كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
كيف يعمل المبدعون؟
الإبداع، كلمة حولها الكثير من الضباب، تشوبها العديد من الخرافات، ومن بينها أن الإبداع وليد الفوضى وانعدام الروتين والتجدد المستمر. ترجم خالد أقلعي حديثًا كتاب «طقوس فنيّة، كيف يعمل المبدعون؟» للكاتب ماسون كاري، الذي يُجيب عن سؤال: كيف ينبغي أن تُنظم يومك لو أردت أن تكون مبدعًا ومنتجًا؟ حيث يصف روتين 161 مبدعًا، كتّابًا، ورسامين، وموسيقيين، وعلماء ومفكرين.
كان الروتين أساسيًّا بالنسبة لهؤلاء العباقرة أكثر من كونه مجرد رفاهية. وحسبما يقول كاري: «يؤدي الروتين الثابت والصعب إلى تعزيز وتقوية الوضع المبتذل المرتبط بالطاقات الذهنية للشخص، إضافة إلى المساعدة في تجنب وجود الحالة المزاجية للاستبداد». تُعد الإدخالات الفردية ساحرةً، لكنه لم يخرج بأي استنتاجاتٍ عامة. القارئ الجيد سيخرج بعدة نتائج مهمة؛ منها: أن معظم الناس (88%) كان لديهم روتينٌ مميزٌ، مع عددٍ قليلٍ نسبيًّا ممن ذكروا عدم وجود جدولٍ قياسيٍّ. مع ذلك، كان بعض الناس الرائعين منتجين دون روتينٍ بما في ذلك فيديريكو فيليني، وويليام جيمس.
من الصعب معرفة ما إذا كانت عينة كاري ممثلةً للناس المبدعين بشكلٍ عامّ؛ لأنه لم يذكر كيف اختار شخصياته، فربما هناك من سيقولون: إنهم لا يمتلكون أي روتينٍ معينٍ، ولكن لا يوجد أي توثيقٍ لذلك، وأظن أن الناس غير المنظمة بما فيه الكفاية ليكون لديهم نوعٌ من الروتين اليوميّ ليسوا بالعادة منتجين بما فيه الكفاية ليصبحوا مشهورين، ولكنّ عينةً أكبر وأقل اعتباطًا ستكون دليلًا أكثر موثوقيةً للأنماط العامة.
أصبح تعريف الإنتاجية يرتبط بمفاهيم صارمة للروتين اليومي، وبخاصة بعد الثورة الصناعية، فمثلًا تجد رب العمل غالبًا يستحسن الموظف الذي يأتي من 7 صباحًا وينصرف 9 مساء، كما أن الكثير منا يشعرون بالذنب إذا لم يجلسوا على مكاتبهم من 9 صباحًا حتى 5 مساء، لكن النتيجة الثانية في الكتاب تخبرنا أن عددًا قليلًا من المبدعين يعملون طيلة الوقت، أي من الصباح إلى المساء. حيث إن أقل من 10% كانوا قادرين على تحمل هذا الجدول المرهق، وهو أمرٌ أجدُه مشجعًا. ومدمنو العمل يشملون بينجامين فرانكلين، فيليب روث، وأليكسندر غراهام بيل. وإن القسم الأكبر من المبدعين يعملون في الصباح، أي نحو 72%، على النقيض من 48% ممن يعملون في وقت ما بعد الظهر، و22% ممن يعملون في المساء، و15% ممن يعملون في الليل.
في العينة بأكملها، أدّى نحو 25% أعمالهم في الصباح فقط، و27% تمكنوا من أن يعملوا بإبداعٍ في وقتَيِ الصباح وما بعد الظهيرة معًا. وتُعد الأنماط الأخرى مثل العمل فقط فيما بعد الظهيرة، أو الصباح، أو الليل نادرةً، كما كان نادرًا الخلط بينها. ومن بين القلة التي ذكرت أنها كانت تعمل في الليل فقط كان غوستاف فلوبير، وفرانز كافكا، ومارسيل بروست.
الكتاب مزيج ممتع من التفاصيل، لكن يمكننا ملاحظة كثير من العوامل المشتركة في حياة العباقرة، بما سمح لهم تحقيق الرفاهية المرتبطة بالروتين المتسم بتعزيز الإنتاجية؛ منها:
– عش روتينك الخاص والتزم به: فمثلًا الروائي الفرنسي بلزاك كان يطلق العنان لقلمه في الوقت الذي يأوي فيه الجميع للنوم، فعادة كان يعكف على رواياته وقصصه في الساعة ما بين (1 فجرًا حتى 8 صباحًا)، ثم ينام لبضع ساعات، ثم يعود لعمله الإبداعي، ثم يذهب لقضاء وقت مع أصدقائه وتناول العشاء معهم، ثم ينام لست ساعات. أما المؤلفة الأميركية فلانري أوكونور، فكانت على النقيض، تستيقظ الساعة 5 صباحًا وتنطلق للكنيسة، ثم تبدأ عملها الأدبي بين 9 صباحًا والظهر، ومن ثم تقوم بالرسم وبعده استقبال الضيوف والاهتمام بطيورها وممارسة هواياتها، وهذا ما غذى عملها وحياتها.
– احتفظ بوظيفتك: احتفظ كافكا لوقت طويل بوظيفة مملّة، والشاعر الأميركي ويليام كارلوس ويليامز كان يكتب أثناء أوقات الاستراحة بين استقبال طفل وآخر في عيادته.
– تعلم أن تنتج في أي مكان: تنتاب العديد من الفنانين الشباب تخيلات رومانسية عن المكان الذي يفترض أن يبدعوا فيه، وما يناسبه من طقوس، لكن الحقيقة بحسب كتاب كوري، أن أغلب المفكرين والفنانين العظام أنتجوا أعمالهم في أي مكان توافر لهم، فالإبداع يأتي أينما كان المبدع، وليس العكس.
– تحمل المسؤولية وضع مقاييس لأداء الأعمال: كان أنتوني ترولوب يكتب ثلاث ساعات يوميًّا، وكان يلزم نفسه بكتابة 250 كلمة في كل 15 دقيقة، وفي حال إنهائه الرواية، التي كان يكتبها قبل انتهاء هذه الساعات الثلاث، فإنه يبدأ من فوره في تأليف كتاب جديد. وإرنست همينغواي يتابع عدد الكلمات اليومية التي يكتبها «حتى لا يخدع نفسه».
– حدد الخط الفاصل الواضح بين العمل المهم والعمل غير الضروري: يقسم الكثيرون اليوم إلى وقت عمل فعلي (مثل التأليف في الصباح) وعمل غير ضروري (مثل الإجابة عن الرسائل في وقت ما بعد الظهيرة). ويتنقل الآخرون لممارسة الأعمال غير الضرورية حينما لا يسير العمل الفعلي بالشكل الجيد.
– توقف عند تحقيق النجاح بشكل كبير وليس عند الإخفاق: يقول همينغواي: «يمارس الشخص الكتابة حتى يصل إلى مكان ما لأخذ قسط من الراحة وتناول العصائر، حيث يعرف ما سيحدث في اليوم التالي ويتوقف عن القيام بأي تجربة صعبة حتى مجيء اليوم التالي حينما يعاود العمل مجددًا». ويقول آرثر ميلر: «لا أُومِنُ بمبدأ استنفاد المخزن الاحتياطي للطاقة، فهل توافقني الرأي في ذلك؟ إنني أومنُ بالنهوض والابتعاد من الآلة الكاتبة حينما يكون لدي أشياء أخرى أودّ أن أكتبها».
– قلل من الحياة الاجتماعية قدر المستطاع: يوضح أحد معجبي سيمون دي بوفوار هذا بقوله: «لم تكن بوفوار تنظم حفلات استقبال أو تستضيف حفلات أخرى أو مظاهر للبرجوازية، بل كان هناك نمط مرتّب من أنماط الحياة، وتشكلت البساطة عن قصد لكي يتسنى لها أداء عملها». ويقول كاري: إن مارسيل بروست «اتخذ قرارًا جيدًا في عام 1910م بالانسحاب من المجتمع». وتبنى بابلو بيكاسو وصديقته فيرناند أوليفر فكرة تخصيص يوم الأحد لاستقبال الزائرين، حتى يتمكنا من الوفاء بالالتزامات المتعلقة بالصداقة خلال وقت واحد بعد الظهيرة.
– اهتم بلياقتك ومارس المشي كثيرًا: كانت ممارسة رياضة المشي يوميًّا بانتظام أمرًا أساسيًّا للكثيرين لجعل العقل يعمل بفاعلية. وكان المشهور عن تشارلز ديكنز أنه يمارس رياضة المشي لثلاث ساعات يوميًّا في وقت ما بعد الظهيرة وكان يدوّن ما يلحظه على الأشخاص في كتاباته بشكل مباشر، وكان تشايكوفسكي يمارس رياضة المشي ساعتين يوميًّا، وبيتهوفن يتجول لأوقات طويلة بعد تناول وجبة الغداء كما كان يحمل معه قلمًا وورقة في حقيبته لتدوين ما يلهمه به خياله.
أخيرًا.. اصنع الروتين الذي يناسبك أنت، وليس شرطًا أن تعيش حياتك وفق نظام الأغلبية حولك، المهم هو الالتزام به بعد أن تقرره، وأن يكون مليئًا بالعادات التي ألهمت المبدعين، فإذا لم تُفِدْك واحدة نفعَتْك الأخرى، ولن تكون بدعًا من المبدعين ويأتيك الإلهام دونها إلا في خيالاتك.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق