كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في «سرير المشتاق».. فاروق وادي ينعى حركات التحرر اليسارية العربية
تثبت الرواية على امتداد الساحة الثقافية العربية، تطورها اللافت وتميزها في ظل ما ينشر من روايات لكاتبات وكتاب عرب في السنوات العشر الأخيرة. ولعل أبرز ما يظهر للمتلقي والناقد المتابع والباحث، هو أن الرواية كفنٍّ لا يتوقف عن الخروج على فنه، بل تفكيك المدونة التقليدية للرواية العربية التي كانت تسعى لرضى «الجمهور» وذائقته المتبدلة، متتبعة طرق التجريب وتداخل الأجناس الأدبية والاستفادة منها، وصولًا للحداثة وما بعدها من دون التوقف أو الالتفات لحصد جائزة بات ينتظرها عديد من الروائيين والكتاب، أو التزام بإرث نقدي متبدل ومتغير باستمرار. لتشق طريقها نحو خلق قارئ بذائقة مغايرة عما اعتاده في قراءاته، مستفيدة من التطور الهائل لفن الرواية بالعالم.
ولعل رواية «سرير المشتاق» للروائي الفلسطيني فاروق وادي والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تندرج في هذا المتن الروائي العربي باختلاف موضوعاته وكُتابه. حيث يتداخل البناء السردي ويتواصل عبر لغة شفيفة تنهل من الوصف والاستعارات والرموز ذات الدلالة النصية المتوهجة، فاللغة هنا لا تعني أحرفًا أو كلماتٍ بل هي رؤيا ورؤية لأنفسنا وللعالم من حولنا، اللغة بأحداثها المتشعبة والمتحولة تشغل المتلقي ولا تدعه يتوقف أو يلتقط أنفاسه لبرهة قصيرة. بل يجد نفسه متورطأ بتتبع مسار الشخوص وخيباتها وآمالها وأحلامها التي تكسرت عند أول عقبة في الطريق، نحو آمال عريضة بالتحرر وتحرير الأرض وكذلك ملاحقة الأحداث في تسارعها ومآلاتها الحزينة، كما البطل الذي ظهر طوال صفحات السرد بأكثر من سحنة واسم، بمعنى آخر كل شخوص الرواية هم أبطال تشاركوا البطولة وتقاسموها مع المرأة «نشوى» التي تسيّدت السرد بامتياز وقاومت ضعف الرجل، وبالتالي قاومت ضعفها وانتصرت لنفسها في أكثر من مشهد وحدث.
على مدار ما يقارب ثلاث مئة صفحة ينعى الروائي حركات التحرر اليسارية العربية، التي استقطبت عديدًا من الأفراد الحالمين بالتغيير واسترداد الأرض التي احتُلت، وقيادة المقاومة بالتحرير والنصر القادم لا محالة. لكن يتكشف السرد هنا، وبحنكة سارد يعلم خفايا الأمور والأحداث ومآلاتها ،عن خيبة وخراب وتفكك وهزائم من جهة، ومآلات «الرفاق الحزبيين» بالانكسار إما سجنًا أو نفيًا أو اعتقالًا أو موتًا؛ بسبب اعتراف من رفيق سقط في أول عقبة، أو وشاية من أحدهم أو إجهاض الحلم وتبدده أو هجر الحبيبة!
تبدأ الأحداث من المحطة الأولى «عمان»، حيث يقام معسكر لتدريب الفتية الذين انضموا لواحدة من حركات التحرير والمقاومة التي أخذت على عاتقها تحرير «فلسطين» من النهر إلى البحر، عبر آلية الكفاح المسلح ولا سواه طريقًا آخر. فينضم «غسان» أو «عطا» أو «آدم» أو «بدر» إلى الرفيق بدر الذي سيحظى بأن يكون زوجًا لنشوى، المرأة الجميلة والرفيقة بالخلية اليسارية، قبل أن يذهب مسرعًا نحو نهايته المأساوية، كما «جابر» أو «مصطفى» ليلتحقوا بنهاياتهم بعد خيانة الرفيق، كل على طريقته، مع البطلة «نشوى» باسمها القديم «نهاية» -والناظمة لخيوط السرد الدقيقة والمتشابكة بأحداثها المتوالية- كما «السرير تمامًا والحلم به» من عمان وصولًا لبيروت، ومن ثم إلى مخيم اليرموك على أطرف العاصمة «دمشق» وطرابلس في «بيروت» وبغداد، والعودة ثانية إلى عمان.
عمان الحب والتنظيم والرفاق، وصولًا إلى مدينة الحلم بالتغير وبالثورة «بيروت» حيث الدراسة والعمل والحرية وتحقيق الأحلام والنصر. فالوطن على مرمى «حجر» أو «نظر» وطموح الحب ومقابلة الرفاق وقراءة ماركس ولينين وهيغل وغيرهم من أدبيات الماركسية ومنظريها. «وإلى متى نستظل بشجرة قد تقلص عنها ظلها». مقولة ثبتها السارد للعلامة المتصوف أبي حيان التوحيدي، كما ورد غيرها في مقدمة كل فصل من فصول الرواية بمقولات للمتصوفة.
أجهضت أحلامهم في الحب وفي الحزب، وبالرفاق وبالقضية، حين قُبِضَ عليهم واحدًا واحدًا. بعد مداهمة المخابئ السرية جميعها. ألقي القبض عليهم إلى أن أصبحت الخلية اليسارية بكامل أفرادها من دون «نشوى» في قبضة الأمن. وبات مشروعهم برمته في مهب عاصفة عاتية ألمّت به فجأة. بل «هاوية سحيقة أودت بأحلام أفرطوا بالحلم بها»، إثر اعتراف الرفيق عند أول تحقيق أمنيّ بالسجن، واستهداف المقاومة في بيروت آنذاك والمتمثلة في استهداف الرمز الشهيد «غسان كنفاني» واستشهاده إثر تفجير سيارته. وهكذا تبدد كل شيء كالسراب، في طريقهم نحو الشمس، نحو الحب، نحو القبض على الحقيقة في مكمنها الضيق، وأية حقيقة؟! نحو الطريق إلى النصر، إلى الوطن ولو مؤقتًا!
لا يكتب الكاتب لإدانة الرفاق أو الطروحات الأيديولوجية والفكرية، أو يؤشر إلى خلل في البنية الحزبية، فقد تمخض في النهاية كل هذا عن ارتداد أفرادها ونكوص بنيتها، أو القبض على الحقيقة عارية كما هي، لا لا، ثمة فرق كبير بين النظرية والتطبيق، بين المقاومة والمفاوضة! يكتب لأجل التخفف من ذاكرة أثخنته، وأحزان أتعبته، في مرحلة تاريخية لمدينة عربية كانت حلمًا للشباب العربي بالتغيير والحرية.
«مهما نجحت في ذلك أو أخفقت، فإنني لا أطمح في الكتابة إلى تخوم الحقيقة. آمل أن أبلغ أقصى حدود الصدق، مهما أوغلت في أكاذيب الخيال الأشد بياضًا من ثلج لم يتمكن من الصمود، فذاب من حرارة التقاء جسدين اشتعلا وتفجرت من أرجائهما البراكين». ص 132.
الروائي هنا يكتب من قلبه، ومن قلب لغته الغنية باستعاراتها ودلالاتها ورموزها وتأويلاتها، ومن قلب قضيته، فجاءت الرواية بفصولها تفيض بصدق فني كبير ورؤيا للعالم من خلال «سرير المشتاق». يكذب الروائي هنا فنيًّا ليصل إلى تخوم الصدق والحقيقة، ويعتمد الخيال ليتجاوز الواقع ويسمو فوق جراحات وعذابات وهزائم مرحلة مهمة لا تنسى من تاريخ هذه الجغرافيا بكل عذاباتها وتوقها للخلاص!
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق