المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

«نزهة مارشال» لمحمد اليحيائي.. كتابة تخوض مغامرة في مواجهة الزمن

تضيء الحياة داخل النص وخارجه

بواسطة | يوليو 1, 2020 | دراسات

«الحياة داخل النص، والحياة خارجه» يمكن لهذه الجملة التي ترد في المقدمة التي كتبها محمد اليحيائي لمختاراته القصصية «نزهة مارشال» (دار مسعى للنشر والتوزيع – البحرين)، أن تُمثل دلالات هذه القصص، وتوجز غاياتها ومنتهاها؛ إذ تبدو مغامرة مواجهة الزمن -فيما يتعلق بالكتابة تحديدًا- بكل التفافاته وأبعاده، بتحولاته المختارة والمفروضة قسرًا ما يشغل الكاتب ويستدعي هواجسه، قائلًا: «كيف تُجمع أزمنة وأسئلة وحالات متباعدة ومختلفة بين ضفتي كتاب واحد».

تنقسم المجموعة القصصية «نزهة مارشال» إلى ثلاثة أقسام هي عبارة عن ثلاث مجموعات قصصية تنتمي لأزمنة مختلفة، يعود أقدم نصوصها إلى عام 1989م، أما أحدثها فقد كتبه اليحيائي عام 2004م ومن دون شك تُجسد هذه الإحالات الزمنية طقوسًا تستدعي الانعطافات بغرض تأمل الإشارات والتحولات التي حدثت على مدار رحلة الكتابة، لنقرأ قول المؤلف: «ترددت طويلًا في اتخاذ قرار إعادة الطباعة هذا… كان سبب ترددي أن هذه التجارب هي ابنة زمنها، ولدت فيه وخرجت منه، من تحولاته، ومغامراته ومناخاته وتجاربه وقراءاته وسجالاته، وأسئلته وقضاياه، وإن مجرد التفكير بإعادة طباعتها، يعني التفكير بإعادة قراءتها، وهذه مهمة شاقة بالنسبة لي، فأنا من الكتاب الذين لا يقرؤون نصوصهم بعد نشرها. وإعادة القراءة تعني فيما تعنيه، العودة إلى تلك الأزمنة التي ولدت فيها، وخرجت منها هذه النصوص، وتعني فيما تعنيه أيضًا، استعادة لتلك التحولات والمغامرات والسجالات والأسئلة».

تأتي مراجعة الزمن هنا، حاملة في ثناياها مراجعات أخرى للأماكن، وللتفاصيل المروية من وإلى، للحكايات الصغيرة، وما توجب كشفه منها، وما ينبغى حجبه.. العالم يضيق ويتسع في أماكن القصص وأزمنتها وشخوصها، يختلج في نبضات وإيماءات مستترة تنظر نحو الأمس بلا حسرات أو حنين ممض، ونحو الغد بتطلع جسور يحمل غموض الحلم حينًا، وخيبته في حين آخر.

المضمون الحكائي

محمد اليحيائي

ينبني النسيج القصصي في «نزهة مارشال» على خصائص فنية متمثلة في اعتماد تقنية المشهد البصري المحبوك ببعد فكري، وأسلوب سردي يمنح القصص أسسها الجمالية. في المجموعة الأولى من المختارات «طيور بيضاء طيور سوداء»، نجد سبع قصص هي: «طيور بيضاء»، و«لم يكن ذلك سوى المرحوم»، و«حوار غير مكتمل مع علي بابا في مغارة الإنتركونت»، و«نزهة المارشال»، و«سلطان الرماح يسرد حلمًا أفسدته مياه حلم سارد آخر»، و«سمكة صالح»، و«طيور سوداء».

