كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل تجاوز محمد شحرور في اجتهاداته حدودَ الشريعة؟
يقوم مشروع الدكتور محمد شحرور (1938- 21 ديسمبر 2019م) على إعادة قراءة التراث الديني في الإسلام قراءة حضارية جديدة تضع هذا التراث، بكل حمولاته من النصوص المقدسة، في ضوء التحليل والتأويل الذي يؤنسن الظاهرة الدينية، ويعيد الاعتبار إلى عالمية الرسالة المحمدية ومكوناتها، وظروف تشكّلها وسياقاتها، وهو أمر أغفلته أغلب الدراسات التي تناولت هذا الموضوع.
وبدافع من المناهج الحديثة، وفي مقدمتها منهج التحليل اللغوي، متضافرًا مع اللسانيات والإبستمولوجيا، مضى شحرور في مشروعه النقديّ، ليصطدم مع ما يُعتبر، في العقل الديني السلفي، ثوابت ومسلّمات، لهذا جرت شيطنته، في حياته وفي أعقاب رحيله؛ لأنّ هذا العقل الديني المتزمّت لا يساوم على ذلك، ويعتبر أنّ من ينحو هذا المنحى هو بالضرورة فاسق وهادم للدين، وبالتالي هو خارج نطاق الشريعة وحدودها.
في كتابه التأسيسيّ الأول «الكتاب والقرآن»، وما تلاه: «الدولة والمجتمع»، «الإسلام والإيمان»، و«نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – اللباس»، و«تجفيف منابع الإرهاب»، و«القصص القرآني» بجزأيه الأول والثاني، و«السنّة الرسولية والسنّة النبوية»، و«الدين والسلطة»، و«أمّ الكتاب وتفصيلها»، وسواها من كتب ومساهمات تلفزيونية، عمل شحرور، كما يقول، على اختراق الكثير ممّا يسمّى الثوابت في المنظومة التراثية، وخاصّة في الفقه وأصوله التي وضعها أناس عاشوا في القرون الهجرية الأولى وهي، برأيه، لا تحمل أيّ قدسية؛ لأنها تمثل المنظومة القانونية للدولة التي نشأت في ظلها، وبذلك فهي متجاوزة زمانيًّا ومعرفيًّا. لهذا «نحن مقتنعون بأنّنا لن نتمكّن من تجديد الفقه والفكر الديني عامّة إذا لم يتم اختراق هذه الثوابت المتجاوزة معرفيًّا».
كما نظر شحرور في نظرية الحدود، وجعلها متماشية مع الروح الإنسانية ومع الإيقاع الحضاري؛ إذ يرى أنّ عالمية الرسالة المحمدية تظهر من خلال نظرية الحدود، كما تظهر كذلك من خلال القيم الإنسانية التي جاءت بها، والتي تعبّر عن المرجعية الأخلاقية العالمية؛ لأنها تضم القيم الإنسانية العالمية التي يتفق عليها جميع الناس، وتتماشى مع الفطرة الإنسانية وتمثل جوهر الدين الإسلامي وروحه. وقد تم التعبير عنها في التنزيل الحكيم بالمحرمات التي تم إغلاقها وحصرها وتعدادها وجعلها خاصة بالله دون سواه. فالتحريم شمولي وأبدي وغير ظرفي.
ويحصر المفكر السوري تلك المحرمات بأربعة عشر، وهي، كما يعرضها «الموقع الإلكتروني لمحمد شحرور»: أولًا-الشرك بالله. ثانيًا-عقوق الوالدين. ثالثًا -قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق. رابعًا -اقتراف الفواحش. خامسًا – قتل النفس. سادسًا-أكل مال اليتيم. سابعًا- الغش بالكيل والميزان. ثامنًا -شهادة الزور. تاسعًا -نقض العهد. عاشرًا-أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والاستقسام بالأزلام. أحد عشر- الإثم والبغي بغير حق. اثنا عشر- نكاح المحارم. ثلاثة عشر- الربا.
ويعتمد شحرور في اختياره هذه المحرمات، على مقاربة عقلية للنص القرآني ترى أنّ الأساس في الحياة هو الإباحة؛ لذا فإنّ «الوحيد صاحب الحق في التحريم هو الله فقط، ولكنّه أيضًا يأمر وينهى، والنبي كان يأمر وينهى، والناس كانوا وما زالوا يأمرون وينهَون؛ لأنّ هناك فرقًا شاسعًا بين التحريم والنهي. ويتّضح ذلك على أساس أنّ المحرّمات قد أُغلقت في كتاب الله وحُصرت فيه بـ14 محرّمًا لا أكثر ولا أقل، وبالتالي تصبح كل إفتاءات التحريم لا قيمة لها».
اجتهادات في تفصيل المحكم
وفي سياق الآراء السجالية لشحرور قوله: إنّ السُّنّة النبوية ليست مصدرًا للتشريع؛ لأنّ الرسول بشر، وإنّ القرآن وحده يحتوي على الحقيقة الإلهية المطلقة التي لا يمكن للبشر أن يفهموها إلا في سياقها النسبي. لذا فإنّ نواهي الرسول ظرفية؛ لأنها عبارة عن «اجتهادات في تفصيل المحكم كما جاء في الرسالة المحمّدية، وهي قابلة للنسخ لأنها اجتهادات إنسانية ظرفية وليست وحيًا، وكانت بمنزلة القانون المدني الذي سنّه لمجتمعه بناءً على اجتهاده الإنساني كقائد أعلى للمجتمع».
وهو يعتقد كذلك بأنّ «التنزيل الحكيم يضمّ بين دفّتيه نبوّة محمّد (ص) كنبي، ورسالته كرسول. وتنقسم آياته من هذه الزاوية قسمين: أولًا آيات النبوّة التي تشرح نواميس الكون وقوانينه وقوانين التاريخ وأحداث الرسالات والنبوّات (القصص)، وقد جاء في هذه الآيات ردود على أسئلة الفلسفة الكونية كالوجود الموضوعي ونظرية المعرفة الإنسانية، وهذه الآيات تحتمل التصديق والتكذيب. وثانيًا: آيات الرسالة التي تشرح الأحكام والأوامر والنواهي وتحتمل الطاعة والمعصية. وبناءً على ذلك فإنّ آيات النبوّة هي الآيات المتشابهات التي تخضع كلّها لثبات النصّ وحركيّة المحتوى، ويمكن إعادة قراءتها في ضوء تطوّر الأرضية المعرفية على مرّ العصور والدهور. أمّا آيات الرسالة فهي على قسمين: قسم منها ثابت النصّ والمحتوى وهو الآيات المحكمات (أمّ الكتاب) وهي آيات مغلقة لا اجتهاد فيها (ثبات النصّ والمحتوى)، ومن خلالها تظهر الحاكميّة الإلهيّة».
وفي نظر شحرور فإنّ أهمّ إصلاح ثقافي نحن بحاجة إليه هو تصحيح أركان الإسلام وأركان الإيمان بالتمييز بينهما؛ لأنّ أركان الإيمان وُضعت على أنها أركان الإسلام في منظومتنا التراثية، وهو ما أوقعنا في أزمة ثقافية وأخلاقية كبيرة جدًّا وعزلنا عن بقيّة العالم. لأننا نلحظ في الأركان التي وضعوها للإسلام غيابًا تامًّا للأخلاق والقيم العليا؛ بحيث جعلوا الإسلام دين تكليف، مع أنّه دين يتماشى مع الفطرة، على عكس الإيمان القائم على التكليف.
لقد نقض شحرور، فضلًا عن ذلك، مفهوم الجبرية، ووضع مفاهيم جديدة عن كيفية كتابة الله للأعمار والأرزاق والأعمال وأنها غير مكتوبة سلفًا. واعتمد المنهج اللغوي في تحديد معاني الألفاظ، والترادف في اللغة، كما حدد المعاني الدقيقة لمصطلحات الإسلام المهمة مثل «الكتاب» و«القرآن» التي فُهم من سياق الوحي أنهما مترادفان بعضهما للآخر، وبالتالي خضع تفسير القرآن لهذا المنهج. وتوصل شحرور، في غضون ذلك، إلى أنّ الفهم السائد للإسلام يتعارض بوضوح مع المضمون الحقيقي للوحي الإلهي.
كما تعددت آراؤه «الصادمة» بخصوص الجهاد وشروطه، والعذاب، والقوامة، وتعدد الزوجات، والزنا، وشرب الخمر، وأثار بذلك جدلًا واسعًا من خلال آرائه التي رجّت الساكن في العقل الديني. في كتابه «نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: أسس تشريع الأحوال الشخصية» يقدم شحرور قراءة في بحث الإرث وفق رؤية مختلفة عما كانت عليه، بعد تحديد مفهومَي «الكتاب» و«الفريضة»، إضافة إلى تفصيل موضوع الزواج، وملك اليمين والطلاق والأم العازبة.
ويقوم شحرور بكل هذه الاختراقات، باستعمال أرضية معرفية متطوّرة لفهم نصوص التنزيل الحكيم، كما يقول، وإعادة تأسيس فقه إسلامي معاصر يقدّم رؤية مغايرة لعملية التشريع التي يجب أن تتماشى مع التطوّر المعرفي لأيّ مجتمع. وهو يستدرك في أغلب كتاباته، ليذكّر بأنّ «قراءتنا المعاصرة للتنزيل الحكيم ليست القراءة الأخيرة له؛ لأنّ القول بأنّها الأخيرة يوقعنا فيما وقع فيه السلف والسلفيون والآباء والآبائيون؛ لأنّ من يدّعي فهم كتاب الله ككلّ من أوّله إلى آخره فهمًا مطلقًا، إنّما يدّعي شراكة الله في المعرفة».
إنّ النصّ اللغويّ المنطوق للتنزيل الحكيم هو الشكل الثابت فيه، الذي لا يخضع للصيرورة ولا للسيرورة، كما يؤكد شحرور، وبالتالي فلا أحد يملك «الإدراك الكلّي له في كليّاته وجزئيّاته…». الإنسان، في هذا السياق، يقرأ التنزيل الحكيم ضمن مستوى أدواته المعرفية ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإشكالياته المعرفية، فيجد فيه أشياء لم يجدها غيره، ويفهم منه أشياء لم يفهمها غيره، «وهذا يثبت أنّ التنزيل يحمل صفة الحياة، وأنّه كينونة في ذاته فقط لكنّه سيرورة وصيرورة لغيره، وهذا ما نعنيه دائمًا حين نتحدّث عن ثبات النص وحركية المحتوى والجدل بين النص والمحتوى».
ويحمل التنزيل الحكيم، كما اجتهد شحرور، الخاصّيتين التاليتين:
أ- الوحي لا يناقض العقل. ب- الوحي لا يناقض الواقع.
في ضوء ما تقدّم، يمكن النظر إلى شحرور باعتباره داعية إسلاميًّا حداثيًّا أكثر من كونه مفكرًا منشغلًا بتصوّراته التجريدية، مختبئًا وراء لغته واصطلاحاته المغلقة. إنه مفسّر خلاق للنص القرآني، لا يحيد عن تخومه ولو بمقدار شعرة، فهو يتحرك في إطار الدائرة الإيمانية، وليس أدلّ على ذلك من دفاعه، الذي خالف فيه آراء القدماء والمحدثين، فيما خص فكرة «الناسخ والمنسوخ» التي لا يتوقف عندها باعتبارها واحدة من مشكلات تأويل النص الديني، فصاحب التنزيل، بحسب شحرور، «هو وحده صاحب الحق في النسخ الإلهي بالحذف والتعديل والإضافة في نصوص كتابه الحكيم، ومقتنعون بأنّ ما وصلنا هو النسخة النهائية لكتابه بتمام نصوصها، وعلى ذلك لا يمكن أن تحتوي بين صفحاتها نصوصًا ينسخ بعضها بعضًا لأنّ ذلك يصبح ضربًا من العبث، بأن يرسل – عزّ وجل – كتابًا للإنسانية جمعاء وصالحًا ليوم الدين ثمّ يشتمل على نصوص يناقض بعضها بعضًا وينسخ بعضها بعضًا».
شحرور عالم مجدّد ومجتهد، وسعى طوال مشروعه إلى الخروج من الصندوق، وبالتالي اختراق ثقافة القطيع التي يسيّرها كما قال العقل القياسي، وليس العقل التحليلي النقدي. ولعل فضيلته الكبرى أنه أعاد للاجتهاد حيويته وشجاعته، فأصاب كثيرًا في قضية قراءة القرآن في سياقه التاريخي، وأماط اللثام عن قضايا يخيّل للمرء أنها مسلّمات ومحظورات لا يجوز الاقتراب منها، لكنه اقترب منها واقتحمها، وظل مع ذلك في إطار المنظومة الدينية؛ فهو لم يكفر ولم يشك في وجود الله، وبقي صاحب رؤية هدفها كما عبّر، مرارًا وتكرارًا، تقديم فهم جديد للدين يجعله ينخرط في السياق الحضاري الذي يخدم عالمية الرسالة المحمدية.
ربما استخدم شحرور لغة «منفّرة» و«صادمة» أحيانًا وهو يتحدث عن الصحابة، لكنّ هدفه، بالتأكيد، ليس الإساءة وإنما تحطيم القداسة الفائضة عن الرموز الدينية، وإعادة إنتاجها من جديد، وفي سياق تاريخي مختلف يتماشى مع إيقاع العصر الراهن.
محمد شحرور: من «الملة» إلى «البروتستانتينية» أو العكس
مالك عيطة – باحث سوري
«احذروا الطيور الثلاثة: الشحرور! الحبش! والحسون!».
(مقولة/مثل شعبي دمشقي انتقائي)
أخذ محمد شحرور الجهد على نفسه منذ حوالي نصف قرن من الزمن البحث في إعادة التأويل للتنزيل الحكيم. حيث أكد في معرض رده المفصل في كتابه «الكتاب والقرآن» على كل المشككين فيه أنّ البحث المعجمي وأسلوبه في استدلال ترادف المعاني – أي دلالات المفردات المتشابهة في المعنى- غير كافٍ للحصول على تفسير أو شكل من أشكال التأويل «الصحيح» للنص القرآني؛ لأن معاني الكلمات والمفردات والمفاهيم التي يستعملها الفقهاء القدماء/الجدد هي «ثابتة» بمعنى جامدة لا تقبل إضافة دلالات جديدة. كما أنّ المفردات القرآنية تحمل دلالات معانٍ ومفاهيم لا تتناسب بالضرورة مع نظيرتها الأخرى من «المفردة» المتشابهة في الدلالة والمستمدة مثلًا من التراث الشعري أو من غيره لذلك لا تستطيع المفردات الشعرية، على سبيل المثال لا الحصر، أن تصف صيرورة الحدث القرآني «المستمر» حسب شرح الدكتور الشحرور.
بالنسبة لصاحب مشروع «القراءة المعاصرة»، فإنّ منهج الترادف القائم في أدبيات وتفاسير «الأئمة» ليس سوى أداة أو برنامج لغوي يسعى للسيطرة على تفاسير ودلالات أمهات كتب نصوص التراث وذلك عبر اعتمادهم –أي الفقهاء- على إدراكات العالم «المرحلية» فقط والنابعة من الأشياء الموجودة والمفاهيم المجردة في مرحلة القرون الأولى التي تلت الإسلام. أي أنها قيود سلطة «النحو» و«الفقه» على استقلالية «النص» باسم الوفاء للأصول والتقاليد. إذًا هل كان يدعو إلى شكل من أشكال القطيعة المعرفية مع كل مضامين ومحتويات التراث؟
في ثباتية النص وتحرك المعنى ابتعد شحرور بدوره من «بنيوية» نصر حامد أبو زيد و«تفكيكية» محمد أركون ونحى جانبًا الموروثات التأويلية عبر قطيعته المعرفية مع «الفقهاء» وأصحاب الاجتهاد التقليدي ليخلق من جديد سجالًا ومشكلًا في نظر جمهور «الملة». اتهم من خلاله بأنه يقوم بطرح خلخلة إبستمولوجية واضحة ومكشوفة تضطرب فيها مشاهد الثوابت والمسلمات كما خارطة المفاهيم عبر استخدام أنماط استدلال جديدة وأنظمة براهين غير معتادة في الموروث الفكري الإسلامي. لتعويض الفراغ الإبستمولوجي لجأ شحرور إلى الاعتماد على براغماتية «المعنى» ودلل على تقاطع منهجية لغوية جديدة مع نظام معرفي «حديث» في قراءته للنص القرآني.
ما منهجيته المعرفية إذًا لتصور الموجود ولكشف المحجوب؟
ما أراده شحرور هو توسيع المعرفة الدلالية لينتقل أصحاب الأنفس المتطلعة إلى ما سماه مستوى «التجريد الكامل» وهو المستوى القادر على المشاركة في «لحظة الإبداع» حسب حسن حنفي والاندماج في المشهد الكسموبوليطيقي المأمول بين الشعوب.
كان يبحث عن صيرورة «دينامية» مفتوحة، حسب لغة بيرس وأمبرتو إيكو، منفتحة على دلالات «سيميوزية» (أصغر وحدة دلالية) أخرى، لكن الفرق أن اشتغاله الدينامي للدلالة والمعنى كانا يخضعان لمركز غير منظم.
لم يكن المرحوم شحرور كما يظن البعض، حتى لو كانت هذه التشكيكات والمقولات على هيئة تهمة، أو حتى كما ظن هو نفسه في بعض المواقف ونكرها في أحيان أخرى كثيرة، أنه يستعين بالمنهج العلمي «الوضعي» أو «الدقيق» فقط لاستحواذه على كل ما هو خارجي عن اللغة. فالتجارب التأويلية من شلايرماخر إلى ديلتاي للنصوص المقدسة تقول لنا غير ذلك.
بل إن المرجع و«الموسوعة البحثية» لديه كانتا في بعض المواقف «السجالية» تعتمد على شكل من أشكال تصور مثالي متخيل لشخصية المسلم المحدث بنسخته الكسموبوليطيقية (مواطنة العالم).
