المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

المترجم الشخصي لستالين يروي أسرار عمله في الكرملين

«ستالين الطيب» رواية لكاتب روسي تظهر «الدكتاتور» يتمتع بجاذبية هائلة وتأثير مغناطيسي

بواسطة | مارس 1, 2020 | ثقافات

في الوقت الذي يتعرض فيه الكاتب الروسي فيكتور إروفييف إلى نقد لاذع من النقّاد والكتّاب في بلاده، لكونه كاتبًا لا يعترف بالتابوهات في الأدب، ويعدون ما ينشره من أعمال سردية، نثرًا مفتعلًا ومصممًا وفق وصفات فنية وأيديولوجية مسبقة. ويسعى جاهدًا لتسويق نفسه بشتى الوسائل. في هذا الوقت تحديدًا، تتسع شهرة الكاتب في الغرب يومًا بعد آخر. ويمكن تفسير هذا التناقض، أن إروفييف منذ خطواته الأولى في الأدب دأب على تناول موضوعات مثيرة وساخنة، على نحو يتفق والأساطير الغربية عن الواقع الروسي. ولا يخلو أي كتاب جديد له من مشاهد إيروسية صادمة تثير استياء وسخرية النقاد الروس، ويعزز الرأي القائل إن أعمال إروفييف، لا تمت إلى التقاليد الأدبية الروسية بصلة، وإن كل ما يكتبه هو لغرض التصدير إلى الخارج.

ولد فيكتور إروفييف في موسكو عام 1947م. وكان والده فلاديمير إروفييف ( 1920-2011م) مترجمًا للغة الفرنسية في مكتب سكرتارية وزير الخارجية فيتشيسلاف مولوتوف، ومن ثم مترجمًا شخصيًّا لستالين، قبل أن يشغل في السنوات اللاحقة وظائف دبلوماسية رفيعة في البعثات السوفييتية، سواء في فرنسا أو السنغال أو النمسا. وقد عاش المؤلف أربع سنوات في باريس عندما كان والده مستشارًا للسفارة السوفييتية في فرنسا بين عامي 1955، 1959م. لكن الصبي لم يكن يريد أن يسير على خطى والده، واختار دراسة الأدب. حيث تخرج في كلية اللغة والأدب بجامعة موسكو عام 1970م، ثم نال شهادة الدكتوراه عام 1975م من معهد الأدب العالمي بموسكو عن أطروحته «دوستويفسكي والوجودية الفرنسية». وبدأ حياته الأدبية بنشر مقال عن المركيز دي ساد في مجلة «قضايا الأدب» المرموقة التي كانت من أهم المجلات الأدبية
في العهد السوفييتي.

يعد عام 1979م نقطة تحول في مسيرة إروفييف الأدبية ومصير والده؛ ففي أوائل ذلك العام بادر مع فريق من مجايليه الأدباء الشبان، إلى اصدار نشرة أدبية سرية غير دورية حملت اسم «ميتروبول»، والتي أسهم فيها عشرات الأدباء الروس المنشقين ومن ضمنهم إروفييف نفسه. مما أثار غضب السلطات السوفييتية، وأدى إلى فصله من اتحاد الكتّاب السوفييت، واستدعاء والده فلاديمير إروفييف، الذي كان في هذا الوقت ممثلًا لبلاده بمرتبة سفير في منظمة الطاقة الذرية في فيينا. وقد طلبت السلطات من إروفييف الأب أن يحث ابنه فيكتور على إعلان توبته على صفحات «الجريدة الأدبية» لسان حال اتحاد الكتّاب السوفييت، ولكنه رفض ذلك، فتم نقله إلى وظيفة أدنى وشكلية في مقر وزارة الخارجية السوفييتية.

