المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

«سِيَر روائية بلا اعترافات»

بواسطة | يوليو 1, 2020 | مقالات

مهما فعل الروائي ليقدم بديلًا عن حياته

فإنه في الحقيقة لا يقص غيرها

مالك حداد

أقوم في هذا المقال بقراءة لثلاث روايات تقوم جميعها على مفهوم «السيرة الذاتية»، لثلاثة من الروائيين العرب: مالك حداد، وغالب هلسا، وفتحي غانم، كتبت خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وفيها يعيش الكاتب، أو الروائي، بصفته الشخصية داخل الرواية. أحاول تتبع تصور الروائيين عن ذواتهم وتطورها داخل الروايات، وعن تصورهم لمفهوم الكتابة والصدق الأدبي وكيفية العلاقة مع الحياة، خصوصًا أن الروايات الثلاث كتبت في ظروف استثنائية، تحت ظل سلطة باطشة، حيث عاش كتابها في مواجهات مباشرة سواء مع المستعمر أو مع الدولة الشمولية. مفهوم السيرة هنا يدور حول «أنا» وجودية تسعى للتفرد في وجود قضية/ سلطة عامة تشغلها/ تقاومها. وهناك لحظة تداخل وتعريف بين الأنا المنقسمة بينها وبين الجماعة.

* * *

في الروايات الثلاث تبحث الذات الروائية عن تحررها عبر العلاقة مع النص/ الكتابة، وتضع معها ميثاقًا للصدق الأدبي، ومعيارًا للحقيقة، وجوهرية الإخلاص للحياة، وتوسطها العلاقة بين الكاتب ونصه. تتحول ذات الكاتب إلى نص، وهي جزء من سيرة الكتابة، التماهي بين الكاتب ونصه، كما التماهي بينه وبين حياته. الروايات الثلاث سيرة عن الكتابة بشكل ما، ومآزقها والعلاقة بها، لتصبح الحياة الموازية لحياة القمع والتسلط اللتين تحوطان بالكاتب.

* * *

سير روائية من دون اعترافات، أو أسرار، بل تتخذ أساليب السيرة في تلك المونولوجات والمراجعات والمواجهات الدائمة مع الأفكار، للوصول للمكان الذي تريده السيرة أو الغرض منها، وهو التطهر، أو رغبة الوصول للحقيقة، والبحث عن أصل وجودها واغترابها وهويتها وتأسيس مكان لها قوي، يواجه السلطة الأبوية الممثلة في الدولة الشمولية أو المستعمر. الاعتراف هنا يأخذ شكل البحث في الوجود ككل وليس في تفاصيل ذكريات الحياة.

ليس في رصيف الأزهار من يجيب: مالك حداد

في رواية مالك حداد «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» (ترجمة ذوقان قرقوط- سلسلة آفاق الكتابة (25). الهيئة العامة لقصور الثقافة- 1999م القاهرة) يحكي جزءًا من سيرته الشخصية، التي تتداخل مع سيرة بطل الرواية، الكاتب والروائي والصحافي والمناضل، خالد بن طبال، الذي فر من الجزائر، إلى باريس، خوفًا من الاعتقال، بسبب نشاطه السياسي، بعد مداهمة بيته بواسطة جنود المستعمر الفرنسي. المشهد الأول في الرواية، وخالد في القطار قادمًا من مارسيليا في الطريق لمنفاه الاختياري ليستكمل مقاومته للمستعمر. كان خالد قد أبرق لصديق مقاعد الدراسة في ليسيه قسنطينة عام 1945؛ الأوربي سيمون كويدج، برقية بموعد قدومه إلى باريس، وكان يتوقع منه انتظاره على رصيف محطة القطار، أو «رصيف الأزهار»، ولكنه لم يجده. هناك دلالة لعام 1945م، الذي تزاملا فيه، وهو حدوث مذبحة ضد ثورة الشعب الجزائري، من طرف المستعمر الفرنسي، ومقتل الآلاف من الجزائريين، وسمي بالربيع الدامي.

* * *

مالك حداد

يذهب خالد إلى بيت سيمون الذي أصبح محاميًا، وتفتح له زوجته مونيك، بينما سيمون صديقه يقف. وراءها، ويستقبله بفتور نظرًا للزمن الذي مر على علاقتهما، وأيضًا للتغيرات النفسية والاجتماعية التي لحقت بالصديقين، كل في حياته، وبلده. هذا الثلاثي خالد وسيمون ومونيك، سيشغل زمن الرواية، أو زمن مكوث الكاتب في باريس. ستحبه مونيك وتتعلق به، ولكن هذا الحب لن يقطع العلاقة بينه وبين سيمون، ربما هناك رابطة أكبر، أو تصور رمزي رمى إليه مالك حداد في تفسير هذه العلاقة بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية، وطريقة فهمه لهما، بوجهيهما البارد والدافئ.

* * *

ستتردد جملة «رصيف الأزهار» في الرواية كثيرًا، بأكثر من كونه حيًّا باريسيًّا على نهر السين، سيكون أحيانًا رصيف قطار، أو مجازًا لمكان الانتظار، أو العلاقة بالآخر، الفارغ دومًا. هناك مكان لا يحدث فيه التواصل مع هذا «الآخر». الرصيف هنا مكان وداع، وافتراق، ربما هذا المجاز هو الأقرب لروح الرواية، فداخل المنفى ليس هناك رصيف، إنما ترحال مستمر. فالمنفى اختيار يتعدي مفهوم الوطن، كما أن الكتابة، اللغة، منفى دائم يتعدى مفهوم الوطن.

* * *

يظل خالد على اتصال مع زوجته وريدة وأبنائه الثلاثة مراد وفريد ومالكة من خلال الرسائل، ولكن بعدها ينقطع الاتصال، ويعرف أن وريدة حبيبته وزوجته ذهبت للجبال من أجل المقاومة. المفاجأة أنه في لحظة تقريره العودة للجزائر، بعد سنوات في باريس، لاستكمال رسالته هناك، يقرأ في القطار العائد به، خبرًا صغيرًا في الجريدة الفرنسية، يشير إلى موت زوجته وحبيبها ضابط المظلات الفرنسي برصاص «إرهابيين»، بتعريف الصحيفة الفرنسية. يعرف بخيانة زوجته، فيقفز بين قضبان القطار ويموت. وهنا تنتهي الرواية. وربما يكون الموت على قضيب القطار، له علاقة أيضًا بالرصيف والسفر والمنفى الدائم، أو مكان الوداع/ اللقاء الفارغ دومًا.

* * *

طوال فترة إقامته في باريس حتى عام 1961م، يخبرنا الراوي أن خالدًا يقوم بكتابة رواية عن تفاصيل حياته هناك داخل منفاه المكاني واللغوي لكونه يكتب بالفرنسية. هناك راوٍ/ المؤلف يتحدث عن بطله خالد، الذي يروي رواية هو الآخر، لا يضمنها نصه، ولكنها حاضرة كظل للرواية الأصلية، ويستعرض من خلالها تصوره عن الكتابة ووظيفة الكاتب، والمقاومة والجماهير. «لاذ خالد بوطبال بروايته التي يكتبها ولم يسبق أن خامره نحو مهنته ما يخامره الآن من الشعور بالعرفان، بل الحنان. لا لأنه يفرض الحقائق بحثًا عن هروب لا معنى له، وإذا حدث أن صار العمل نوعًا من الدفاع الذاتي -من دون أن يكون مخدرًا- فإنه مع هذا أضعف ما يكون صلة بالسعادة وأبعد عن الفرح. بيد أن هذا لم يَحُلْ دون اكتشاف خالد لأول مرة في قلمه وفي أوراقه رفاقًا، وإن كانوا مملين، لكنهم أوفياء، وكان على درجة عظيمة من السذاجة؛ إذ كان يكتب «إنني كاتب الشئون العامة». (ص64)

* * *

«الكتابة في رأي خالد، هي الإصغاء والملاحظة، كان يقبس أفكاره كذلك من الشارع والناس، وهو يكتب أنى كان، وينحي على نفسه باللوم فقط؛ لأنه مراقب غريب، إلا أنه طوال هذه اللحظات يخامره شعور بأنه مراقب قريب من الآخرين، وأنه ملكهم وهذا ينبوع رضاه الوحيد في مهنته». (ص29 )

رضا الكاتب عن نفسه جزء من رضا الآخرين، ووعيه يتحدد بأن يشغل هذا المكان الوسطي بين الفرد والجماعة. هنا يظهر مكان أرق وتناقض خالد العميق، واستحالة تحقيقه. الاتصال والانفصال عن الجماعة. خالد كان يقف ضد فكر القطيع، ولكنه في الوقت نفسه هم جزء من علاقته بالكتابة، ومن التزامه الأخلاقي تجاه نفسه وفكره التحرري. يكتب بصدق طوباوي عن عدم جدوى الكتَّاب وعدم تأثيرهم على مجرى التاريخ «الكتَّاب لم يعدلوا أبدًا في معنى التاريخ، الكتَّاب شهود وظاهرات عارضة»، «فالوطن لا يصنع الوطني»، ولكن الوطن يتيح الوطنية للوطنيين» و«حرب المقاومة التي لا ينظر إليها من هذه الزاوية ليست إلا تمرينًا سهلًا في بيان الأسلوب» (ص 31 و 32).

* * *

كان خالد/ مالك يرى تحققًا للكاتب في منفاه وانفصاله عن الآخرين «فالوحدة هي مملكته والصمت حصنه» (ص47). دائمًا يُراوِح في تحديد مكان الكاتب بين القرب والانفصال. هو غريب ولكنه على اتصال. القرب مع الانفصال، والغربة مع الاتصال. هذه المعادلة التي تتحق في تناقضاتها عبر الكتابة/ النص الذي هو الحياة: «ما الحياة في نظري إلا حدث أدبي». حتى العلاقة بالزمن تخضع للانفصال عن الحاضر، والاتصال مع الماضي، يُسمى من طرف مونيك بـ«سيد الماضي» حيث توجد الطفولة ومعها يوجد الوطن، فداخل الماضي يعيش الوطن كما يتمناه.

* * *

يلح مالك حداد في تعريف وظيفة «الكاتب»، ووظيفة الكتابة، ونظرية الكتابة، نظرًا لارتباطه بقضية مصيرية، وبوعي إنساني وأدبي يريد أن يمتزج بهذه القضية، فأحيانًا يتبادل النص واللغة والوطن والوجود الأدوار داخل هذا الوعي القلق. يكتب «الكاتب نتاج التاريخ وليس نتاج الجغرافيا». هذا التعريف الأخير يبرر استخدامه لتقنية القفزات الزمنية، والتداعي في السرد، وهي تقنية لها وجه شعري، وأيضًا تاريخي، تتوجه مباشرة للوعي الجمعي وتاريخ الجماعة والوطن، فالكاتب ابن هذا التاريخ، والقراء هم أهله الفلاحون بوصفهم صانعي هذا التاريخ كما يذكر، ثم يكتب بحسرة «فمن نكتب لهم في المقام الأول لا يقرؤوننا»، وهي جزء من مأساته في حياته، أنه يكتب بالفرنسية عن أناس لا يقرؤونه.

* * *

يكتب مالك/ خالد عن علاقة الكاتب بنصه، كسيرة ذاتية، وعَدّ «الصدق» جزءًا من نظريته عن الكتابة، ليصبح أحد مبدعيها الكبار أو مشرعيها مثل رجل القانون: «ما دام أن المعيار الوحيد لأي إنتاج محترم هو في ضرورة صدقه. ومهما فعل الروائي ليقدم بديلًا عن حياته فإنه في الحقيقة لا يقص غيرها كعالم الفيزياء الذي يتابع نفسه ويطيل تجاربه المخبرية، وهو يشبه قليلًا الفقيه الذي يسهر على القانون وهو يحلم بتحسينه مدفوعًا بالحاجة التي لا غنى عنها لكي يصبح هو نفسه مشرعًا». (ص 65).

* * *

رمزية حب خالد لمونيك ليست خيانة، وإنما نوع من التبادل بين الثقافتين، العابر للحدود والجنسية. هذا المبدأ يبيح التزاوج بين المتناقضين؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة. فارتباطه بمونيك جزء من ارتباطه بنفسه الكاتبة. تضعه مونيك في مواجهة خطرة مع أفكاره. بينه وبين مونيك قرابة رمزية تلغي فكرة الخيانة لصديقه، وتفسر الحب أو تبرره رمزيًّا. ربما الخيانة ضريبة لكي يتم الاتحاد بين الثقافتين، فهو يريد أن يفصل المستعمر عن إرثه الثقافي. فالعلاقة مع مونيك علاقة مع إرث ثقافي أكثر منها مع جسد. وأيضًا العلاقة بين وريدة، زوجته والضابط المظلي الفرنسي يمكن أن تكون خيانة، ويمكن أن ترى أيضًا بشكل رمزي كنوع من التداخل الإنساني بين الثقافتين الفرنسية والجزائرية، ولا يتم هذا إلا عبر القفز فوق التابو، أو تعديه، ويكون نتيجته الموت كما حدث لخالد ووريدة. الاثنان أضحيتان، كونهما آمنا بالفكرة الإنسانية التي تتجاوز الأسوار/ الحدود. وتظهر هنا فهمه للكتابة، كنوع من تجاوز الأسوار «الكاتب هو من يتخطى الأسوار وينتصب واقفًا في الحديقة» (ص 36).

الخماسين :

في رواية «الخماسين» لغالب هلسا (الأعمال الروائية الكاملة. دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2003م- الأردن) بطل الرواية اسمه غالب ويعمل صحافيًّا في وكالة أنباء ألمانية، ويملك سيارة فارتبورج ألمانية، ويسكن في شقة قريبة من ميدان الدقي، ويعيش في القاهرة منذ نهاية الخمسينيات، وعمره في مثل عمر المؤلف، ويُستَدعى من المباحث في مديرية الأمن، وهو أيضًا ما تم مع غالب هلسا بعد اتهامه في قضية سياسية، سُجن على إثرها في مصر مع مجموعة من السياسيين والشعراء. وخلال الرواية يذكر غالب أسماء لمثقفين وروائيين مصريين يعرفهم، لا يترك أي فرصة للفكاك من واقعية الرواية، ربما يأتي على الأسماء النسائية ولا يعرفها، يذكر اسمها الأول، كأنها اسم علم معروف، وواحدة منهن تظل بلا اسم، ربما هذه السيدة هي مكان الخيال/ ما فوق الواقع بالنسبة له، كل أوصافه لها، بها قداسة ومفارقة، ويدور بينه وبينها حوار حتى في غيابها، فهي تشغل بؤرة لا وعيه.

* * *

يعيش غالب داخل روايته أيام خماسين ثقيلة في صيف القاهرة الحارق في بداية السبعينيات. يطارد العرق واللزوجة والتراب أجساد كل أبطاله وتضعهم في إحساس دائم بالاختناق. ويطارده الخوف من فقده القدرة على الخيال، الذي كان دافعًا له على الكتابة/ الحياة. أحيانًا يروي بضمير الغائب، وأحيانًا بضمير المتكلم، وأحيانًا هناك راوٍ عن راوٍ مثل رواية مالك حداد، فراوي الرواية يستلم الخيط من الراوي الأصلي، ويبدأ في تفسير «أناه» الأخرى؛ لذا يتحول السرد إلى نوع سريري من الاعترافات، ولكن من دون أسرار. فالسيرة هنا تُروى بصوتين، بصوت راوٍ عليم، وبصوت بطلها الذي ينقسم لراوٍ ومرويّ عنه. تتخلل أحداث الرواية مونولوجات داخلية طويلة، تأخذ أحيانًا شكلًا شعريًّا، لا تخرج للعلن، كنوع من مراجعة الراوي لحياته وأزماته وعلاقاته النسائية، أو هي طريقة هذه الذات في الاعتراف.

* * *

غالب هلسا

يتحدث الراوي دومًا عن أمراة مجهولة، يسميها «شاملة»، ولا يريد أن يذكر اسمها. هذا الإخفاء هو أسلوبه في قول الحقيقة. ومن ثَمَّ كل ما يظهر على السطح من أسماء ليست جوهرية، ولكن المخفي منها والغامض هو الحقيقي أو الواقعي؛ لأنه يحمِّل عليه أفكاره. فالسيرة الذاتية هنا تدور حول علاقات أو مشاعر غامضة وليست فقط أحداثًا، فالأحداث قليلة جدًّا، وأغلبها سير في المدينة، أو التنقل بين أفكار عدة ونساء، فالعلاقة بالمرأة والكتابة هما الفكرتان الأساسيتان في هذه الرواية.

* * *

يصف الراوي هذه المرأة الشاملة كأنها هو، فلها طريقته في الانفصال عن التنميط «تلك العزلة والتأمل الطويلين، والابتعاد عن تفاصيل الحياة اليومية في هديرها الكابوسي جعلها تبتعد عن أساليب المرأة التي قتلها التخصص، وعصر تقسيم العمل، امرأة من عصر مضى، وعصر لم يأتِ بعد تحتوي في داخلها الحياة بكلياتها، امراة في سلام كامل مع نفسها ومع العالم. المرأة الشاملة» (ص364).

هذه المرأة الشاملة هي النموذج الذي يحول بينه وبين أي نوع آخر من العلاقات مع الفتيات؛ لذا هذه العلاقة بها صورة من «الأضحية» التي وهب نفسه لها ولمعيارها المقدس: «أخذ ينبح، قال: لا، منذ سنين لا يذكرها منذ أول تعارف لا يدري متى، ثم، وهذا الحب يتلفه، يقف بينه وبين كل فتاة رغب في أن يقيم علاقة معها. وهو، الآن، في هذه اللحظة، يعلن لها هزيمته.. توقف وقال لنفسه: «إنني أهين نفسي بهذا الهذيان، يجب أن أتوقف، يجب أن أتوقف» (الأعمال الكاملة- ص 368). يشعر أمامها بالعجز، ويطلب منها أن ترد له رجولته، أو تتخلى عن قداستها التي تتحلى بها. «أفكر في الرواية لأنني أفكر في المرأة». (ص454)، يعادل المرأة بالكتابة، وهو جذر رومانسي سيجعله يصعد بمفهوم المرأة رمزيًّا لتكون هي الحياة، أو الوجه الآخر لها مع الكتابة.

* * *

ينتمي غالب هلسا لجيل البحث عن المستحيل في الستينيات، سواء كان المستحيل متجسدًا في المرأة أو التحرر أو شكل النص المراد كتابته. تفرش الاستحالة، أو المثالية، وجودها على جيل غالب هلسا، بجانب قهر السلطة الذي صنع نموذجًا مفارقًا للخوف والبارانويا لدى الكتاب والالتجاء للمونولوج الداخلي كحيلة فنية، وسِيرِيَّة.

* * *

كما يناقش مالك حداد مفهوم «الصدق» داخل الكتابة، يناقش غالب هلسا قضية «الخيال في نقاش مع ليزا جارته الأميركية» ومكانه داخل السيرة: «الخيال فعلًا، كنت أقول أنكِ على حق. لا أعرف أين ذهب الخيال، أشياء صغيرة تتجمع، وأنتظر أن ترتبط، أن تصبح وحدة ذات معنى، ولكن ذلك لا يحدث. أقول لنفسي: تريث، دع الأشياء تنضج، دع اللاوعي يقوم بدوره». (ص 371) الخيال جزء من اللاوعي، وهي الذي يقوم بإيجاد الرابط بين هذه الأشياء الصغيرة المتفرقة. من دون الخيال سيحدث الموت وسيفقد الكاتب حياته/ نصه، وهو ما يبحث عنه بطل الرواية، الذي يعاني صراعات حادة ومشاعر عدمية، أن يساوي بين الحياة والنص، بين الرمز والمادة.

* * *

تتكرر جملة «أقول لنفسي» كثيرًا داخل الرواية، كأن السيرة وتفاصيلها ليست موجهة للخارج ولكن موجهة للنفس لتأخذ شكل النص، الذي هو خارجها الحاضر أبدًا خلال الكتابة.

* * *

يقرر الكاتب هربًا من خماسين القاهرة الذهاب للإسكندرية، مدينة الخيال، التي أعادت له الخيال والانبعاث «على الفور أخذ العالم المحيط بي يكتسب طابعه المزدوج: كونه واقعة عينية وكونه رمزًا ومادة للفن، ثم أخذ هذا الطابع المزدوج يتوحد ويندرج في سياق الرواية التي توقف عن كتابتها» (ص455). ويقول في مكان آخر: «إنني أشهد لحظة التحام الرؤى المفككة، والمنفصلة» (ص457). رأى غالب في الإسكندرية المرأة، بالرغم من ابتذال التعبير كما يقول، ولكنْ كل من يمنحه الاتساق بين العالم والرمز، عبر حضور الخيال، سيكون له الطابع الأنثوي.

التساوي بين الكلمة والمادة، أو الرمز والعالم، هذه هي نظريته عن الكتابة، أو مفهومه لـ «الصدق» الذي ينشده، ليحرر كلماته من الجمود والتشييء. يؤرقه أن اللحظة الحاضرة تنفلت وتصبح ماضيًا لا يُستعاد إلا بالكلمات، والصراع إذن، في الكتابة، سيكون بين الحاضر، بغرض تأبيده، وبين الرجوع للماضي حيث الحياة. «هذه الكلمات تموت إلا إذا لامست وترًا داخليًّا أو تجسد حدسًا صادقًا» (ص 456). يشبه غالب خالد بن طبال الملقب بـ«سيد الماضي»، في رواية مالك حداد؛ في شكل العلاقة بالماضي، وأن الكتابة في النهاية صورة عن النفس/ الكاتب.

«حيث يصبح العالم إمكانيات لا تتحقق، وعد مؤجل بالنشوة: تتفجر كل إمكانياته مثيرًا عنف الرغبة في كل ما يقدمه، ولكنه لا يقدم شيئًا إلا كونه موضوعًا للكتابة، فتتحول رغباتي وأشواقي إلى أدوات تحدد صياغتي للعالم. ومن هنا يتولد ذلك الإحساس بالزيف، بأن ما أعبر عنه ليس هو الواقع كما أراه، بل هو إضفاء فاعليتي الخاصة على الأشياء.. إنه ليس الواقع المحايد المبذول للجميع، بل واقعي الخاص جدًّا… عالم خام، ميت أمامي أمنحه صورته أنا، ولهذا فأنا في حقيقة الأمر لا أكتب إلا عن نفسي» (ص 456).

* * *

«هناك الشيء وهناك رؤيتنا له: الشيء والكلمة.. في البدء كانت الكلمة.. الكلمة والشيء ديالكتيك. صراع أوسع من ذلك. صراع بين الحياة والفن» (ص398)، سيظل الصراع بين الكلمة والشيء، بين الرمز والحياة، أيهما سيفرض سطوته على الآخر؟ هذا الانفصام، أو أسبقية الكلمة، يُشعر غالب بالهوة بينه وبين الحياة. داخل هذه الهوة تتولد رغبة الكتابة. ولكنه يريد أن يستعيد قوة الحياة، كون الحياة لا ترى إلا من خلال الرموز، وهو يريد العكس، أن تسبق الحياة الرموز؛ لأنها الأبقى، والمعيار على الصدق. فالكلمات عاجزة عن التعبير سواء عن المادة أو الشعور بزيف العالم. يكتب عن بطله «لقد توقف عن الحياة فجفت ينابيع الخلق في داخله»، توقفه عن الكتابة هو المقياس الذي يرصد به توقف الحياة، والتوقف عن الحياة هو توقف عن الخيال؛ لأن الخيال هو مصدر الخلق، وغياب الخيال سببه الخوف، والخوف هنا، كرجل مسيَّس، له علاقة بالسلطة أو القهر سواء القهر الأبوي المجسد في السلطة، أو الأمومي المجسد في مثالية المرأة التي يشتهيها. تتآزر الروابط ليصل بنا إلى الغرض من هذا القلق الوجودي لغالب، وبحثه الدائم وأسئلته وسرد لسيرته، وهو الوصول لرموز السلطة، أو إدانتها عبر نفسه، قريبًا في المسافة من أن يكون « أضحية».

* * *

هناك صفحات من التداعي الحر وأحلام اليقظة، وهما شكلا الاعتراف لهذه السيرة، يكشف فيها اللاوعي عن الصور المتلاحقة والمتناقضة التي يريد من الخيال أن يربط بينها. مزية هذه التقنية هنا أنها تربط بين أزمنة متنافرة، فالخيال هو القادر على أن يجمع ويربط بين أكثر من زمن، فالخيال هو الجسر بين الكتابة والحياة، بين الرمز والعالم.

حكاية تو: فتحي غانم

تحكي رواية فتحي غانم «حكاية تو» (روايات دار الهلال- العدد 468. ديسمبر 1987م) التي صدرت في منتصف الثمانينيات، عن الشهيد شهدي عطية الشافعي، من دون ذكر اسمه، ولكنه يسرد وقائع تعذيبه وموته في السجن في يونيو 1960م، وهي الواقعة التي تقوم عليها الرواية وتسرد تفاصيلها. يصل الروائي/ الصحافي للواقعة القديمة عن طريق خيوط مرتبطة بها: أولًا لقاؤه بابن الشهيد «تو»، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، الذي تعرف إليه في صالة البريدج في النادي الأرستقراطي بالإسكندرية، ولفتت غرابته عن المكان نظر الكاتب بحاسته الصحافية، فهو ليس من أعضاء النادي، وأيضًا ربط بينه وبين الخيط الثاني في الرواية وهو زهدي، لواء الشرطة المحال للمعاش والبذيء، وأحد أعضاء النادي، للوصول للواقعة الحقيقية. يكشف المؤلف عن العلاقة بين الاثنين، مثل مفتش البوليس، بين الجلاد والضحية. بالفعل يكتشف، عبر اعتراف اللواء زهدي له، بأنه هو من عذَّب والد «تو» حتى الموت، وحكي له الواقعة بتفاصيلها حتى يتطهر من الذنب الذي يثقل صدره. وأول أفعال التطهر، كما أخبره، أنه أتى بالشاب «تو» لكي يعمل بالنادي ليساعده في دراسته.

* * *

فتحي غانم

الراوي صحافي يسعى لكتابة رواية عن هذه الاعترافات التي سمعها من اللواء زهدي. يكتب بالفعل «مسودة» يفرغ فيها كل ما سمعه. طبعًا يدور ماضي الرواية عن لحظة التعذيب التي لا يوجد بها أي دراما سوى تسجيل الحدث كما هو، وهو لب الرواية، أو سيرتها التسجيلية. تتداخل في الرواية سيرتان؛ سيرة الصحافي أثناء كتابة مسودة روايته، وسيرة موت من يكتب عنه. تحدث المطابقة بينهما، يطابق الكاتب سيرته بسيرة الشهيد. هذه المطابقة وسعت من نظرته لحياته، وجعلته يتخلى عن تحفظه وخوفه من المواجهة مع السلطة.

* * *

لا يذكر فتحي غانم أية أسماء ولا أماكن، حتى اسم الشهيد غائب، زيادة في تأكيد حقيقيَّتها، حتى «تو» استخدم الكنية بديلًا عن الاسم الحقيق، كأنه يخفيه حفاظًا عليه.

* * *

يتحدث الراوي عن أهمية الكتابة، فهي التي تساعده على الشفاء من هول ما سمعه والأذى النفسي الذي سببه رواية اللواء زهدي للحظات العذيب. فيشرع في كتابة «مسودة» يضمنها صفحات طويلة من الرواية، وتشكل مسودة لروايته القادمة. هنا تظهر الحياة الأخرى التي تصنعها سيرة الشهيد، فبموته أيقظ حكاية تظل تؤرق الآخرين، وتدفعهم لتسجيلها من هول أحداثها، فالموت بهذه الطريقة يشق طريقه عبر الورق والسيرة ليطفو على سطح الحياة.

ولكن هذا التسجيل يضع الراوي في خطر ما، فإعادة سرد هذه الحكاية، فيه مواجهة مع السلطة التي قامت بالتعذيب، وهنا نصل لقضية «الصدق» في الكتابة، التي تسبق فيها الحياة الكتابة، فكأن هذا الشهيد يقول للراوي «إن الحياة الحقيقية هي في قبول التعرض للسقوط فيها» (ص 39)، فالحكاية التي اطلع عليها تهدده في فهمه لحياته نفسها، وتدفعه لمخاطرة كان ينأى عنها، ويتحداه «أنك لن تحيا حياتك كاملة في مأمن تام من الخطر» (39) الراوي يحدث نفسه بإيعاز من حياة الشهيد، ويتحدث بصوته. يعترف له الشهيد عبر الكاتب، أن هناك لحظة تكتمل فيها كل الحياة فلا يكون هناك معنى للتخلي عنها مقابل نصف حياة أو ربع حياة، ويصبح من الأفضل على من فاز بلحظة الحياة الكاملة أن يموت، ليصون ما حققه من اكتمال» (ص39) وهي اللحظة التي قرر فيها الراوي أن يكتب مسودة لرواية سيرة الشهيد.

* * *

يسأل الراوي نفسه في الرواية «سألت نفسي عن قيمة الكاتب الذي يكتب للناس وهو خائف مما قد يواجهه» (ص97)، ثم يصف حالته قبل كتابته للمسودة كحالة مخاض صعب، ولكن بعد كتابته للمسودة اختلف الأمر «ولكن بعد كتابة المسودة شعرت بالعجز عن كتابة أي عمل أدبي» (ص 97) عاش لحظة الخطر الخاصة به، لحظة اكتمال ما، شعر بحالة قلق وجودي، وجد أنها اللحظة التي لا يجب أن يفوتها، يقول: «نعم، إن الانتظار الفاجع ليس انتظارًا فنيًّا يسبق كتابة الرواية. إنه انتظار لموقف أتخذه من حياتي كلها. وإن كنت لا أدري كيف، ولا ماذا أختار. سحقًا لتلك الأوراق التي كتبتها بمظنة أنه ستساعدني على الشفاء» (ص97). بمعنى آخر «المسودة»: ما هي إلا بداية لعلاقة ستنقلب مع الكتابة نفسها، فالمسودة/ الاعتراف شفته كإنسان، ولكن ما زال هناك تجربة تنتظره ليستحق أن يكون كاتبًا.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *