كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مسقط ترسخ نفسها عاصمة المؤتلف الإنساني
حتى قبل أن تخرج من مطار مسقط الدولي، يخالجك شعور أنك تقتحم مدينة جديدة، تشهد نهضة عمرانية وثقافية إضافة إلى حضارة ضاربة في العمق. بدا المطار بصالاته وبواباته وممراته وردهاته الأنيقة وهندسته التي تمزج بين الأصالة والحداثة المعمارية، بوابة لعالم جديد وضعت للتو لمساته الأخيرة، عالم شيد بأناة ومثابرة وعزم ومن دون تعجل، ولا شعور يداخل صُنَّاعه أنهم في مسابقة دولية، للأطول أو للأكبر أو الأضخم.
ظهرت مسقط كمثيل للسلطنة بكاملها، ترميز لما يحدو هذا البلد من تقدم وازدهار ومساحة يتعايش فيها الجميع. في الطريق من المطار، الذي افتتح في عام 2018م إلى معرض مسقط الدولي للكتاب، أو إلى أي مكان يقصده الزائر، وأينما يولي وجهه فسيرى البلد فيما يشبه الورشة الهائلة؛ بنايات جديدة، ومراكز تجارية ضخمة في طور الانتهاء، وطرق فسيحة تؤدِّي إلى مدن مختلفة، ترنو كلُّها إلى عهد جديد يُتمِّم مكارم التعايش، ويكمل ما بدأ منذ عقود من مشاريع وسبل للرفاه.
أما معرض مسقط الدولي، الذي تأخر يومين عن موعد افتتاحه الرسمي، بسبب الحداد على رحيل باني عمان الجديدة وزعيمها التاريخي السلطان قابوس، فيقام في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض الذي لم يمضِ على تدشينه سوى أعوام قليلة، وبدا جديدًا بإمكانات هائلة، تتيح الدخول إليه والخروج منه بسلاسة، مهما كان الازدحام. وجاء معرض الكتاب، الذي رعا حفلة افتتاحه السيد شهاب بن طارق آل سعيد مستشار جلالة السلطان، أشبه بمنصة للأفكار والثقافة والتعايش والسلام في هذا البلد. زوار المعرض، الذي يشهد مشاركة 946 دار نشر من 32 دولة، جُلُّهم من المواطنين وشريحة لا بأس بها من المقيمين العرب، جاؤوا ليقتنوا كتبهم المفضلة ويشاركوا في حضور الفعاليات التي تضمنها البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض، ويصنعوا حراكًا ثقافيًّا استمر طوال عشرة أيام.
ولا عجب أن يأتي تصنيف معرض مسقط، الذي يحتفي بيوبيله الفضي، ما يشكل، بالنسبة للمتابعين، فارقًا جوهريًّا في الاحتفاء بالكتاب، وإبراز الجانب الثقافي في أهم الفعاليات التي تحتضنها السلطنة سنويًّا، لا عجب أن يأتي ضمن أفضل ثلاثة معارض على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، حسب تصنيف الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، واحتل المعرض المركز الثاني ضمن أفضل المعارض من ناحية القوة الشرائية الفردية والإقبال الجماهيري، وتقديم الامتيازات والتسهيلات للمشاركين، وفقًا لاتحاد الناشرين العرب.
أمام كل جناح سيجد الزائر نفسه يصغي لحوار ثقافي فريد من نوعه بين زوار عمانيين، وأصحاب دور النشر، حوار الكتب الجديدة في مختلف الحقول والمجالات، وحول ما يمور به المشهد الثقافي العماني والعربي من مخاضات، وسينصت للتمنيات أن المقبل سيكون جميلًا أيضًا، وأن مسقط مدينة تستحق أن تكون عاصمة للثقافة والمؤتلف الإنساني. في المعرض سيلتقي الزوار كُتَّابهم المفضلين من الأدباء والكتاب العمانيين، الذين يأتون بدورهم إما لتوقيع كتبهم الجديدة، أو لزيارة المعرض واقتناء ما يرغبون فيه من إصدارات جديدة، أو لالتقاء بعضهم بعضًا؛ إذ إن مثل هذه الفعاليات الكبرى تعد مناسبة لأن يلتقي المثقفون بعضهم بعضًا. في ردهات المعرض ينتشر شباب وشابات يلبسون زيًّا مميزًا، يقدمون خدماتهم الإلكترونية بلا كلل، لمن يطلبها من الزوار، ممن يسأل عن دار نشر أو مؤسسة ثقافية مشاركة أو عناوين معينة.
السلطان الراحل قابوس بن سعيد، كان موضوعًا لعدد مهمّ من الندوات التي نفذت ضمن البرنامج الثقافي للمعرض، وتناولت فكر الراحل ومسيرة التنمية والتطوير التي شهدتهما البلاد في عهده. وجاء اختيار «محافظة مسندم» هذا العام لتكون ضيف شرف المعرض، وتعرف الزوار إلى لمحات من ثقافة هذه المحافظة وتاريخها، عبر عدد من الفعاليات التي شهدت حضورًا جيدًا. في هذه الدورة من المعرض كُرِّمَ عدد من الشخصيات مثل: آمنة الربيع عن إسهاماتها في مجال المسرح، وعبدالرحمن الهنائي عن تجربته في مجال التصوير الضوئي، ووفاء الشامسية عما قدمته في مجال أدب الطفل. وتوزعت فعاليات البرنامج الثقافي على أربع قاعات متكاملة في مركز عمان للمؤتمرات والمعارض، فيما خصصت قاعات لمناشط الطفل وفعالياته.
فكر السلطان الراحل
من الفعاليات التي ركزت على فكر السلطان الراحل ودوره في نهضة عمان، ندوة «مؤتلف السلطان قابوس الإنساني.. قيم التعايش والتفاهم والوئام» التي نظمتها وزارة الإعلام بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وشارك فيها الدكتور رضوان السيد من لبنان، والدكتور طارق متري من لبنان، والدكتور محمد الشيخ من المغرب، والدكتور سبيستيان جونثر من ألمانيا. وكانت سلطنة عمان أعلنت مبادرة المؤتلف الإنساني، خلال مشاركتها الاحتفال العالمي باليوم العالمي للتسامح في العاصمة الإندونيسية جاكرتا في نوفمبر الماضي.
رضوان السيد قال في ورقته: إن إعلان مؤتلف السلطان قابوس الإنساني يرى أن القيمة والحق مع التطور الإنساني يلتقيان أو يقترنان، أو هما في حالة تحقق مستمر وإنجاز مستديم. وتطرق الدكتور السيد إلى التجربة الطويلة للسلطان الراحل في الحوار التوسطي، وقال: «فلننظر لنشهد هذا الوعي المتوافر في إعلان المؤتلف للحياة الإنسانية المستقرة التي يريد لها أن تكونَ آمنةً بالعدالة والحرية وحكم القانون»، مشيرًا إلى أهمية هذه المبادرة التي تعد تجربة جديدة لمعالجة التأزم والاختلال في الوضع الإنساني. وفي ختام ورقته تحدث الدكتور رضوان عن مجلة «التفاهم» التي يعمل فيها مستشارًا للتحرير، وقد كان يطلق عليها مجلة «التسامح» إلا أن السلطان الراحل طلب تغيير اسمها إلى التفاهم حين بلغت عددها الثلاثين.
في حين توقف الدكتور طارق متري عند جدلية التماثل والفرادة وممارسة الحرية في الاختلاف وقبول التنوع، طارحًا أمثلة عن هيئات نشأت وهي لا تحترم سياسات الدول؛ أبرزها منظمة التجارة العالمية. وركز طارق متري في حديثه على مجالين هما: الظاهرة الدينية التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وانتشار الأديان في كل مكان، وتحدث كذلك عن المؤتلف الذي يقدم أولوية الوحدة الإنسانية، وينتقد الغلو. أما الدكتور محمد الشيخ فتناول ما يجمع بين الحضارات أكثر مما يفرقها. وعبر الشيخ عن خشيته «أن يمسي المؤتلف الإنساني فينا نادرًا، والمختلف الإنساني فينا شائعًا»، بينما تحدث الدكتور سبيستيان جونثر عن «القيم الإنسانية المشتركة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة وحاجتنا للتعلم والحوار للمساهمة في المؤتلف الإنساني». ودعا جونثر إلى إنعاش الحوار بين مختلف الجماعات والمعتقدات، من خلال تقوية فكرة احترام الاختلافات وتقدير التنوع الثقافي والتعدد التي لم تكن يومًا من أسباب الفرقة والشقاق.
وشهد البرنامج الثقافي للمعرض حوارًا إعلاميًّا حول السلطان الراحل، شاركت فيه شخصيات التقت السلطان قابوس في أوقات مختلفة، وهؤلاء هم: الصحافية الأميركية جوديث ميلر، والصحافي الروسي سيرجي بليخانوف صاحب كتاب «مصلح على العرش»، والفنان المصري سمير صبري. جوديث ميلر قالت: إن السلطان الراحل كان رجلًا يعرف ما يريد حق المعرفة.. رجلًا يعرف كيف يخطط للنجاح.. كرَّس نفسه لخدمة شعبه ووطنه» كاشفة أن السلطان الراحل في أول مقابلة أجرتها معه، شرح لها خطته في إدارة البلاد من أجل النهوض بها. فيما تطرق الصحافي الروسي إلى لقائه السلطان قابوس، فقال: «جلست مع السلطان الراحل حيث استقبلني في سيح البركات، وسألته عددًا من الأسئلة المتعلقة بكتابي آنذاك، وتحدثنا عن طفولته ولقائه جَدَّه في مومباي، مؤكدًا أن السلطان بهره عندما تحدث معه عن طفولته وشغفه المبكر بالموسيقا، وعن ثقافته الواسعة في مجال الموسيقا: حدثني عن أشهر موسيقيي الغرب ومقطوعاتهم وهو يحب الموسيقا الأندلسية والهندية والإفريقية، ويعرف الكثير عنها إضافة إلى الموسيقا العربية». وأشار الفنان المصري سمير صبري إلى اللقاء الذي جمعه بالراحل، واصفًا إياه بالشخصية الفريدة من نوعها، وبالموسوعية في مجالات مختلفة. وقال صبري: إن لقاءه الراحل كان في حقبة مبكرة جدًّا من النهضة العمانية؛ لذلك كان حديثه مع السلطان الراحل حول أحلامه بالنهوض وبمدارس وجامعات في كل أنحاء عمان. ويضيف صبري أنه زار عمان بعد ذلك بأعوام طويلة، فوجد أن كل ما كان يحلم به السلطان قد تحقق.
وسلط يوسف بن علوي، وزير الشؤون الخارجية، الضوء، في ندوة أخرى، على نشأة السلطان قابوس و طفولته التي كانت محاطة بفكرة السلام، متطرقًا إلى بعض المحطات في حياة السلطان الراحل وتأثير فكرة السلام القائمة على الحقيقة والعدالة في المنهج الذي اختطه الراحل الذي على أساسه قاد نهضة حضارية وعصرية شاملة غطت ربوع عمان. وذكر ابن علوي أن السلام لا يعني الهروب من القضايا أو الابتعاد منها، إنما هو دعم للحق والعدالة والبحث عن الحقيقة دائمًا.
احتفال بعالمية جوخة الحارثي
ومن الندوات التي شهدها المعرض ندوة نظمتها جامعة السلطان قابوس حول تجربة الكاتبة العمانية جوخة الحارثي، التي فازت بجائزة مان بوكر البريطانية عن روايتها «سيدات القمر»، وأدار الندوة القاصّ والكاتب محمد اليحيائي. شاهد الحضور عرضًا مرئيًّا حول الكاتبة. وتطرقت الندوة لما لقيته الكاتبة الحارثي من حفاوة نقدية بعد فوزها، كما تحدثت هي عن رواياتها، مؤكدة أنها كتبت بعض رواياتها تقديرًا لأمها وتعاطفًا مع قضايا المرأة، في خضم التحولات بين الماضي والحاضر التي شهدها المجتمع العماني. كما تطرقت إلى جهد المترجمة مارلين بوث في ترجمة «سيدات القمر»، التي ترجمت إلى عدد من اللغات منذ فوزها. وعدت جوخة الحارثي فوزها بجائزة عالمية، هو فوز لبلادها ولثقافتها؛ إذ فتحت الجائزة نافذة لثقافة بلادها وكتابها على العالم.
مؤسسات عمانية
من المؤسسات العمانية التي كان لها حضور لافت في المعرض من خلال الأنشطة والإصدارات المميزة مؤسسة بيت الزبير، التي قدمت ندوات عدة حول السلطان الراحل، إضافة إلى عدد من الفعاليات التي تسهم من خلالها في مجالات الثقافة والفنون في البلاد. وتهدف فعاليات بيت الزبير، بحسب الدكتورة منى السليمية مديرة دائرة الفعاليات الثقافية والإعلام بالمؤسسة، إلى «مد جسور التواصل الثقافي العربي والعالمي، وإيجاد مناخات للحوار الثقافي الحضاري. وشاركت المؤسسة في المعرض بعدد من الإصدارات الجديدة، مثل كتاب «حكمة سام» للدكتور دانيال جوتليب، ترجمه المترجم حمدان الحجري، وهو أول نتاجات مشروع مختبر الترجمة ببيت الزبير. وكتاب «من مطلع الشمس»، وهو حصاد ندوة نقدية حول الشعر العُماني، أقامتها المؤسسة في المملكة المغربية.
ومن الفعاليات المهمة التي شهدها المعرض تدشين كتاب «عمان بعيون عربية» الذي شارك فيه ٢٥ باحثًا من الوطن العربي، وصدر عن دار روافد للطباعة والنشر، ورعا حفل تدشين الكتاب حاتم بن حمد الطائي عضو مجلس الدولة رئيس تحرير جريدة الرؤية، الذي أكد أهمية الكتاب والشهادات التي تضمنها وتناولت رؤية كتابها لما تشهده سلطنة عمان من نهضة.
وشهد المعرض تكريم جمعية التصوير الضوئي للفائزين في مسابقة اقرأ الدولية للتصوير الضوئي، التي تقام للعام الثالث برعاية الاتحاد الدولي لفن التصوير الضوئي (الفياب) ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، ووزارة الإعلام، ووزارة شؤون الفنون، واللجنة الرئيسية المنظمة لمعرض مسقط الدولي للكتاب. وقام الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام رئيس اللجنة الرئيسية المنظمة للمعرض، بتكريم عدد من الفنانين الفوتوغرافيين، من بينهم فنانون سعوديون.
عمان عبر الزمان
ومن الأحداث البارزة صدور موسوعة «عمان عبر الزمان»، التي تتكون من خمسة أجزاء. وتتناول الموسوعة، التي صدرت عن مكتب مستشار جلالة السلطان للشؤون الثقافية، تاريخ عمان من عصور ما قبل التاريخ إلى آخر يوم في حياة فقيد عُمان والأمة السلطان قابوس الذي خُصص لعهده مجلد كامل. ودشن النادي الثقافي بجناحه في المعرض أربعة إصدارات: كتاب الأدب الساخر للمحرر يعقوب الخنبشي، وكتاب الشيخ سعيد بن جويد الصوري حياته وإنتاجه الفكري للمحرر حمود بن حمد الغيلاني، وكتاب النشاط البحري والثقافة المجتمعية في ولاية صحم قبل عام 1970 للمؤلف جمعة بن خميس الشيدي، وكتاب التنافس البريطاني الفرنسي في عمان المترجم للغة الإنجليزية للمؤلف
الدكتور محمد الشعيلي.
وقال الدكتور عبدالمنعم بن منصور الحسني وزير الإعلام في كلمة له خلال حفل ختام المعرض: إن الدورة الـ25 من معرض مسقط الدولي للكتاب كانت دورة استثنائية، لكونها مناسبة للاحتفال باليوبيل الفضي للمعرض. الوزير، الذي كان حاضرًا جُلَّ الندوات المهمة في المعرض وبدا شخصًا متواضعًا من دون تكلُّف، حتى إنه نهض من مقعده في الصف الأول ليقدم زجاجة ماء بنفسه، لأحد المشاركين في إحدى الندوات، حين شعر الوزير بحاجة المحاضر للماء بينما كان يقرأ ورقته، هذه الوزير أضاف، أن ولاية صور ستكون ضيف شرف الدورة المقبلة للمعرض.
المنشورات ذات الصلة
معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم فعالياته كتب جديدة وندوات وحوارات وورش جذبت جمهورًا واسعًا
قد لا تتوافر أرقام دقيقة حول الأعداد الكبيرة التي ترددت على معرض الرياض الدولي للكتاب، ولا ما أنفقته هذه الأعداد من...
«زرقاء اليمامة» أوبرا تراجيدية… تنتصر للمرأة وتنفتح على المستقبل
لحظة بدت شديدة الطموح إلى مخاطبة العالم عبر أوبرا سعودية، تأخذ بأهم ما في الأوبرا العالمية من سمات جمالية ومواصفات...
“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا
فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي...
0 تعليق