كتب إروفييف خلال أربعة عقود من مسيرته الأدبية (18) رواية ومجموعة قصصية وعشرات المقالات الأدبية والنقدية. ومن أشهر أعماله رواية «الجمال الروسي» التي نشرت ترجمتها الفرنسية في باريس أولًا عام 1989م قبل نشر الأصل الروسي في موسكو عام 1990م. وحظيت الرواية برواج كبير في الدول الأوربية وترجمت إلى العديد من اللغات الأجنبية. وهي رواية زاخرة بالبهارات الإيروتيكية، وكتبت وفق آخر صيحات «ما بعد الحداثة».

رواية «ستالين الطيب»

يلجأ إروفييف في كثير من الأحيان إلى نشر أعماله في الخارج قبل نشرها في روسيا. فقد نشرت الترجمة الألمانية لرواية «ستالين الطيب» في برلين عام 2004م، وعرضت في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بحضور المؤلف نفسه. وأدى ذلك إلى تعزيز الاعتقاد السائد عنه في بلاده ككاتب يكتب حصريًّا للتصدير. وقد صاحب نشر الرواية في موسكو عام 2006م حملة دعائية كبرى نظمتها دار النشر في وسائل الإعلام المختلفة، وزعمت أن هذه الرواية صنفت ضمن أكثر الكتب مبيعًا في العالم، وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة أجنبية، ولكن عدد النسخ المطبوعة منها في روسيا كان خمسة آلاف نسخة فقط، وهو رقم متواضع بالقياس إلى الروايات الأكثر رواجًا في روسيا، التي يصل عدد النسخ المطبوعة من كل منها إلى مئة ألف نسخة أو أكثر.

عنوان الرواية لا يتطابق مع مضمونها، الذي يتألف من موضوعين شبه مستقلين: أولهما السيرة الذاتية المتخيلة للمؤلف، وسيرة والديه وعلاقتهما بالناس المحيطين بهما، والحياة في فرنسا، وأسلوب عمل الدبلوماسيين السوفييت، ومغامراتهم المخابراتية. وسرد حكاية نشرة «ميتروبول» التي يدعي المؤلف أنها أزاحت جانبًا الأدب السوفييتي، والضرر الفادح الذي أصاب والده من جراء تحارب الابن الأدبية. وكل هذا يحتل الجانب الأكبر من الرواية. وثانيهما: شخصية ستالين الكاريزمية من وجهة نظر مترجمه الشخصي. وقد جرى دمج الموضوعين في سياق السرد.

اتهم النقاد الروس المؤلف بتقليد رواية الكاتب الألماني غونتر غراس «مسار السلطعون» التي جمع فيها غراس بين قصة السفينة الألمانية الغارقة فيلهلم غوستلوف، مع قصة الفاشية الحديثة، حيث تبين أن البطل الضائع هو ابن الراوي نفسه.

رواية أم مذكرات؟

اختلف النقاد في تحديد الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه رواية «ستالين الطيب». حيث يرى بعضهم أنها رواية استخدم الكاتب فيها تقنية «التخييل الذاتي» التي تقوم على مزج الحقيقة بالخيال. وهذا ما اعترف به المؤلف نفسه في مقابلة صحافية أجريت معه عام 2016م. ويرى بعضهم الآخر أنها أشبه بمذكرات شخصية، وأن الكاتب بالغ كثيرًا في تضخيم دور والده في السياسة السوفييتية، وأفرط في كيل المديح لنمط الحياة الغربية.

إن ما يهمنا في رواية «ستالين الطيب» هو شخصية ستالين من وجهة نظر مترجمه الشخصي. وقد قمنا بمقارنة أحداث الرواية بما ذكره والده في مذكراته ومقابلاته الصحافية، عن حوار ستالين مع ضيوفه الفرنسيين، وتبين لنا أن معظم ما ذكره الكاتب عن ستالين قريب جدًّا مما جاء على لسان والده في مناسبات مختلفة. شخصيات الرواية هم أناس حقيقيون بأسمائهم الصريحة في الحياة، على رغم أن المؤلف كتب ملحوظة يقول فيها: «إن جميع شخصيات هذه الرواية خيالية، بما فيهم المؤلف نفسه».

يصف الراوي العهد السوفييتي من خلال سيرته: «في النهاية قتلت أبي. السهم الذهبي الوحيد على القرص الأزرق لبرج جامعة موسكو في تلال لينين، يشير إلى أربعين درجة تحت الصفر. نظام بدء التشغيل في السيارات لا يعمل. الطيور تخشى الطيران. المدينة جمدت مثل الهلام المحشو بالناس. في الصباح عندما نظرت إلى نفسي في المرآة، اكتشفت أن الشعر على صدغيّ قد شاب خلال ليلة واحدة.. كنت في الثانية والثلاثين من عمري. وكان هذا أبرد يناير في حياتي». هكذا يستهل إروفييف روايته. القتل هنا لم يكن جسديًّا بالطبع، بل سياسيًّا بسبب مشاركة الابن في إصدار نشرة «ميتروبول» السرية.

«صحيح أن والدي لا يزال حيًّا، حتى إنه يلعب التنس في عطلات نهاية الأسبوع. ورغم شيخوخته، إلا أنه يقص العشب في حديقة منزلنا الريفي بنفسه بالجزازة الكهربائية. وهو لا يزال يقود السيارة من دون نظارته، الأمر الذي يجعل والدتي في حالة من اليأس، والمشاة في رعب. أنا قتلت أبي سياسيًّا، ووفقًا لقوانين بلدي كان هذا موتًا حقيقيًّا».

كان المجتمع السوفييتي يتألف من طبقة سياسية مرفهة تنعم بامتيازات كثيرة، في حين كانت الأغلبية العظمى من الشعب تعاني شظف العيش. وكان والد الكاتب من أولئك المرفهين، الذين تجري الستالينية في دمائهم، ولا يعيرون اهتمامًا بأحوال الشعب العامل. وكان الروس يسمّون هذه الطبقة بـ«النومينكلاتورا».

يقول الراوي: «ولدت في سبتمبر 1947م. كانت طفولتي الستالينية سعيدة. كنا نعيش في جنة نظيفة صافية، وكانت حياتنا حافلة بالأعياد والهدايا وبهذا المعنى أنا مستعد للتنافس مع نابوكوف الذي كان ينتمي إلى عائلة أرستقراطية، فأنا أيضًا أنتمي إلى النومينكلاتورا».

«أنا لا أفهم كيف يمكن العمل طوال اليوم، سنة بعد أخرى، مقابل أجور ضئيلة مع وقت لتناول طعام الغداء، وتحمّل صيحات الرؤساء، وخشونة سلوك العاملين، وبيئة العمل القاتمة».

صقر ستاليني

يرسم الراوي صورة مشرقة وجذابة لأبيه، الذي واجه العديد من المواقف الحرجة أو الخطرة في حياته، منها مثلاً أنه أصيب بطلقة في ساقه خلال الحرب العالمية الثانية وظهرت عليها أعراض الغرغرينا، وقرر الطبيب الجراح بتر الساق، ولكنه رفض ذلك، ثمّ شفي بفضل طبيب آخر عالجه بمرهم خاص. وفي مدة لاحقة حين استُدعيَ من فيينا إلى موسكو رفض الأب اقتراح السلطات بحث ابنه على كتابة خطاب توبة ونشره في الجريدة الأدبية يعلن فيها ندمه على الكتابة في نشرة «الميتروبول».

ويقول الراوي: «كان أبي من أكثر الدبلوماسيين السوفييت ذكاءً في عصره، ويتميّز بعقل عملي راجح، وبالتفاني في أداء عمله بإتقان، ومحبًّا للمزاح. وكانت نكاته مثل لعب أشعة الشمس في خضرة الأشجار، وكان صقرًا ستالينيًّا يؤمن بالشيوعية إيمانا عميقًا، وبمزايا النظام السوفييتي مقارنة بالرأسمالية، ويحلم بثورة عالمية. وقد شارك في صياغة وتطوير المفهوم السوفييتي للحرب الباردة. وكانت وظيفة أمي كمترجمة في وزارة الخارجية مثيرة للاهتمام، فقد كان عليها أن تقرأ الصحف والمجلات الأميركية، التي لو قرأها مواطن سوفييتي عادي لكان مصيره الموت. كانت تقرأ تلك الصحف والمجلات باحثة عن الافتراءات على الاتحاد السوفييتي وتلخيصها ومن ثم تقديمها إلى رئيس قسم الإعلام في الوزارة. وكانت تلك الافتراءات تنم عن أن الغرب لم يعد يثق بحليفه العسكري خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي باريس كانت أمي مرغمة على لعب دور موظف دبلوماسي رغم أنها في قرارة نفسها تحلم بأن تتفرغ لترجمة الأعمال الأدبية من الإنجليزية إلى الروسية. وقد استطاعت بسهولة التكيف مع الحياة الباريسية. أما أبي فقد استطاع استقطاب كبار الفنانين والأدباء الفرنسيين اليساريين، وكسب ودهم وتأييدهم للاتحاد السوفييتي، وعقد علاقات صداقة متينة مع العديد من أشهر الأدباء الفرنسيين، ومع بابلو بيكاسو، رغم أنه كان لا يميل إلى قراءة الكتب، وإن كان يزور المعارض الفنية أحيانًا بحكم موقعه الوظيفي كمستشار للشؤون الثقافية. أنا أعرف والدي، الذي كان يسعى إلى أن يكون ستالينيًّا جيدًا».

ويستطرد الراوي قائلًا: «لقد نشأت وفهمت شيئًا، وهو أن ستالين بالنسبة إلى الغرب ومعظم المثقفين الروس شيء، ولملايين الروس – الذين لا يؤمنون بستالين السيئ – شيء آخر. معظم الشعب الروسي لا يصدق أن ستالين قد قتل أو اضطهد أحدًا. الشعب رسم صورة ستالين الطيب، منقذ روسيا، وأبًا لأمة عظيمة. والدي كان مع ما يؤمن به الشعب الروسي، ويقول لا تسيئوا إلى ستالين».

أول لقاء بين ستالين ومترجمه الشخصي

في عام 1946م طرد ستالين مترجمه الشخصي للغة الفرنسية، الذي كان بطيء الفهم، كثير السؤال عن فحوى كلام المتحدثين، وقال له ستالين: «أنا أفهم الفرنسية أفضل منك»، وطلب من مولوتوف أن يبعث إليه بمترجم آخر، فاختار شابًّا اسمه فلاديمير إروفييف، وحذره من توجيه أي سؤال إلى ستالين أو أحد ضيوفه.

استقبل ستالين مترجمه الجديد بدفء، ثم سأله:

– أين درست الفرنسية؟

كان ستالين – كما يقول الراوي- يتكلم دائمًا بصوت خافت ولا يخلو حديثه باللغة الروسية من أخطاء نحوية، وتوحي ملامحه ولكنته على الفور بأنه رجل قوقازي.

لم يسمع المترجم الجديد سؤال ستالين وأجاب:

– في جامعة لينينغراد.

غرق ستالين في الضحك. وقال للمترجم:

– إذن أنت ولدت في الجامعة مباشرة!

كان ستالين لا يزال يضحك، عندما ظهر في عتبة الغرفة كل من بيريا وزير الأمن ومولوتوف وزير الخارجية. وقف الوزيران من دون أن يفهما شيئًا عما يحدث.. كيف يمكن لهذا الشاب النّاحل أن يجعل ستالين يضحك هكذا. لم يسمح أي منهما لنفسه أن يستفسر من ستالين عن سبب ضحكه. ولم يرَ الزعيم ضرورة لشرح ذلك لهما.

قال ستالين للمترجم بلهجة جادة:

– «لقد أضحكتني. والآن دعنا نعمل». وأضاف قائلًا: «اعملْ بهدوء ولا تقلق. أنا أتحدث بصوت خافت ولكن بوضوح. يمكنك أن تسأل مرة أخرى إذا لم تسمع جيدًا».

وأومأ إلى المترجم بالجلوس. ثمّ استدعى سكرتيره الشخصي وسأله:

– هل وصل الضيف. دعه يدخل.

دخل رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي، موريس توريز بخطوات سريعة. رحب ستالين بضيفه بحرارة. ودعاه للجلوس. وبدأ إروفييف يترجم. ولكنه كان يشعر أحيانًا أن بيريا يحدق فيه من تحت نظارته بعينيه الثعبانيتين، كما كان يسمّيهما ستالين.

قال ستالين لتوريز خلال هذا اللقاء: «لو لم يفتح الحلفاء الغربيون جبهة ثانية ضد هتلر لكنا قد وصلنا إلى فرنسا، وكنا سنساعد رفاقنا الفرنسيين على إجراء التغيّرات اللازمة في بلادهم».

ترك ستالين انطباعًا جيدًا في نفس المترجم من أول لقاء بتواضعه وسحر شخصيته.

العمل ليلًا

كان من عادة ستالين العمل ليلًا حتى ساعات الفجر الأولى، والاتصال بالوزراء المعنيين، كلما أراد أن يستفسر عن أمر ما، قبل اتخاذ أي قرار بشأن هذه المسألة أو تلك، ويتصل هؤلاء الوزراء بدورهم بذوي العلاقة من مرؤوسيهم للحصول على المعلومات المطلوبة؛ لذا كانت دواوين الحكومة والحزب تعمل أيضًا بالتزامن مع ساعات عمل القائد.

يقول المترجم: «ذات يوم انتهى عملنا في وقت مبكر. في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فرجعت إلى البيت راضيًا، ودخلت الحمام كي أستحم، ولكن لم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى أخذت زوجتي تدق باب الحمام لتخبرني أنهم يريدونني في الكرملين على وجه السرعة. وقد أرسلوا سيارة لنقلي. غادرت الحمام برأس مبلل، وهرعت إلى الخارج. كانت سيارة ستالين الشخصية من طراز ليموزين بانتظاري. فانطلقنا نحو الكرملين. ووصلنا خلال دقائق معدودة. مررت بالحراس وصعدت مهرولًا إلى الطابق الثاني من مبنى الحكومة. اجتزت ممرًّا ضيقًا وطويلًا يؤدي إلى مكتب ستالين.

كان الممر مغسولًا للتو فانزلقت رجلي ووقعت، وجرح معصمي. تحاملت على نفسي ونهضت، ولففت مكان الإصابة بالمنديل. دخلت المكتب. وراء طاولة طويلة جلس وفدان وجهًا لوجه في صمت. وفد سوفييتي من أعضاء المكتب السياسي ووفد أجنبي. كان ستالين واقفًا في وسط الغرفة وهو يدخن الغليون. أومأ برأسه ردًّا على تحيتي، وأشار إليّ بالجلوس في المكان المخصص له على رأس الطاولة. وضعت دفتر الملاحظات على ركبتي لإخفاء معصمي المجروح. وورائي كان ستالين يذرع الغرفة جيئة وذهابًا بخطواته غير المسموعة، وهو يرتدي جزمة ناعمة.

فجأة صمت ستالين واقترب مني وأشار بغليونه إلى المنديل وسألني مرتابًا:

– ماذا جرى ليدك؟

– لا شيء. مجرد جرح بسيط – تمتمتُ على نحو غير واضح.

– مع ذلك أريد أن أعرف.

– وقعت وجرحت يدي بشكل طفيف.

– كيف سقطت وأين؟ في تلك اللحظة فتح الباب وجاء طبيب يحمل حقيبة يدوية يرافقه مساعدان ووراءهم سكرتير ستالين الشخصي بوسكربياشيف. كانوا في غاية القلق، ويبدو أن ستالين قد ضغط على زر جرس الطوارئ المثبت تحت الطاولة، فأسرعوا بالحضور. وقد ظنوا أن ستالين قد أصيب بمكروه. وعندما لاحظ ستالين النظرة الحائرة في عيني الطبيب، قال له بهدوء وهو يشير إليَّ:

– انظر ماذا حصل ليده.

هرع الطبيب نحوي وبمعاونة مساعديه سرعان ما غسل مكان الجرح وضمده.

ثم أمرهم ستالين قائلاً:

– والآن يمكنكم الذهاب.

كان الحاضرون يراقبون المشهد بصمت. وسرعان ما استؤنفت المحادثات بين الجانبين.

فيكتور إروفييف

كيف أفحم ستالين السفير الأميركي؟

شارك المترجم في محادثة بين ستالين وثلاثة سفراء غربيين في أوج أزمة برلين في مطلع عام 1948م عندما كان العالم على شفا الحرب. كان ستالين هادئًا، لم يكن أمامه على الطاولة أي أوراق، ولم يكن يدون أي ملاحظات.

كان الحديث يدور حول حق الدول الغربية الحليفة في إرسال قواتها إلى برلين. وقد اعتمد السفير الأميركي بيدل سميث – بصفته جنرالًا ورئيسًا سابقًا لأركان أيزنهاور – على حجج عسكرية لإثبات رأيه. وقال: إن الاتحاد السوفييتي يخلق صعوبات للدول الغربية في برلين، مما يعد انتهاكًا لمعاهدة التحالف، وإن القيادة الأميركية لم تعترض في ذلك الوقت على قيام القوات السوفييتية أولًا باحتلال برلين.

رد ستالين بلطف على كلام السفير الأميركي قائلًا:

– لم يكن لديكم الوقت الكافي لدخول برلين قبلنا.

كان ستالين يتذكر مسار عملية برلين يومًا بيوم. وقال: إن القوات السوفييتية قد عززت في ذلك الحين مواقعها على بعد (60) كم من برلين، في حين كانت القوات الأميركية على بعد (380) كم منها. وقد تمكنت قواتنا من اختراق دفاعات العدو الحصينة في مرتفعات زيلوفسكي، وشنت في اليوم الخامس من العملية هجومًا كاسحًا وتمكنت من السيطرة على برلين.

كان المستر سميث يصغي باهتمام بالغ إلى أقوال الزعيم السوفييتي. وخلص ستالين إلى القول: هذه هي الحقائق الموثقة. وإذا كنتم لا تصدقونني، دعونا نذهب إلى الأرشيف الخاص بالجيش الأحمر، وسوف أستعرض لكم خرائط هيئة الأركان العامة عن سير المعارك في ذلك الحين.

امتقع وجه السفير الأميركي وقال: لا داعي لذلك. أنا أصدقكم. شكرًا لكم.

ربح ستالين جولة من المفاوضات مع الحلفاء الغربيين. وقال مدافعًا عن وحدة ألمانيا:

– سنزيل نقاط السيطرة التي أقامتها قوتنا حول برلين. هذه مسألة فنية وعليكم العدول عن فكرة تقسيم ألمانيا.

وقال إروفييف الأب لابنه فيما بعد: إن حياد ألمانيا كانت بمنزلة كارثة للغرب».

معاملة ستالين لمرؤوسيه

أظهر ستالين محبته لمترجمه الشخصي ولأفراد سكرتارية مكتبه. ويقول الراوي نقلًا عن والده، إن ستالين كان يحرص على راحتهم. وقد رآه في منتجعه الصيفي في سوتشي، وهو يتفقد الغرف المخصصة لهم، ويفحص مدى جودة الأفرشة ونعومة الوسائد. وكان يغفر لهم أحيانًا بعض الهفوات غير المقصودة. حدث ذات مرة أن أفرط أحد أفراد حاشيته في شرب الفودكا بعد العشاء. وحينما أراد الذهاب إلى الغرفة المخصصة له تاه في ممرات القصر، ودخل إحدى الغرف وهو يظن أنها غرفته. جلس وراء الطاولة وفتح أحد الأدراج فرأى مجموعة من الغليونات وأدرك خطأه، وصحا من سكرته في الحال. فقد سمع وراءه صوت ستالين يسأله: «عن ماذا تبحث في طاولتي؟ اعتذر الرجل وغادر الغرفة مذعورًا. ثمّ ظل نهبًا للقلق عدة أيام. ولكن الحادث مرّ بسلام.

ويقول الراوي، إن والده كان يحب أن يتذكر المآدب التي كانت تقام في قصر الكرملين على شرف الضيوف الكبار. خلال إحدى المآدب كان ستالين – الذي كان يحمل رتبة جنراليسموس – جالسًا إلى مائدة الأكل بزيه العسكري الرسمي، وهو يتبادل أطراف الحديث مع ضيفه الأجنبي، عندما أراد أحد الندل إضافة قليل من الصلصة إلى طبقه، فارتجفت يد النادل ووقعت بضع قطرات منها على سترة ستالين. ساد الوجوم وجوه الحاضرين ونهض بيريا من مكانه، وجاء النادل الأقدم على وجه السرعة، وأخذ يمسح البقعة بقطعة قماش مبللة، فأوقفه ستالين بإشارة من يده. واستمرت المأدبة في أجواء طبيعية كأن شيئًا لم يحدث. اختفى النادل الشاب ولم يشاهده أحد بعد ذلك أبدًا.

أسلوب غريب لاختبار الولاء

اتبع ستالين أسلوبًا غريبًا في اختبار مدى ولاء كبار رجال الدولة له شخصيًّا، وذلك بزج زوجاتهم في السجن لأبسط الأسباب أو بتهم ملفقة. وكان يحدق في وجه زوج الضحية الجديدة في صباح اليوم التالي للاعتقال لمعرفة رد فعله وحالته النفسية. في عام 1949م ألقي القبض على زوجة مولوتوف (بولينا زمتشوزينا) بتهمة الصهيونية وتأييدها لفكرة منح شبه جزيرة القرم لليهود. وفي صباح اليوم التالي عندما استفسر مولوتوف منه عن سبب الاعتقال، قال له ستالين: «نحن لا نعتقل أحدًا من دون سبب».

وفي أكتوبر 1938م ألقي القبض على (كاترين لوربرغ) زوجة رئيس الدولة الأسمى ميخائيل كالينين بتهمة الانضمام إلى المعارضة اليمينية التروتسكية والتجسس. والحقيقة هي أن لوربرغ وصفت ستالين، في محادثة خاصة مع صديقتها، بأنه سادي وطاغية اضطهد ملايين الناس الأبرياء. وقد حكم على لوربرغ بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة. وقضت معظم سنوات محكوميتها في القيام بأشق الأعمال، قبل أن يقرر طبيب السجن نقلها إلى صنف «الأعمال الخفيفة» مما سمح لها بالحصول على عمل أخف وطأة وهو تنظيف الحمامات. ويقال إن كالينين طلب أكثر من مرة من ستالين العفو عن زوجته. وكان رد ستالين في كل مرة: «انتظر قليلًا، سنطلق سراحها عند انتهاء الحرب. كأن عمل لوربرغ في تنظيف الحمامات كان مهمًّا للانتصار في الحرب. وعندما أطلق ستالين سراحها عام 1945م عادت إلى بيتها في موسكو لتجد زوجها على فراش المرض وفي حالة يرثى لها.

ولم يقتصر اعتقال زوجات المسؤولين الكبار على كبار أعضاء المكتب السياسي، فقد ألقي القبض أيضًا على زوجة سكرتير ستالين الشخصي بوسكريباشيف. وحين توسل بوسكريباشيف إلى ستالين لإطلاق سراح زوجته رد الأخير: «سنجد لك زوجة أفضل!».

وفاة ستالين

وفي الخامس من مارس 1953م وقع حادث ارتجت له روسيا. مات ستالين. ولم يصدق الناس ذلك لأول وهلة، فقد أصبح جزءًا لا غنى عنه في الحياة بالنسبة إلى الناس السوفييت. وأصيبت البلاد بما يشبه الشلل التام، فقد اعتاد الناس على أن يكونوا دومًا في كنف ستالين، فأحسوا بالضياع والضلال بدونه.

ويقول الراوي: «أمي بكت مع صديقاتها على ستالين. وعندما سألت أبي لاحقًا عن شعوره يوم وفاة ستالين، أجاب بأنه كان مشغولًا بترتيبات تشييع الجنازة وإجراءات الدفن، ولم يكن لديه وقت للتفكير فيما حدث».

ستالين في مذكرات مترجمه الشخصي

كل ما ذكره الراوي عن شخصية ستالين سمعه شخصيًّا من أبيه – المترجم الشخصي لستالين – مع تحوير بسيط يتناسب مع سياق السرد. ومن أجل معرفة حقيقة أقوال ستالين كان لا بد من الرجوع إلى مذكرات المترجم ومقابلاته الصحافية في السنوات الأخيرة من حياته. ويقول في مقابلة صحافية معه عام 2002 م: « كان ستالين شخصية غامضة، ولم يكن يفصح قط عما يفكر فيه أو يريده، ويتمتع بجاذبية هائلة، وتأثير مغناطيسي حقيقي في الآخرين. كان حضوره طاغيًا. وكنت أحيانًا عندما أجلس في مكتبه الفارغ وظهري إلى الباب، أحس بجلدي عندما يدخل الغرفة، على رغم أنه كان يمشي بصمت بحذائه الناعم. وكل من قابل ستالين وقع تحت تأثير سحره الشخصي. ويضيف قائلًا: «في كل عصر مفصلي في التأريخ يظهر في قمة السلطة شخصيات قوية ومؤثرة. وقد كشفت الحرب العالمية الثانية عن شخصيات كاريزمية مثل جوزيف ستالين، ووينستون تشرشل، وشارل ديغول. ولو ظهر هؤلاء في عصر آخر، لكانوا أقل تأثيرًا في مجرى الأحداث. كان تشرشل من ألد أعداء الشيوعية ولكنه كان يخضع أحيانًا لسحر شخصية ستالين كما يقول المترجم نقلًا عن مولوتوف الذي كان يحضر مؤتمر القمة للقادة الكبار الثلاثة ( روزفلت، وتشرشل، وستالين ) خلال الحرب ضد ألمانيا النازية.

في عام 1956م عندما كان المترجم مستشارًا ثقافيًّا للسفارة السوفييتية في باريس، قابل بمعية السفير فينوغرادوف، الرئيس الفرنسي شارل ديغول. وتحدث الرئيس الفرنسي عن علاقات بلاده مع الاتحاد السوفييتي، وثمن غاليًا الدور الفعّال الذي لعبه ستالين في الانتصار على النازية. قال فينوغرادوف: إن ستالين قاد الجيش الأحمر إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، ولكنه ارتكب أخطاءً جسيمة دفع الشعب الروسي ثمنًا غاليًا لها.

ديغول الذي كان معجبًا بستالين ويكن له احترامًا عميقًا، رد على السفير بالقول: «الشخص الصغير يرتكب أخطاءً صغيرة، والشخص الكبير يرتكب أخطاءً كبيرة».

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *