كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حين تكون الحقيقة ضحية التاريخ
في رواية «المثلث السري، دموع البابا: الحقائق الخفية عن الفاتيكان وصلب السيد المسيح وحراس الدم» للكاتب الفرنسي «ديدييه كونفار» (بيروت – دار الخيال 2008م)، تحاول جماعة سرية تفنيد رواية صلب المسيح، الواردة في الأناجيل الأربعة المعترف بها من الفاتيكان؛ السلطة المرجعية العليا في الكاثوليكية (أناجيل: مرقص، ومتى، ولوقا، ويوحنا). بطبيعة الحال، هناك أناجيل أخرى وروايات أخرى لدى مذاهب مسيحية أخرى، كالنسطورية والآريوسية، تخالف ما جاء من قرارات صدرت عن مجمع خلقيدونية عام 1461م، في طبيعة العلاقة بين الأقانيم الثلاثة للديانة المسيحية (الأب، والابن، والروح القدس)، بل إن بعضها ينكر ألوهية المسيح، بل حتى إنه وُلد مِن عذراء، بل له أب هو يوسف النجار، وبالتالي فهو نبي قد خلت من قبله الأنبياء.
المهم، تُعِيد هذه الجماعة السرية، وبناءً على تحليل مخطوطات البحر الميت، أو مخطوطات كهوف قمران، المكتشفة عام 1947م، قراءةَ العهد القديم من الكتاب المقدس خاصة، لتصل إلى نتيجة مؤداها أن المسيح لم يصلب على جبل الزيتون، إنما كان المصلوب أخًا توأمًا له، أما المسيح الحقيقي فقد هرب حتى وصل إلى فرنسا، وهناك عاش ومات ودفن. وهذه الرواية، تشبه إلى حد ما رواية: «شيفرة دافنشي» للكاتب الأميركي «دان براون» (بيروت: الدار العربية للعلوم 2004م)، التي تناقض الرواية الرسمية للمسيحية بأن المسيح لم يتزوج ومات بتولًا، بينما الحقيقة هي أنه تزوج مريم المجدلية، العاهرة التي آمنت به وتبعته.
كلتا الروايتين تدور حول بشرية المسيح، ولكن ذلك لم يعجب السلطات الكنسية العليا؛ إذ إن ذلك يعني انهيار المسيحية برمتها، فماذا يبقى من المسيحية الرسمية إذا انهارت رواية الصلب وألوهية المسيح، وبدرجة أدنى زواجه وإنجاب ذرية؟ في الروايتين، تُلاحِق السلطات الكنسية هؤلاء الساعين إلى الحقيقة، وتُصَفِّيهم، رغم علم البعض في هذه السلطات بحقيقة ما يسعون إليه، ولكن المهم هو بقاء المؤسسة وسلطتها، وإن كان ذلك على حساب الحقيقة المجردة، فالمهم هنا همّ بقاء وليس همًّا معرفيًّا.
ضرورات البقاء
أوردنا هاتين الروايتين، وهناك الكثير غيرهما، كمدخل إلى موضوعنا هنا وهو علاقة الحقيقة بالتاريخ، وبخاصة التاريخ الديني، فهل مثل هذا التاريخ، أو لنقل التراث حين يتعلق الأمر بالدين، هو مبني على الحقيقة المجردة، أم أن «ضرورات البقاء» تحتم على كاتب التاريخ الرسمي تحريفًا، أو لنقل تعديلًا، للحقيقة المجردة من أجل استمرارية المؤسسة الوصية على الحقيقة، في جانبيها المعرفي والروحي.
لو عدنا إلى المسيحية قليلًا، سنجد أن المؤسس الحقيقي لها هو «بولس الرسول» وليس يسوع المسيح، الذي لا يوجد من دلائل على وجوده وتعاليمه إلا شذرات يسيرة لا تكفي لتكوين صورة متكاملة أو واضحة عن شخصيته وسيرته، حين نرجع إلى تحقيقات المؤرخين الفعليين، وليس ما تخبرنا به الكتب المقدسة. بولس هذا كان من أعداء المسيح، ولكنه في النهاية آمن به، بعد رؤيا جاءه فيها المسيح، وعلى هذا بدأ يكرز (يبشر) بالدين الجديد وفق الأقانيم الثلاثة، وفي النهاية أصبحت المسيحية، وفق رؤية بولس الرسول، هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية في عهد الإمبراطور قسطنطين، وعلى هذه الرؤيا تأسس الفاتيكان، المتحكم الروحي والمعرفي في ملايين الكاثوليك حول العالم، من دون أن يكون هنالك حقيقة جلية حول السيد المسيح وسيرته، إلا ما ورد في الأناجيل الأربعة، التي لم يقابل أصحابها، ولا بولس الرسول، المسيح وجهًا لوجه؛ لذا فمن الطبيعي حين تظهر حقيقة تتعارض مع ما تبشر به الكنسية، أن تقف الكنيسة ضد هذه الحقيقة، فالمسألة في النهاية قضية وجود وسلطة، وليست قضية معرفية صرفة.
ولماذا نذهب بعيدًا في هذا المجال، ولدينا قضايا مشابهة في تاريخ الإسلام والمسلمين. فلو نظرنا إلى مصادر التشريع في الإسلام، التي وضع أسسها وحددها فقهاء على مر الأزمان، وعلى رأسهم الشافعي، لوجدنا في النهاية أنها صناعة فكرية منظمة، تعبر عن عقول المؤسسين في المقام الأول. لو أخذنا كتابًا مثل «صحيح البخاري» الذي يُقدَّم على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله، فهو الجامع لأحاديث الرسول وسنته، الذي وضعه البخاري بعد ما يقارب مئتي عام على وفاة الرسول، سنجد أن فيه أحاديث ضعيفة. وما قيل عن «صحيح البخاري»، يمكن أن يقال عن أكثر ما ورد في كتب تاريخ وتراث الإسلام والمسلمين، سواء كنا نتحدث عن كتب «الصحاح» الستة، أو تلك الكتب الشارحة لأمهات الكتب التراثية، أو كتب التاريخ المفترض فيها الدقة والموضوعية.
حاول ابن خلدون أن يغير شيئًا في كتابة التاريخ وتراث المسلمين، ولكن بقي صائحًا في برية في وجه التيار العام، ولم يأخذ حقه من التقدير إلا في العصور المتأخرة، عندما اكتشفه لنا المستشرقون من الغرب، بينما كان لدينا جوهرة مدفونة في صحراء قاحلة، حقيقة الأمر.
تناقض صريح
لماذا كان كل ذلك؟ نعود هنا إلى نقطة البدء حين الحديث عن المسيحية، ألا وهي ذلك التناقض الصريح بين الحقيقة المجردة ومتطلبات المؤسسة للبقاء واستمرار الهيمنة على العقول والأرواح. فحتى لو ثبت علميًّا «وتجريبيًّا» أن بول الأبل مجرد فضلات حيوانية لا أثر لها في علاج أو عافية، أو أن الحبة السوداء ليست علاجًا لكل داء، أو أن الذباب كله قذارة لا فرق بين جناحيه، أو أن ماء زمزم غني بالأملاح المضرة بمريض السرطان مثلًا، أو أن الماء المقدس في المسيحية لا قدسية له، بل هو مجرد ماء، فإن كل ذلك لا أثر فعليًّا له في التصديق العام بقوة هذه المواد العلاجية، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما قوة تأثير المؤسسة الدينية التي تراكمت عبر العصور، والتي لا تألو جهدًا في سبيل هذا التأثير رغبة في البقاء والديمومة، والثاني هو شغف العامة بكل ما هو خارق للمعقول، ومتجاوز لطبيعة الأشياء، وهو الوتر الذي تجيد المؤسسة الدينية اللعب عليه في مختلف الأديان والعصور، فالمسيح هو الإله ابن الرب الذي تجسد بشرًا للتكفير عن خطيئة آدم الأولى بالأكل من شجرة الحياة، و«اليهوه» هو الرب المقاتل إلى جانب بني إسرائيل، شعبه المختار، وغير ذلك من روايات متجاوزة لحدود العقل والمعقول.
هل معنى ذلك أن الأديان مجرد خرافة ومجموعة أساطير لا أساس لها من الصحة؟ بالطبع لا، فالدين في أصله تجربة روحية كما مارسها الأنبياء، ولكن حين يتحول إلى مؤسسة همها البقاء، فإنه والحالة هذه، يتحول إلى كيان اجتماعي وسياسي مثل أي كيان آخر، هدفه البقاء والاستمرار، حتى إن كان ذلك على حساب الحقيقة، بل على حسابها.
التضحية بالحقيقة من أجل البقاء والاستمرار، ليست قاصرة على المؤسسات الدينية، وإن كان الوضع فيها أوضح، ولكنها شاملة لكل المؤسسات التي توظف كل ما يمكن توظيفه من أدوات من أجل ديمومتها واستمرارها، وبخاصة في النظم الشمولية، القائمة على أيديولوجيات هي أشبه بالدين، بل هي أديان ولكن بوجه دنيوي من دون رب خفي معبود. فالنازية مثلًا، مجَّدت دور العرق في التاريخ، وصنفت البشر، من ناحية الإبداع والفوقية على هذا الأساس، وخلال حقبة حكم «الفوهرر»، أدولف هتلر، كانت كل المناهج الدراسية تركز على هذه «الحقيقة» المنافية للحقيقة الموضوعية، ومن يخالف ذلك، أو يُشْتَمّ منه مخالفة ذلك، فإن مصيره هو النهاية. وفي روسيا الستالينية، أو الصين الماوية، وحاليًّا كوريا الشمالية، فإن من لا يرى الزعيم «ربًّا» معبودًا، تحيط به الأساطير من كل جانب، رغم «علمانية» هذه الأنظمة في العلن، فإن المصير هو الظلام.
خلاصة القول في هذه العجالة هي أن «الحقيقة» غالبًا ما تكون ضحية التاريخ، الذي تصنعه فعلًا المؤسسات والأديان الرسمية والأيديولوجيات الشمولية، وتختفي الحقيقة ذاتها. خذ مثلًا جائحة وباء كورونا الذي نعيشه، من أين أتى وكيف تفشى؟ هل هو لعبة صينية لأغراض اقتصادية، أم إنه قدر إلهي لإعادة الإنسان إلى تواضعه بعد أن طغى وتكبر، أم إنه مؤامرة رأسمالية لإعادة الاستثمار من جديد؟ حقيقة لا ندري أين الحقيقة في كل ذلك، فالحقيقة دائمًا هي الضحية في تاريخ البشرية، وكم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحقيقة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق