مسافة زمنية، فهو الولد البكر لأمي وأبي، وبعده وُلِدَ أشقائي الأربعة، وتُوفيت لي أخت، وفقدتْ أُمي توأمًا، لدرجة أن والدتي -رحمها الله- يئست من تعويض أختي التي رحلتْ وهي لا تزال في السابعة من عمرها، فكانت تبكيها دائمًا، إلى أن جئتُ أنا الأخيرة في ترتيب إخوتي. أذكر أن أمي أخبرتني بأن حزنها خفَّ قليلًا بعد مجيئي إلى هذه الدنيا؛ غير أنها كانت تصف لي شقيقتي الراحلة، فيزداد حضورها في تفكيري ولا يزال، لدرجة أنني كتبتُ لها مرة وأخبرتها بأنني أحبها جدًّا».
«أخبرتني أمي أنها كانت يائسة من أن تلد بنتًا تتمناها بعد صبيةٍ أربعة، لكن أبي قال لها بأن الله سوف يعوضها، وجئتُ أنا بعد هذا اليأس، فحظيتُ بدلال أكثر قليلًا من المألوف وبخاصة عند أبي. هذه المسافة الزمنية التي تفصلنا جعلت من الطبيعي ألّا أعرف أخي (عليًّا) وألا يعرفني، إلا من خلال ما يُحكى. لم يكن (عليّ) قد اتخذ اسم أدونيس بعد، وكما قلت الفارق في العمر بينه وبيني جعلنا بعيدين في مرحلة الطفولة، فقد خرج أدونيس من القرية وهو لا يزال في الثالثة عشرة من عمره ليدرس في طرطوس، ولا أعرف شيئًا عن تلك المرحلة إلا فيما بعد ومن خلال الأحاديث التي سمعتها، أو التي طلبتُ من أمي أن تحكيها لي، فمعرفتي الفعلية لأدونيس بدأت بعد أن خرج إلى بيروت واستقر فيها».
عرزال التوت
زيارات صاحب «احتفاء بالأشياء الواضحة الغامضة» للقرية كانت قليلة وقصيرة، كما تخبرنا فاطمة: «أحيانًا لم يكن يكمل يومه فيها، لكن في المرحلة التي ذهب فيها ليخدم العلَم في كلية ضباط الاحتياط بحلب بدأتُ أتتبع أخباره. كان ذلك حين كانت أمي تتحدث وإخوتي عنه، وكنت أستمع بشوق كبير، فإخوتي كلهم حولي وأعرفهم إلا هو فقد كان بعيدًا دائمًا». (عليّ) اسمه الذي تردده أمي كثيرًا وتتحدث عنه، وعن شوقها لرؤيته- تعقب فاطمة وتقول: «كثيرًا ما كان يأخذني الشوق إلى سماعها، فقد كنتُ تلك الطفلة التي تتعرف على شقيقها الغائب من خلال حديث الأم، وكثيرًا ما كانت تروي لنا الوالدة عنه حين يريد أن يلعب أنه كان يحاول أن يشيد بناءً ثم يهدمه، ليعيد بناءه من جديد، وبعد أن كبر عليّ قليلًا أذكر أنه بنى عرزالًا في شجرة التوت الكبيرة التي كانت تغطي بحجمها الفِناء الخارجي لبيتنا في قصابين. أتذكر أنه كان يوجد شجرتا توت كبيرتان جدًّا، وظلهما كان يغطي مساحة مستطيلة كبيرة أمام ذلك البيت، لقد بنى أدونيس عرزاله في الشجرة الأكبر، وكلما كان يجيء في إجازة يوم أو يومين لرؤيتنا ينام فيه».
تروي فاطمة عن تلك الأيام الخوالي، وتقول: «أذكر، حين كان يجيء إلى قصابين، يمتلئ البيت ولا نجد مكانًا، فقد كان عليّ يدير السهرة بطريقة يكون الجميع فيها مشدودي الانتباه لكل كلمة وحركة ، لكني حين أستيقظ في اليوم التالي يكون أخي قد عاد إلى حيث يجب أن يكون.. ما زلت أتحدث عن الطفولةِ غائبةِ العلاقة بين أخي الكبير وبيني، فأنا لم أكن وقتها أعرف كيف سأحدِّثه، ولا ماذا أحدّثه. فقط أنظر إلى المكان الذي يكون فيه، وأنا لا أعرف أن أعبّر عن مشاعري نحوه، ولا عن الحالة التي يضعنا فيها كلما جاء من غيابه، فقد كنت أشعر أن المكان والجيران وأهل البيت وشجرات التوت، وكل شيء يتخذ حُلةّ جديدة بحضوره ويبدو البيت وكأنه يضحك احتفاءً به».
ما أذكره الآن عن تلك الأيام، تتابع الدكتورة فاطمة، وتقول: «حين كان في كلية الضباط الاحتياط في حلب، وجاء لزيارة الأهل في القرية أحضر لي معه ثيابًا كثيرة، منها ثوب بلون زهري، ما كنت أتمنى أن يفارق جسدي وحذاءً أذكر أن لا شبيه له، والأهم من ذلك أحضر لي مجموعة أقلام مختلفة، مع قلم حبر ليس أطول من إصبع اليد. سحرني يومها هذا القلم وأذكر أنه قال لي مشجعًا بأنني سأذهب إلى المدرسة وسأكون الأولى، لكن القلم الذي سحرني لم ينم معي سوى ليلةٍ واحدة، وما زلت حتى الآن أذكره ولا أعرف كيف ضاع مني. لكن الذي عرفته وأثّر في وعيي أن أخي كان يعرفني، ويجلب لي أشياءً في غاية الجمال يغبطني عليها الجميع».
سجن المزة
سيرة الشاعر السوري في ذاكرة شقيقته الصغرى تومض في مخيلتها، وتعطي ظلالًا من عطر تلك الأيام: «أمي -رحمها الله- كانت بحدسها، أو بحكم تعودها على مجيئه، كانت تقول اليوم سوف يأتي أخوكِ عليّ، ودائمًا يكون وصوله في مرحلة الغروب من النهار، ومن أمام بيتنا القروي كانت توجد زاوية مفتوحة تطل على الطريق، ويظهر القادم قبل وصوله إلى البيت بمدة كافية لأن تترك قلب المُنتظر في حال من التوتر والقلق إلى أن يصل. وفجأة من غير سابق عِلم أو معرفة أو ظن انتقل أدونيس من كلية الضباط الاحتياط في حلب إلى سجن المزة العسكري في دمشق. غيومٌ من الحزن والتساؤل والألم والقهر خيمت على أمي وإخوتي والبيت والجيران، فقد كان عليّ يملأ قلوب الجميع، ما من أحدٍ إلا وبكى.
بدا البيت كما لو أنه صار عيونًا ودموعًا، والجميع كان يردد: قُتل شخصٌ في دمشق، ما ذنب طالب في حلب؟ تعلق فاطمة على حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي واعتقال كوكبة من القوميين السوريين على رأسهم أدونيس على خلفية عملية الاغتيال التي حدثت في 22 إبريل من عام 1955م في الملعب البلدي بدمشق، وتضيف: «لم تشغلني أحاديث المجتمعين، بل شغلني وجه أمي ودموعها التي لم تكن تتوقف، لدرجة لم أجرؤ على سؤالها عن المقصود بأنه في السجن، ولماذا، ويبدو أن إخوتي الأكبر مني أدركوا المسألة أكثر مني وقتها، مع أنني لم أذكر أنهم تكلموا أو سألوا أي سؤال، ولم أدرك معنى بكاء أمي إلا بعد مدة طويلة. حين أعود بالذاكرة إلى ذلك الزمن أتفهم سر بكاء أمي وسر تلك الدموع التي لم تكن تتوقف، فقد كان فقدُ أبي ليس ببعيد، وإخوتي صغار وكلهم في مراحل مبكرة من الدراسة، وأخي محمد وهو الثاني بعد عليّ لم يتخرج بعد من دار المعلمين، ولم يكن الوضع صعبًا فقط، بل شديد الصعوبة وبخاصة بعد اعتقال أدونيس بتهمة وُجهت إلى الحزب القومي السوري بكامل أعضائه».
سُجن أدونيس مرتين، وفي كل مرة كان يخرج من دون محاكمة، ومع أن أسئلة كثيرة وُجهت إليه حول هذا الموضوع، فإنه يؤثر رفض الحديث عن هذه التجربة، وتركها ليكتب عنها في سيرته الذاتية؛ تضيف فاطمة وتقول: «بالنسبة لي لا أذكر سوى أمي حين كانت تسافر إلى دمشق كي ترى أدونيس، وتمضي أيام بقائها في بيت خالي، وأنا أبقى مع إخوتي في القرية كنا نجتمع مع بعضنا. لا يمكن أن أتخيل حنوًّا وحبًّا وتلاصقًا أكثر من ذاك الذي كان يجمعنا، والآن أفهم قول أدونيس في إحدى قصائده: «افهمني أيها البيت المليء بأجنحة السنونو» فهو لم يقصد طيور السنونو التي كانت تعشش بكثرة في سقف بيتنا وحدها، بل كانت هي ونحن إخوته الصغار، ومعها كنا نشكّل تلك الأجنحة. تعيدني هذه الكلمات إلى أصابع يديه وهو يمررها على رأسي. كم تشبه تلك اللمسة التي أذكرها الآن أصابع أبي عندما كان يمررها في شعري، وإلى عينيه اللتين كانت تفيضان بريقًا وهو ينظر إليّ».
لم أكن أعلم ما الذي سيكون عليه أخي؛ تضيف فاطمة: «لم يكن بمقدوري التنبؤ بمستقبل عليّ، لكن الآن أعتقد أنه هو الذي فكّر في مستقبلي، ولعله تلمّس بعض جوانبه، لم أكن قادرة على رصد العلاقة بينه وبين إخوتي، وبيني وبين أدونيس على وجه الخصوص، فما عرفته في مرحلة الطفولة المبكرة أغلبه من أحاديث أمي وبيت عمي الملاصق لبيتنا، والجيران حين كانوا يجتمعون عندنا ويتحدثون عن أبي الذي كان شديد القلق على مستقبل إخوتي العلمي، وعاقبة من يتخلف عن الذهاب إلى حلقة شيخ الكتّاب لم تكن وقتذاك أمرًا سهلًا، فالعقوبة كانت هنا لا غفران لها، فهو العلم، الطموح الذي يرفض العوائق».
لا بد من تجاوز بعض المراحل التي لم أكن على وعي فيها بالعلاقة مع أدونيس؛ تكمل فاطمة: «بعد سجنه في المرة الثانية، وكان قد اتفق مع خالدة على أن يكونا معًا دائمًا طوال حياتهما. خالدة كانت بديلًا رائعًا في غياب أدونيس، ورغم أن اللقاء بها في مدينة اللاذقية كان قصيرًا دائمًا، فإنها كانت تملأ تلك الدقائق بحب جعلني أشعر بها وكأنها الأم في بعض تجلياتها، وما زالت تلك الصورة لها في قلبي. ذهب أدونيس إلى بيروت، ونحن بقينا في (قصابين). إخوتي جميعهم كانوا لا يزالون في المراحل الدراسية الإعدادية، إلا أن أخي محمدًا وهو الثاني بعد أدونيس كان في دار المعلمين، وأنا أصغرهم. من هنا بدأ دور أدونيس، ومن هنا بدأ فهمي لأخي الكبير. وكيف صار أبًا وأخًا وصديقًا لنا ولأولاد إخوته فيما بعد، أما أنا فقد بدأتُ أكبر، وأمسك قلمًا وورقة، وأصوّر وجوه الذين يجيئون إلى بيته، لكن وجه أدونيس ظل أكثر الوجوه التي جذبتني، فرغم الصعوبة التي كنت أجدها في إبراز ملامحه بدقة، فإنه شجعني بحب كبير، وتابع تعليمي إلى أن تخرجت من دار المعلمات، دون أن يتخلّٓ يومًا عن وجوده إلى جانبي في أي وقت».
تروي فاطمة عن ذكرياتها مع أدونيس، عائدةً بنا إلى التماعات بين المخيلة والذاكرة، مخيلة كتبها الشعر وذاكرة دبجتها السنوات الطويلة بحنين لا ينضب: «كبرتُ أكثر وتزوجت. زوجي كان دبلوماسيًّا، ولم يلتقِ أدونيسَ إلا بعد زواجنا، لكنه كان يحب أخي بطريقة لا تصدق، وقد أحبه أدونيس أيضًا، وكان يصفه بـ «صديقي» صحيح أنني تزوجت دبلوماسيًّا، ولم أكن بعد قد أتممت دراستي العليا، ولكن لم يكن هذا الزواج ليخفف رغبتي في الدراسة ومن غير المعقول ألّا أتمّها، فانتسبت إلى جامعة القاهرة، قسم اللغة العربية التي أحببتها، وتخرجت منها. ذهبت إلى القاهرة ولم أمضِ شهرًا فيها حتى زارني أدونيس هناك، وكان يشعر بأنه يريد أن يطمئن عليَّ. ذلك الحنان الذي كان يَبُثّه وهو يضع يده على كتفي، وألمحه في عينيه، لا أنساه ما حييت. كان قلبي يقول لكل خلية فيّ: أنتِ الآن أسعد كائن على وجه الأرض، يكفي أنكِ أخت أدونيس، وهو أكثر من ذلك. إنه أبٌ وأخٌ وصديق.. وقد أدرك زوجي هذه الحقيقة، وفي كل لقاء يزداد حبه لأخي».
ترويض الرعد
كان لأبي مع أخي عليّ علاقة خاصة ومختلفة؛ توضح فاطمة وتضيف: «كان والدي -رحمه الله- يبني مثل كل أب آمالًا بحجم مساحة الخيال، إلا أن رغبته في تعليمنا كانت تتفوق وتزداد لدرجة المخاطرة في إرسال الأولاد في أيام المطر والبرد الشديد إلى المدرسة في بلدة تفصلها عن قريتنا مسافة تقارب الساعة سيرًا على الأقدام، فلم يكن هناك مواصلات، بل كان هناك نهر يفصل بين قريتين، وكان على الأولاد أن يعبروا هذا النهر مرتين في اليوم، وفي أيام المطر الشديد كان النهر يفيض، ويذهب رجال من القرية لمساعدتهم على العبور.
أذكر أنه في يوم غزير المطر من أحد الشتاءات تعرض عليّ لهجوم من النهر، أو لعناق خطير، فقد كانت مياهه أعلى وأعمق من قدرة أخي على اجتيازه «لأبي عباس المختار وجه زيتونة.. للدركي قلب عوسجة.. وبكى عباس مرةً حين كاد النهر أن يغلب عليًّا ويأخذه السيل إلى نهاياته.. لم يكن لوجه أمه أن يوقف المطر.. لم يكن لصوتها أن يروّض الرعد» أسباب كثيرة منعت وجود مدرسة في قريتنا أهمها النظام الإقطاعي وتدخل الزعامات أيام الفرنسيين ودعمهم للإقطاع مدةً طويلة، ولعلهم كانوا يدركون أن العلم هو العدوّ المؤكد لهم، والبقاء من دون معرفة سيبقي الناس تحت سيطرة المتحكم، لكن أبي وهو الذي حصل على لقب الشيخ نظير علمه ومعرفته، وليس بالوراثة، فقد كان شديد الاهتمام بالعلم ومن هنا كانت تلك المغامرة اليومية بإرسال أطفال صغار إلى مدرسة بعيدة من القرية يقطعون في الشتاء نهرًا كبيرًا مرتين يوميًّا، وما تبقى كان سيرًا على الأقدام.
هم أخي عليّ وأخي محمد وطفل أو طفلان من القرية كلها، بل من عدة قرى مجاورة كانت تابعة لسلطة إقطاعي كان يتحكم في عقول الناس وتعليمهم وأرزاقهم، وفي قصيدة «مفرد بصيغة الجمع» كتب أدونيس في وصف حدث في حياة والده: «قالوا مرةً وصفَ قدميه.. لم يمشِ بهما إلى باب سلطان». وهذه كانت إشارة من أدونيس إلى حادثة وقعت مع أبي، فقد استولى أحد الإقطاعيين أيام فرنسا على جزء كبير من أرض أبي بطريق الرهن. المهم في الأمر أن الإقطاعي أرسل شخصًا ليقول لأبي أن يذهب إلى بيت هذا الإقطاعي، وسوف يعيد له ما أخذه من أرضنا غيلة وبهتانًا، لكن وكما أخبرتني أمي أنه قال له: «والله لو يأخذ رزقي كله فلن أذهب إليه».
هذا الحادث ترك في نفوسنا أثرًا كبيرًا ولا أزال في كل لحظة تمر هذه الذكرى تعبر روحي وجسدي قشعريرة زهو وفخر؛ تعقب فاطمة وتضيف: «عرف أدونيس تلك المسارب الروحية العميقة التي جعلت من والده صديقه الأول، والتي وضعت قصابين في حزنها العميق «حين أخذه الموت بكت عريشةٌ، ووضعت قصابين خدها على الأرض» .ذلك الوهج من جهة والده، الذي ما انطفأ يومًا في قلب علي :«كان لي معه أن أكتب الريح، وأقرأ شيخوخة الحجر … كان لي أن أرفع الحلم سقفًا، وأن أتزوج الحياةَ لونًا لونًا، كان لي أن أتشمّل الزمن وأرسمَه». على فكرة هذا الإقطاعي هو نفسه الذي منع عليًّا من إلقاء قصيدته أمام رئيس الجمهورية الراحل شكري القوتلي.
القصيدة التي تمكن من قراءتها بمساعدة واحد من أعيان الجبل وغيرت حياته، وقصتها رواها أدونيس أكثر من مرة، وبعد بلوغه الرابعة عشرة من عمره اتخذ اسم أدونيس، وكان الجميع يناديه به، وأنا عرفته باسم أدونيس أكثر، ومنذ البداية ورث أدونيس عن أبي أيضًا ألّا يهادن في الحق، الحق الذي يؤمن به، وشجاعته في نقد ما لا يرضى عنه، ورغبته الشديدة في الاطلاع على كل ما كُتب ويكتب، وأنا شديدة الإعجاب بتلك القدرة التي يتمتع بها على القراءة والكتابة من دون تعب أو ملل.
مفرد بصيغة الجمع
حين أسألُ عن أحب كتب أدونيس لديّ، فإنني أدخل في حيرة شديدة؛ تبوح فاطمة: «لا أذكر مرة أنني فتحت كتابًا له إلا وجدت فيه ما يجعله الأهم، إن كان ذلك في النقد أو في قراءة التراث أو الشعر، إنه يمسك بالقارئ المهتم، فله لغةٌ تشبه سريان الماء الصافي في مجرى لا عائق فيه، وأجد نفسي أمام جديد لم أمر به من قبل، لكن «مفرد بصيغة الجمع» تزداد عاطفتي أمامه لأنني أرى فيه أبي وأمي وإخوتي وبيتنا و«قصابين» وأشجارها التي عرفها أدونيس أكثر مني، وأسماء عِشنا معها، مع اعترافي بأنني لم ألامس إلا احتمالًا واحدًا من الاحتمالات الشعرية الممكنة التعدد. والشواهد التي اعتمدت عليها بالتأكيد مفتوحة على احتمالات أخرى. حين أقرأ لأدونيس أجد نفسي أمام جديد لم يطرح سابقًا، أو طُرح وأعيد قراءته بطريقة مختلفة أو بقيم مضافة، وحين أقرأ من شعره تمرّ عليَّ جُمَل شعرية أقف أمامها، فعلى أي مستوى يمكن أن نأخذها، وهي جمل شبكية تُدخل القارئ فيما وراء الاحتمالات، ويبقى الكلام خجولًا في التفسير «يُعطي وقتًا لما يجيء قبل الوقت. لما لا وقت له، يجوهِر العارضٓ ويغسل الماء». كيف يمكن أن نشرح هذا القول حين نشعر بأن الكلام قد يأخذ بعضًا من ذروة الجملة الشعرية؟! هنا، أتذكر الماء.. الهواء.. الموسيقا.. كيف لنا أن نشرح تلك النشوة التي تولدها هذه العناصر؟ أظن أننا كلنا يعرف أن لذتها تعادل الدهشة وتفوق أي كلام، فذاك هو جنون الشعر وعبقريته في البحث عن الدهشة والقبض عليها، في محاولة وضعها أمام المتلقي. وفي محاولة إيجاد علاقة تربط بين فهم الشعر كما نفهم عناصر الطبيعة.
اللوحة تستلهم أدونيس
«البحث عن الدهشة».. لا أعرف لماذا جذبتني هذه العبارة، وشدتني لأن أعود إليها مرةً ثانية؛ تتساءل فاطمة وتضيف: «ربما أرادت مني أن أقول شيئًا فأنا أومن بأن الأشياء والكلمات والحروف تشعر بطريقة ما، ولها علاقة تواصلية قد تكون خفية وعصية على بعض، وقد يشعر بها بعض آخر، والفن هو المجال الأوسع لالتقاء تلك التموّجات الشيئية، وارتباط الإشارات الخفية ببعضها، ومن هنا كان على الفن أن يكون باحثًا كاشفًا وقابضًا على الخفي ووضعه أمام المتلقي، وبقدر ما يكون الباحث مخلصًا تكون الدهشة حاضرة آسرة؟ يا الله ما الذي يمكنني فعله! أنا البنت التي تحب الرسم كثيرًا، لكن لا مكان لتعلم الرسم. التعلم الحقيقي يكون بالحصول على شهادة جامعية، والشهادة تحتاج إلى دراسة، أما الرسم فإنه يكون في أي وقت وعند الرغبة، لكن الرسم لم يغب لحظة عن قلبي، وكان أدونيس يشجعني جدًّا، وبخاصة حين أرسم أشخاصًا يأتون لزيارته، أو أرسمه هو نفسه. كان بعض أصدقائه من الفنانين يشجعونني جدًّا، لكن خطوات حياتي اتجهت نحو الدراسة بعيدًا من الفن. إن أشعار أدونيس واسعة وعميقة، محيطات من صورٍ ولوحات ودهشة، تجتمع في القصيدة الواحدة، في المقطع الواحد، بل في الجملة الواحدة».
أما عن تأثير أدونيس في أعمالها الفنية ورسمها، فتقول: «هذا يحتاج إلى رؤية غيري أيضًا، وأنا مهما تحدثتُ فلن أكون أكثر من نقطة على طرف محيطه، والذي يتحدث عن تأثير أدونيس لا بد أن تكون لديه خطة البحث عن الجديد والمدهش، إنني أحلم بأن أمتلك شيئًا من هذه الخطة، غير أنني مؤمنة بعوالمه الساحرة، ولذلك أسعى أن أقارب بعض لمحاته، فقد رسمت لوحات من وحي بعض جمله الشعرية مثل قوله: «ملكٌ، ومملكتي خطواتي»، «من أعماق الأشياء الفانية نعلن الحب». هذه أعمال رسمتها من جملته الشعرية، لكن مما لا أشك فيه أن الروح المتأثرة تظهر في أعمالي بالوعي أو باللاوعي، في رموز الإنسان المتطاول الذي يتماهى مع الفضاء، الشجرة، النهر، وربما منحدرات قصابين، البيدر والغدران، وتلك الطفولة المعششة في الذاكرة، والوجوه المنقسمة بين الغياب والحضور، وهذه كلها تعبير عن مشاعر في داخلي، ولستُ أعلم مدى نجاحي في التعبير عنها».
أدونيس ليس أخًا فقط، تقول فاطمة وتضيف: «في بيروت بدأت معرفتي به تنمو وتتسع؛ لأنني كما أشرت سابقًا لم يكن بيننا في الطفولة المبكرة لقاءات تخلق معرفة بمعناها الحقيقي بحضوره ونظرات عينيه، وذلك الحنان الذي يبدو فيهما، لم أشعر إلا بروعة ذلك العالم الذي بناه هو وخالدة.. عالم فيه حب الأمهات والآباء جميعًا. وعلى ذكر الأمهات، فإن ما بين أدونيس وأمه ما أتمناه لجميع أمهات العالم، فأمي كانت تتنفس ذكره، وتبدو وكأنها في نعيم الله في حضوره.. أجل لقد تعرفت إلى أدونيس إنسانًا خلاياه مأخوذة من الحب، وأظنه قد منح الحب معناه الحقيقي في علاقته بعائلته وبكل من عرفه من قرب.. ولو أراد الحب أن يتكلم لقال: كونوا مثل أدونيس. نعم هو ظاهرة وعرفتُ ذلك من نقل شعره إلى جميع اللغات الحية في العالم، ومن محبيه عن طريق معرفتهم به وبشعره، وعن طريق المقالات النقدية لكتّابٍ غربيين التي جُمع بعضُها في كتاب بعنوان: «الضوء المشرقي»، وهذا مثال فالمتابع الذي يحب قراءة أدونيس يعرف أن هناك ما يفوق الأربع مئة من الدراسات عنه. ولا أخفي أنني أحب أن أسمع صوته يوميًّا، فلا بد من تحيتي صباح الخير ومساء الخير له ولخالدة، وما يكون مما أريد قوله له وحده.. في المساء، وفي الصباح».
المنشورات ذات الصلة
جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات
وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine...
إيمري كيرتيس: بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته
إيمري كيرتيس هو أول كاتب مجري يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2002م، «لكتاباته التي تمجد تجربة الفرد الهشة إزاء الحكم...
جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي
أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية...
0 تعليق