اختار الكاتب أن يقسم العنوان «طيور بيضاء طيور سوداء»، فتكون قصة طيور بيضاء في البداية، ثم ختم هذا الجزء بـ«طيور سوداء». في قصة «طيور بيضاء» يواجه بطل القصة وردي بن يحيى «الاعتقال لمدة ثلاث سنوات، في غرفة شديدة البرودة والإضاءة. تواجه «الأنا»، مرارة السجن والعزلة، وتدمج في تخيلاتها واستدعاءاتها ما بين الماضي والحاضر في تقطيع سردي يتنوع فيه صوت القص ما بين «الأنا» و«الراوي العليم».. نجد استكمالًا لحكاية وردي بن يحيى في قصة «طيور سوداء»، عبر حلم يقض مضجعه ويتكرر في الليالي السبع التي سبقت حادثة اختفائه، في هذه القصة أيضًا نشاهد البطل مسكونًا بآلامه، بأشباح ذكريات عذبته طويلًا، يتداخل فيها الواقع مع الخيال؛ إذ يبدو البناء النفسي للبطل ملموسًا بحالة صوفية وروحية تحضر في كلٍّ من القصتين، لنقرأ: «وكان في كل ليلة ينهض من حلمه منقبضًا، وكان يشعر كما لو أن غبارًا حامضًا يعقص أمعاءه… الحلم ذاته يتكرر كل ليلة، حبلًا من طيور سود ينحل وينعقد على صورة خاتم بين عينيه في طحلب السماء»… يختلط ضمير الأنا أيضًا مع الراوي العليم في تداخل واضح كأن يقول استكمالًا للحلم الذي شاهد فيه الطيور السود: «كنت في كل مرة، أجلس فوق سريري ملطخًا بالصمغ الأصفر الذي سلحته عليَّ الطيور السود التي خلفتها ورائي في الحلم…».

وفي هذه القصة أيضًا يتكرر ظهور الرجال الثمانية لكنهم يرتدون دشاديش سُودًا هذه المرة بعد أن كانوا يرتدون دشاديش بيضًا في قصة «طيور بيضاء»، يأتون بخفة ويختفون مثل ظل نبوءة غامضة، لكن هذه المرة يتمكن البطل من الإحساس بهم أكثر، يكاد يشم رائحة عرقهم، يحملون بأيديهم رشاشات وهو يقف بينهم. يتكامل الوصف الخارجي لهيئة الرجال ذوي الدشاديش السود مع الدلالات الرمزية للحلم وتفاصيله، وما سيتلوه من تغيرات قاسية في حياة البطل، تترك آثارها في داخله حتى بعد مرور زمن على السجن. لنقرأ «كانت السنوات الثلاث الماضية التي تلت خروجه من المعتقل هي الأكثر حلكة ومرارة في حياة وردي بن يحيى، فقد عشتها مطاردًا ومراقبًا ومخترقًا في كل شيء». تجربة المعتقل وما فيها من تفاصيل داخلية وخارجية، ترتبط بالمكان وبالذات الملتاعة أيضًا، البصيرة تنفتح على الداخل، وفي الخارج ضوء أبيض حارق في غرفة شديدة البرودة، تظل في ركنها القصي من الذاكرة، لا تزول معالمها،
ولا تنقضي.

* * *

تضم مجموعة «يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها» القصص التالية: «الطابور»، و«كائنات نادي الضباط»، و«Good morning»، و«دمعة مروان»، و«قلعة أرخميدس»، و«وجه صديقتي»، و«يوسف »، و«خديجة»، و«صباح»، و«سلطان الرماح»، و«وردة ماركيز»، و«يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها»، و«بين غمامتين»، و«scanner»، و«كلام عام على موت خاص»، و«الأشياء في أماكنها»… وكتبت هذه القصص بين عامي 1995م و1997م. تبدو القصة الأولى «الطابور»، محملة بالرمزية رغم أنها تبدأ بمشهد وصف خارجي لمجموعة يرتدون الدشاديش البيض، يحملون عصيًّا، وعلى ظهورهم حقائب نايلون من اللون الأخضر، يعبرون ساحة المطار القديم يندفعون «رتلًا واحدًا من فوق الحواجز ومن تحتها»… يتوالى السرد متتبعًا حركة المجموعة، وقوفهم في طابور واحد يطيعون أوامر المشرف- بما تحمله هذه الحركة من دلالات. تتضمن القصة جملة بدا أنها تستحق أن تكون الخاتمة لما فيها من استدعاء ووصلٍ لمشهد آني بلحظة مضت حين يقول: «خلف دمعات الفلج التي ذرفتها عيون جبل بعيد على نسر نفض ريشه، وحلق وحيدًا في صباح رمادي بعيد من ساحة المطار القديم».

تشير قصة «يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها»، إلى ما يمكن أن تفعله ضغوط المجتمع بالفرد، وكيف تؤدي به إلى القيام باختيارات تنتج عنها سلسلة من التعاسات. يواجه القارئ قصة خزينة وسليمان، وحكايتهما المعقدة نفسيًّا واجتماعيًّا بعد فرار سليمان من خزينة ليلة الفرح، «فهو قد رفض فكرة الزفاف مرات عديدة… لكنه رضخ في الأخير تحت ثقل نواح الأم»، لكنه يختار الفرار ليلة زفافه، تاركًا خزينة وحدها عروسًا مهجورة، أما الأم زوينة، فتموت بعد ثلاث سنوات من غياب ابنها الفاجع.

ينزع معظم الأبطال في قصص اليحيائي إلى الانعتاق من أغلال تكبلهم، وحدهم يشعرون بها ويدركون وجودها جيدًا، بالقدر الذي يدركون أنها غير مكشوفة للآخرين، لكنها تسبب لهم وجعًا لا تتمكن الروح من احتماله، وهذا الألم الطويل يبدو كما لو أنه قدري جدًّا لا مفر منه، كما في المصير الذي انتهى إليه سليمان في قصة «يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها»، هو الذي فر من تعاسة الزواج، يمضي إلى مصير لم يكن في حسبانه.

في القصة التي حملت عنوان المجموعة ككل «نزهة مارشال»، تبدأ الحكاية مع عودة مارشال من نزهته متكدرًا تعبًا كعادته، وللمفارقة أن مارشال هو كلب، وليس كلبًا عاديًّا، بل كلب له مكانته في حياة سيدِهِ. لنقرأ هذا الحوار بين السيد وخادمه: يقول الخادم: «كلهم يموتوا من الحسد، ويتمنوا لو عندهم واحد مثل روشي» يرد السيد: «خلهم يموتوا، أصل الكلب من أصل صاحبه، وبعدين الكلاب مقامات.. هذولا الرعاع يريدوا يكون عندهم كلب مثل كلبنا، مخابيل هاذولا ولا أيش؟» السيد صوته يشبه العواء، كأنه يخرج من مكان آخر غير فمه، والخادم له عنق طويل ناحل ورأس مثل رأس الباذنجانة، وهما معًا بينهما الكلب والبقرة، يجمعهما تواطؤ مشبوه، إنها قصة نفسية، مكتوبة بأسلوب مكثف، تحمل نقضًا لاذعًا للطبقة المتسلطة، وتكشف ما في دواخلها من نوازع نخرتها أمراض نفسية عدة.

* * *

في المجموعة الثالثة «خرزة المشي»، التي تُعدّ الأقدم زمنيًّا في فعل الكتابة نجد أن القصص يميزها التكثيف واللقطة التي تركز على حدث بعينه «ذهب بعيدًا»، و«عينان بعد فوات الأوان»، و«الرئيس والعصفورات»، و«خطوات تصعد الدرج»، و«السكيكرة»، و«زلاقة صاحب الفخامة»، و«سم الوردة»، و«موت المواطن صالح»، و«مسامير»، و«الدار»، و«استدراج».

يدمج الكاتب في قصة «خرزة المشي»، بين حس السخرية من الحكايات الشفاهية المروية، وبين البُعد الميثولوجي الموجود في الأساطير التي تحكي عن نبوءات تؤدي إلى تحولات مفصلية لا رادَّ لها. هناك خرزة الملك المفقودة التي تشبه حبة النبق في حجمها، لونها ضارب إلى الزرقة، خرزة أدى ضياعها من مهد الملك وهو طفل إلى تهديده بأن يظل كسيحًا… هذه الخرزة التي تشغل بال الملك وتوتر منامه، تدفعه إلى الخروج عاريًا من القصر، وإلى إصدار المراسيم لكل أهل المملكة بالبحث عنها.