في هذه المنهجية الجديدة الشحرورية ظهر شطط مفاهيمي فكانت غلبة «الحداثة» على الإبستمولوجي. كل ما يمكن استنتاجه بعد الاطلاع على مشروعه أنه كان ينتمي إلى تيار الاستمرارية التاريخية التي كانت تسعى لاحتواء الماضي وتنشيط سرديتها المقدسة.
من «الملة» إلى «البروتستانتينية»؟ أو العكس؟
إنّ فعل تنشيط السردية المقدسة هو فعل سياسي قبل أن يكون ميتافيزيقيًّا سوسيولوجيًّا/ اجتماعيًّا قبل أن يتدارك ويصبح على شكل صيغة تاريخية وأنثروبولوجية مطلقة. أي هي لحظة التفكر من «الداروينية» إلى نشوء تيار الاستمرارية التاريخية، إذا شئتم؟
لو طُرِحَ السؤالان التاليان في الماضي يومًا على أمبرتو إيكو قبل وفاته وعلى فرض متخيل أنه يجيد اللغة العربية ولديه اطلاع كافٍ على الثقافة العربية:
تحت أي سقف رمزي تاريخاني يمكن أن نجمع بين كل من صادق جلال العظم والشيخ القرضاوي؟ أو ما درجة الاستفادة المنهجية من القوة التنشيطية للسردية المقدسة التي ستسفر عنها مناظرة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مع الأكاديمي الدكتور طيب تيزيني؟
الجواب سيكون: بالطبع لا شيء. يا صاح! إنه سجال وليس حوارًا!
إنّ أصحاب الفكر المللي والمدافعين عن أخطار مصالح «الملة» قد طمست معالمهم وهم يصنعون الضجيج الهووي النرجسي في كل مناسبة جدلية وسجالية يكون فيها صلب حديث الموضوع يتناول «غير المألوف». كيف الخروج من مأزق اللاحوار؟ لقد أضافت لغة وأسلوب الخطاب السياسي العالمي المعاصر (نقصد به الخطاب الترويجي للمشروعات الكونية) وفي ظل تدهور الأوضاع العربية؛ حالة فريدة من الشعور الهووي المتشنج مع فكر «دعاوي استقلالي» حسب العروي. تشنج مزمن تعود جذوره منذ السجال حول الفكر العقلاني الذي دار بين الغزالي وابن رشد وازدادت أصولية وعنادًا في يومنا هذا أي في عصر انتصار التأويل «التقني» حسب هيدغر.
إنّ محمد شحرور أو كما يسمى أيضًا مارتن لوثر الإسلامي كان في حقيقة الأمر لوثريًّا وداروينيًّا وهيغليًّا وشتراويسيًّا (نسبة لكلود ليفي شتراوس) بشكل مكثف ومن دون أن يعود ويتوقف أو يراجع أي مفصل نقدي. كان يريد أن يتجاوز بشكل متعجل القيود الهووية التي أنشأتها أجهزة الدولة /الوطنية الحديثة المتعالية على «الملة». كان يريد وصفة هووية دون الرجوع إلى أي وصاية لاهوتية /دينية من الأزهر أو قم. كان يخاطب بعض عوام «الملة»، أي هذا الجيل المحدث من دون حداثة حسب تعبير فتحي المسكيني، ويريد منهم تفعيل سرديتهم المقدسة للوصول إلى حداثة لها «موضع روحي» من ظاهرة الانتماء الكوني وهي ظاهرة انتماء خاصة بالإنسان «الحديث»: أي المسلم الحديث الكسموبوليطيقي.
المنشورات ذات الصلة
بعد سنوات من رحيله… زيارة جديدة لإبراهيم أصلان
ربما كان الدافع الأساسي لكتابة السطور التالية هو اكتشافي لنفاد غالبية كتب الراحل الكبير إبراهيم أصلان 1935– 2012م،...
ابتكر نمطًا جديدًا في الشعر الأميركي ما بعد الحرب فرانك أوهارا: جماليات الأشياء الصغيرة
يصنف النقاد الشاعر الأميركي فرانك أوهارا ضمن «مدرسة نيويورك»، وهي جماعة من الشعراء والرسامين والراقصين والموسيقيين...
القدس مدينته وروحه وحياته محمود شقير.. ثلاثة وثمانون عامًا ولم يسأمْ تكاليف الأدب والثقافة
يدخل محمود شقير الكاتب والروائي الفلسطيني المعروف عامه الثالث والثمانين وهو بكامل بهائه الأدبي وعطائه الثقافي. هو...
0 تعليق