يتكرر حس السخرية في قصص عدة كما في «موت المواطن صالح»، الذي يرى من قبره أن على المواطن الصالح ألَّا يموت ميتة عادية، بل هو على رأس الوظيفة. أما قصة «الدار»، فقد اختار الكاتب جملة في مطلعها تقول: «لا بد من الموت، في هذا اليوم، من فرط الضحك»، كذلك يسخر من فخامته في قصة «زلاقة صاحب الفخامة»؛ لأن فخامته «ما يزال يشعر بتدفق دم الشبوبية الحار في أعماقه، رغم قلقه مما تعانيه الدولة من طيش زمرة الشبان الذين، يا للهول يا ربي، يريدون الدولة لهم».

اللغة الساردة

تبدو اللغة في قصص اليحيائي خاصة، غير مكررة، سلسة ومعبرة وفياضة عند وجود غايةٍ لوصف المكان أو التفاصيل الداخلية، لكنها تخلو من الترهل، وتتخذ أسلوب الترميز في بعض المواضع.. مثلًا كي يصف الوقت بأنه قرابة الفجر يقول: «الكون لم يُخلق بعد»… لغة تتجنب تكرار مفردات مألوفة سواء في وصف الأماكن أو الأشخاص. وعندما يصف برودة المكان يقول: «أخذوني في عز الصيف، لكن الغرفة كانت في قلب شتاء
القطب الجنوبي».

أو يقول في قصة «طيور سوداء» مشبهًا السماء بالطحلب: «حبلًا من طيور سود ينحل وينعقد على صورة خاتم بين عينيه في طحلب السماء». وفي قصة «نزهة مارشال» بدلًا من أن يقول واصفًا الكلب مارشال بأنه أغمض عينيه نجد: «أغمض خرزتيه الزرقاوين وأغفى»، أو أن يقول في القصة نفسها واصفًا الثريا، في عبارة دالة على ثراء صاحبها: «لمباتها المئة التي يمكنها بومضة واحدة، غسل الظلام عن مدينة بأكملها».

أو أن يكون وصف نهار السبت في قصة «دمعة مروان» بأنه «مطلع أسنان الأسبوع»، وفي القصة عينها يرد وصف البيت بأنه «قطعة ساتان»، أو أن يبدأ قصة «وجه صديقتي» بوصف للقهوة يقول فيه: «لوجهها رائحة ساخنة ونكهة جبلية… ولما ينعقد وجهها وتطفر نجمات صغيرة، أغمضُ عين النار»، ونجد في قصة «Scanner»، وصفًا لمشهد حسي يجمع بين حبيبين، إلا أن اللغة تفوق في شفافيتها اللحظة الآنية لتحلق في فضاءات أسئلة غير محسوبة عن الغد. أو أن يقول واصفًا لحظات الألم في قصة «مسامير»: «العيون زائغة والأنفاس خشخشة رئات ذبحها الرمل».

العلاقة مع المكان

تحضر العلاقة مع المكان في قصص اليحيائي، سواء في الدائرة الكبرى للمكان أي المدينة والشارع والحي، هناك قصص حملت اسم مكان «السكيكرة» و«الدار» في مجموعة «خرزة المشي» أو في الدائرة الصغرى كاشفة عن ارتباط حميم بتفاصيل ومفردات داخل البيت، يتكرر ذكرها في القصص، وتستدعي عند الأبطال صلات وأحداث متكاملة تُراوِح في مكانها بين أمس مضى، أو حاضر معاش، ومستقبلٍ مَحلومٍ به، وتجسد هذا في ذكره لتفاصيل صغيرة مثل: «أفريز النافذة»، و«مفتاح الشقة»، و«فتحة الباب»، و«الجسر»، و«قهوة مطيبة برائحة الهيل وماء الورد مثل تلك التي تنبعث من معظم دور «السكيكرة»، و«كنت أتحسس اللزوجة في انخطاف بارد وأنا أبحلق في الفراغ اللبني لظلام الغرفة المختلط بضوء أنوار شارع الخوير». يقول في قصة «دمعة مروان» متحسرًا على علاقته مع المكان: «هل يكتب الكاتب أن لا بيتَ له في بلاده، وأن صاحب البناية طرده من شقته الصغيرة التي اكتراها في الخوير؛ لأن أسرة هندية تقدر تدفع ضعف ما يقدر يدفعه كاتب». تحضر الصحراء أيضًا في قصة «صحراء أرخميدس»، فالقلعة بناء وحيد ومهيب جاثم فوق صدر الصفرة الشاسعة، وفي هذه القصة يصيح السير أندرو راين بالتمثال: «قد وجدتك»، في معارضة رمزية لعبارة أرخميدس «وجدتها».

العلاقة مع الزمن

في قصص اليحيائي يجدر التوقف مطولًا أمام علاقته ككاتب مع الزمن؛ إذ يوضح في مقدمته للمجموعة عن علاقته بفعل الكتابة ومفهومه الزمني لها، ثم يحدد مع مدخل كل مجموعة قصصية زمن كتابتها. في نحو آخر نجد ما يعبر عن اضطراب العلاقة مع الزمن في الجملة البليغة لأحد أبطاله: «أمران يقضَّان مضجعي: الزمن والخيبة».

يتداخل الزمن في قصص اليحيائي، ويسيل منهمرًا لا يوقفه إلا تأملات الأبطال المعذبين بالوقت، بالسؤال عن النهايات، وعن انقضاء الساعات، وادعاء الانشغال عن الأسئلة الوجودية المقلقة المطروحة داخل القصص، ماذا يكون الموت سوى النكوص لسنوات لا يعرف فيها المرء كم مر عليه من الزمن! يتجزأ الموت في قصص اليحيائي إلى موت نفسي وآخر فيزيائي، إلا أن كليهما يرتبط قسريًّا بالزمن… هذا ما حدث مع وردي بن يحيى، ومع مريم في قصة «لم يكن ذاك سوى المرحوم»، فقد طبخ ذهن مريم «الأبخرة الحامضة لست سنوات من فاليوم المستشفى» مريم التي تتوهم حملها بعيسى من المرحوم الذي جاء إليها ليلًا مغادرًا تربته، ماتت عن الزمن الواقعي، وصارت تعيش في زمنها الخاص. لعل تجلي العلاقة مع الزمن، يحضر أيضًا في إهداءات القصص، كما نرى في قصة «حوار غير مكتمل مع علي بابا في مغارة الإنتركونت» هي من أمتع القصص، يحضر الموت أيضًا في جملة الإهداء «إلى الحاضر الغائب، الراحل الذي لا يرحل علي المعمري».

تبدو هذه القصة من أكثر قصص المجموعات الثلاث قدرة على تفعيل فن الحكاية والسخرية والخيال والوصف والميتافيزيقا، والقفزات السردية السريعة من خلال شخصية «علي بابا»، وهو البطل الذي تتضح معالمه من اسمه، يقول البطل السارد: «الواقع في نظر علي بابا وفي نظري الخديعة الكبرى التي لا يمكن تصديقها… لكن القدرة على الخلق تستوجب لتصبح فعالة قدرة على المحو».

مغارة الإنتركونت في القصة هي حديقة أوتيل الإنتركونتيننتال، لكن بطل القصة علي أو علي بابا، الذي يفرد حكاياته ويجمعها مثل غجري يُخفي في جيوبه السرية أوراقًا مليئة بالتعاويذ، يختار تغيير أسماء الأشياء والأماكن والأحداث مُتبعًا هواه فقط. لكن البطل السارد يرى في صديقه أنه يُشبه «صياد حيتان فنلندي… والحقيقة الوحيدة التي لديه هي الوهم»، ويبدو مثل أبطال ألف ليلة وليلة، يفتح بوابة حكاية عجائبية ويدلف منها إلى أخرى، ثم يُنهيها كلها كما لو أنها ما كانت موجودة.

* * *

تُحقق قصص «نزهة المارشال» متعة التلقي لقارئها، بما تمتاز به من إضفاء الوعي الجمالي والفني على العناصر الحكائية داخل القصة، من ترابط بين الحدث، واللغة، والزمان والمكان. وهذا ما يفعله محمد اليحيائي في اختياراته اللغوية لمفرداته، وتعامله مع اللغة بخبرة صائغ، حيث لا زيادة ولا نقصان، إلى جانب اعتماده التقطيع السردي في كثير من القصص، مع اختيار زاوية القص الذي يُعد جانبًا مهمًّا في منح هذه القصص خصوصيتها.


المُلتبس‭ ‬والمتعذر‭ ‬في‭ ‬‮«‬البيت‭ ‬والنافذة‮»‬

سمير‭ ‬مُندي ‬ناقد‭ ‬مصري

يتأمل الكاتب العُماني محمد اليحيائي في مجموعته القصصية «البيت والنافذة» (الصادرة عن دار مسعى 2017م)، لحظات ملتبسةً من لحظات أبطاله المختلفة. وبين قصة «البيت» التي يفتتح بها اليحيائي مجموعته القصصية، ذات عشر القصص، وقصة «النافذة» التي يختتمها بها، ينفتح قوس التساؤلات تحت وطأة شك أو شبهة أو رغبة أحيانًا. مع التساؤلات التي تجري في فضاءات مكانية ضيقة، البيت/ المقهى/ السجن، توازي في ضِيقها ضِيق ذات تعاني، يتمزق النسيج الواهي الذي يؤلف طمأنينتنا وخلودنا إلى لحظة سكن أو رسو هي بمنزلة «بيت». فلا البيت أصبح قائمًا، ولا الوصول إليه أصبح ممكنًا. وبتعذر الوصول تحضر «النافذة» بوصفعها حدًّا بين ما هو مُحتجب ومتعذر، وما هو منشود ومرتقب.

التباس مضاعف

في قصة «البيت»، مفتتح المجموعة، تؤشر عبارة تتصدر القصة على الالتباس الذي يلف الحياة ككل. تؤكد العبارة، بدايةً، على فكرة النهايات المفتوحة من خلال تعليق تجربة «بلوغ نهاية طريق ما» والتشكيك في جدواها. فعندما تضع حدًّا لشيء ما، نهاية لطريق أو نقطة يصل فيها بحثك إلى ختام، إلى نقطة سكون أو «بيت»، فأنت، في الواقع، تضع نهاية لما تقدر وتستطيع، و«لا تصل حين تصل، تصل حين تسير ولا تصل». وبتعليق فكرة النهاية التي هي بمنزلة انتهاء يتبنى الكاتب أفقًا لا نهائيًّا، لا للوصول، وإنما لطرق الوصول. معنى ذلك أن الحديث عن طريق واحد، مهما بدا واضحًا، لا بد أن يكون انعكاسًا لنسيان مطبق. خوفًا من نسيان كهذا لا يفتأ البطل يكرر على نفسه معالم الطريق: وجهه الذي يجب أن يكون «إلى الجنوب»، السوق الذي يجب أن يكون وراءه، و«مستشفى الحكومة وفرضة الجمرك ومبنى المحكمة الجديد ومخزن التمر ومربط الحمير والجِمال» التي يجب أن تكون عن يمينه، والبحر الذي يجب أن يكون عن يساره. وبتغليب حسبة الاتجاه الواحد يصبح وصول البطل إلى ذاته متعذرًا. ما لم نقل: إنه ممتنع إلا عبر المتعدد والملتبس.

في قصة «سيناريو فيلم طويل»، التباس من نوع آخر؛ إذ يلتبس على الممثلة العُمانية الشابة ما قيل لها: إنه شَبهٌ بينها وبين «فِريدا». فينصرف ذهنها إلى شَبهٍ بالرسامة المكسيكية «فِريدا كاهلو»، على حين قصد مُحدثها/ الناقد الفني أنها تشبه الممثلة الهندية الشابة «فِريدا بنتو». على إثر سوء الفهم هذا تتلبس الممثلة العُمانية روح المغامرة والرغبة التي عُرفت عن شبيهتها المُتَوهَّمة «كاهلو». في الوقت نفسه أخذ الناقد الماكر يستلهم جمال الممثلة الهندية «بنتو»، ونجم حظها الصاعد في مغازلة جليسته وإغوائها بعشق صورتها الجديدة في عينيه ممزوجة بفتنة الشهرة والجمال. ومن خلال مباراة حوارية تغذيها في خيال الممثلة صورة شبيهتها المكسيكية المشتهاة، و«برغبتها وجنونها وعبثيتها»، وتغذيها في خيال الناقد صورة الممثلة الهندية ﺑ«بنية جسدها الموديل المضبوط… وسحر عينيها السوداوين»، تتألف لوحة سردية أشبه «بالفسيفساء» تتداخل فيها الثقافات والأمكنة والأصوات التي يستدعيها ويؤججها مبدأ الرغبة. الرغبة التي تتردد في المسافة التي تفصلنا عن الآخر وتجمعنا به مثل «خفق أجنحة بلشون» على حد تعبير السارد.

أما قصة «علاقات خطرة»، فيقارب الالتباس فيها معنى الشبهة والشك الذي يمزق روح «خ» بطل القصة. يشتبه «خ» في خيانة زوجته على إثر قصة يقرؤها تنطبق فيها أوصاف زوجة خانت زوجها مع لاعب كرة قدم شهير على أوصاف زوجته. يظل كاتب القصة «ﻙ»، الذي استعار قناع لاعب كرة قدم، بدوره، مرشحًا محتملًا لأن يكون شريك الزوجة في خيانتها. تنشأ عن «الصورة الأدبية» للخيانة، و«صورة ذهنية» تقود «خ» إلى ضروب من التحاشيات التي يفرض من خلالها نوعًا من العزل لذكرى الخيانة المُتخيلة. ورغم العزل يظل الجزم بخيانة الزوجة أو إخلاصها غير محسوم. السارد، بالمثل، ترك باب التخمينات مفتوحًا بخصوص هوية أبطاله من خلال استخدام الرموز في الإشارة إليهم. ربما تحاشيًا للتعرف إليهم وافتضاح أمرهم، وربما، بالعكس، لإثارة الشبهات والظنون حول شخصيات بعينها يجري التلميح إليها من طرف خفي. ما دامت الرموز طريقة في إخفاء ما نرغب في كتمانه، وطريقة أيضًا في وضعه موضع الشكوك والظنون. في النهاية يبقى موقف الزوجة موضع شك والتباس، مثلما تبقى القصة برمتها موضع شك والتباس.

بين عالمين

بغياب «البيت» تحضر «النافذة» في دلالاتها الحرفية الضيقة بوصفها «كوة» في حائط أو سجن، وفي دلالاتها الاستعارية بوصفها نفاذًا إلى عالم آخر. في قصة «الطائر الذي عبر سماء السجن في اللحظة الأخيرة»، على سبيل المثال، يتضاعف شعور السجين ويرهف بالكوة «الصغيرة ذات القضبان الثلاثة أعلى رأسه» لحظة أن يُدعى لتنفيذ حكم الإعدام. انتباه السجين للكوة ولصوت هديل الحمامة الذي يتسرب عبرها إليه، لأول مرة منذ دخوله السجن، يعكس مفارقة الوضع الذي يحياه رجل «على الحافة»، بين الحياة والموت. حين يصبح وقوفه بإزاء الكوة التي تشرف على الخارج أشبه بوقوفه على حافَة العالم الآخر المرتقب. أيضًا حين يزاوج «الكوة» القابعة خلف رأسه بموته الوشيك لحظة تطلعه إليها، كأنما هي حد بين حياته وموته. يقول: «وهل تريدونني أن أقابل وجه الله بمعدة فارغة؟ صمت ونظر إلى الكوة خلف رأسه».

غير أن المفارقة التي يصنعها السرد في ختام القصة بين حال الطائر الذي يشق نافذة السماء الواسعة محلقًا في أرجائها، وحاضر المحكوم بالإعدام لحظة أن تشق روحه نافذة جسده محلقة خلف الطائر، تنقل معنى النافذة إلى مستويات وجودية أعمق يتحول فيها الموت إلى حرية والجسد إلى «كوة» ضيقة تقبع خلفها الروح: «ورأى قبل انقطاع الدم عن رأسه وعينيه طائرًا وحيدًا يعبر سماء السجن… وسمع قبل أن يغمض عينيه ويدخل في السديم صفير روحه تخرج من فمه، وتحلق حرةً بعيدًا، وراء الحمامة». ليس من الغريب، بعد ذلك، أن يتحدث السارد عن آلام العشق الأربعة التي شعر بها السجين لحظة إبلاغه بحلول ساعة التنفيذ التي يسميها السارد، غير عابث، بساعة «الحقيقة»: «دوار في الرأس، رمل في الصدر، تدفق مياه في المعدة، وتنمل في الركبتين». أليس العشق حالًا من أحوال الموت التي يتنازل فيها العاشق طوعًا عن روحه لمعشوقه؟ أليس تذكر السجين لنسائه اللائي أحبهنَّ ومتنَ بطريقة مفاجئة وعبثية لحظة إعدامه، إشارة إلى ما يتبادله الموت والعشق من علاقات؟ أليس تذكر الحبيبات لحظة الإعدام الوشيك هو بمنزلة طريقة تفتح بها الذاكرة نافذة على ما يبدو أنه غير متنافذ؟

تعميق الشعور بعالمين أحدهما بإزاء الآخر حاضر أيضًا في قصة «النافذة»، خاتمة المجموعة. يصبح هذا التعميق واضحًا من خلال إرهاف شعور القارئ بصوت يتحدث إليه من وراء نافذة تطل على ساحة «الحصن». يزداد وعينا بموقع صاحب الصوت، الذي ربما يكون سجينًا، وبمعاناته من خلال وصفه ورصده لما يجري في الساحة التي يشرف عليها «الحصن» بنبرة تعكس رثاءه لحاله. نستطيع أن نتبين في هذه الحال حال العزلة التي تعكسها قدرة صاحب الصوت، الذي لا نكاد نميزه من السارد، على تمييز مجتمع من الأصوات المتداخلة التي أرهف السجن شعوره بها. يقول، مثلًا: و«تغرد العصافير ثلاث مرات في اليوم»، و«تفرقع مفاتيح الإمام في قفل باب الحصن». وبقدر ما يترك السجين لأصوات العالم الخارجي أن تغمره، بقدر ما نتبين وحشته وتوقه لحرية مفتقدة. وبقدر ما تصبح النافذة متاخمة لعالمٍ يتعذر بلوغه. النافذة التي تنقل لفضاء الحصن صوت العالم الخارجي «حتى حين تكون مغلقة». على حين تنقل «كوة صغيرة بشبك من قضبان حديدية» أصوات السجناء وشكايتهم للعالم الخارجي.

تبقى، مع ذلك، احتمالات أخرى للمعنى تزيد على ما أشرنا إليه. قصة «بُراق»، مثلًا، التي تمزج بخيال، أشبه بالخيال الصوفي، عوالم وأمكنة متباينة. وقصة «الميراث» التي يلوذ فيها البطل بمقصورته «الغالية» هربًا من الفضاء العام… إلخ. ما لم نقل: إن السارد، قناع الكاتب، بقدرته الفائقة على إبراز تناقضات أبطاله وهواجسهم ورؤيتهم من زوايا مختلفة، يستحق تحليلًا منفصلًا.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *