المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

محمد الشارخ.. العقل الذي كشف أسرار الكونية أمام اللغة العربية

بواسطة | مارس 1, 2020 | شخصيات

توجد أكثر من مناسبة مهمة، لجعلها منطلقًا للكتابة عن محمد الشارخ، إلا أننا لا نحتاج إلى مناسبة فعلية لنتذكر هذه الشخصية التي ارتبط اسمها بعالم الكومبيوتر، «صخر» وما تمخض عنه من برامج أحدثت تحولًا كبيرًا في تعاطي العرب مع هذا الجهاز الخطير، إضافة إلى ذلك فهو صاحب مبادرات رائدة في مجالات متنوعة كانت فريدة من نوعها، والداعم بلا شروط لعدد من المشروعات الحيوية ذات الطابع الثقافي في الوطن العربي، وهو أيضًا، وبالأهمية نفسها، أديب ومقتني أعمال فنية وشغوف بالفنون، من لوحات وموسيقا وسينما.

يشارف الشارخ اليوم على الثمانين من عمره، إلا أن شعلة الحماسة للثقافة والآداب واللغة العربية وخدمتها لم تنطفئ بعد، وهو يكرس اليوم جل وقته ليبقي هذا الحماس مستمرًّا، فلا يتوقف أي من المشروعات التي وهب عمره واهتمامه وسخَّر ماله لها.

ولئن طغى في بعض الأحيان جانب المال والأعمال على شخصية الشارخ، فإن من يطالع قصصه وروايته وكتاباته عن اقتناء اللوحات وعلاقته برساميها، سرعان ما سيتولد لديه انطباع أن الأديب ظلم بجوار رجل الأعمال؛ إذ إن هذا الأديب يكتب أدبًا يتمتع بخصائص وأساليب جديدة، ويختار موضوعات فريدة تضمن له حضورًا راسخًا في الذاكرة الأدبية.

ولعل هذه الأساليب تحولت جزءًا من شخصيته، فهو حين يتحدث أو يروي حكاية أو موقفًا حدث له فيما مضى من الزمان، فإنه يزج بالمستمع في قلب الحكاية، بطريقته الخاصة في الحكي وقدرته على استعادة التفاصيل الدقيقة والجو الذي كان سائدًا. في الشاليه المطل على الخليج العربي، يمارس حياته ببساطة شديدة، طوال الأيام التي يخصصها للبقاء فيه، فهو يوزع أيامه بين المنزل والشاليه، يقبل على ملذات الحياة ومباهجها من دون إسراف، يضيق بالتنبيهات الصارمة حول ما ينبغي أو لا ينبغي تناوله من أطعمة ومشروبات. يتسع صدره لهفوات مخدوميه الصغيرة. وبنفسه يشرف مع الحدائقي على الاعتناء بالنباتات والأشجار الصغيرة، وسيلتفت إلى أحد ضيوفه ويقول له مشيرًا إلى الحدائقي: إنها حديقته، فهو معنا منذ زمن طويل. وهكذا يتعامل مع بقية من يقومون على خدمته وخدمة ضيوفه، من أدباء ومثقفين يستضيفهم من حين إلى آخر، ويوفر لهم سبل الراحة. وهناك أو في منزله، يقصده نفر أو آخر من أصحاب المشروعات الثقافية، خصوصًا من الشباب، طلبًا لتدخله لدى جهة حكومية أو أهلية، فلا يتوانى لحظة واحدة، عادًّا ذلك من صميم واجباته، أي خدمة كل ما يمت للثقافة بصلة.

يبدو متصالحًا مع نفسه بل يغمره شيء من الرضا، أن يكون أنفع الناس وليس أصلحهم، كما يصفه أحد أصدقائه. من يصغي إليه وهو يحكي شطرًا من حياته فيما مضي، سيتبادر إلى ذهنه كم أن هذا الرجل كان، ولعله لا يزال، جسورًا ومغامرًا بل عنيدًا في إخلاصه لشغفه، رافضًا أن تشاركه الحكومة مشروعاته، مخافة أن تسلب منه أو يقع في شرك البيروقراطية. ربما لهذا السبب، وخلال أحاديثه حول مشروعاته الثقافية «أرشيف المجلات، المعجم العربي المعاصر، المدقق اللغوي، التشكيل الآلي، ولوحاته الثمينة، جمالًا وقيمة مادية» سيمس صوته قلق طفيف، بخصوص ما ستؤول إليه هذه المشروعات بعد زمن طويل.

كتب ومجلات وموسيقا

في الأماسي والسهرات، وحين يلوذ السهارى بالصمت، فجأة سيأخذ في الإنصات، وينصت معه البقية بإجلال، إلى مقطوعة موسيقية كلاسيكية متطرفة في جمالها، تنتمي إلى أحد أولئك الكبار الذين صاغوا وجدانات أجيال بموسيقاهم الخالدة. ينصت صاحب «العائلة» إلى الموسيقا، ويمتع ناظريه بالبحر حوله وبالجمال والأفكار والحالات التي تعكسها اللوحات الفنية لأبرز الرسامين العرب والأجانب، المنتشرة في أركان الشاليه، متعدد الأبنية. الكتب والمجلات باللغتين العربية والانجليزية تملأ رفوف المكتبة، وتحيطه أينما اتخذ مجلسه. سيقول إنه حاول أن يعيد قراءة رواية «أنا كارنينا» لتولستوي، لكن لم يستطع أن يكمل، فهو لم يعد يحتمل العذاب الذي يقع على آنا أو على بقية الشخصيات، في تلك الرواية الهائلة. سيتحدث عن كتابات الجيل الجديد الحداثية، وسيذكر أنه لم يعد يفهمها، من دون أن يذهب إلى نسف هذه الكتابات أو إقصائها.

سيحكي مواقف وحكايات عن أشخاص وأصدقاء، في القاهرة، في بيروت، في المغرب، في باريس، في لندن، في عدن، في صنعاء، في كوريا، وفي أصقاع مختلفة من العالم. سيروى شظايا من حياته، حين كان فتى إلى أن صار ما هو عليه، وكيف أن الشرارات الأولى، لأي شيء مر به في صباه، لم تخمد، كذلك اللقاء الغريب الذي جمعه بصديق قديم جدًّا في أحد محال بيروت، بعد أن عز اللقاء به في الكويت لعقود. سيحكي عن مقاضاته لبيل غيتس وسيقلد طريقة القاضي في الكلام (لا تخلو كثيرًا من المواقف التي يسردها من تقليد أو تقمص ظريف، ولعله لا يقصد ذلك، بقدر حرصه على وضعك في صميم ما يحكيه) حين نقل له محامي غيتس أنه لا يستطيع الحضور في المحكمة لأنه يقضي إجازته مع أسرته، قال القاضي: إنه طالما هو نفسه موجود في المحكمة فعلى بيل غيتس أن يكون موجودًا أيضًا، وفعلًا حضر غيتس، الذي تغطي أعماله ومشروعاته المنطقة التي توجد فيها المحكمة، لذلك كان مستحيلًا ألا يكسب، وهكذا خسر الشارخ القضية.

حين كتب عن الفنانين من أصدقائه وعن أعمالهم التي اقتناها، فإن كتابته تبدأ بتفصيل صغير في لوحة، ولا تنتهي عند الإشارة إلى الأسرار الدفينة، التي تجمع بين فنانين آوتهم يومًا ما خلية حزبية. كتابته عن أولئك الفنانين تخترق طبقات العمل الفني برهافة شديدة، وتسكن في ذوات الفنانين وتفتحها على تناقضاتها وشفافيتها وتعقيداتها.

كتابة تجمع بين خبرة مقتنٍ يدرك قيمة ما يرى أمامه من أعمال، وبين مثابرة مبدع خلاق على التقاط التفاصيل الدقيقة، ويشيد منها مشهدًا يضج بالجمال وبالحياة وعنفوانها. في هذه الكتابة يتبادل الشارخ الأدوار مع الرسامين، فيرسم بورتريهًا شائقًا لكل رسام، بورتريهًا يؤثثه بالتفاصيل الصغيرة لكن الدالة بقوة، حتى الحسي منها («زوجته طويلة وممتلئة» يكتب عن أحد الفنانين) فيتجلى في كيفية ساطعة كل من الرسام – الشخص ولوحته، التي تقول رؤيته للعالم وتعكس قلقه وتعبر عن مأزقه الوجودي. كتابة الشارخ عن الرسامين وأعمالهم، تهب المتلقي سعادة الولوج إلى ذاكرته هو، وتقاسم محتوياتها النفيسة من الحكايات والمواقف واللحظات التي لن تتكرر. كما تصيب المتلقي بأثر رجعي بالغواية نفسها، التي جعلته يتسمر أمام أعمال هؤلاء العمالقة الاستثنائيين.

ارتبط اسم الشارخ بالتأسيس والإسهام في تمويل عدد من المشروعات الثقافية المهمة في الوطن العربي، فهو أسس مشروع «كتاب في جريدة» مع اليونسكو عام 1997م وأسهم في تمويله، كما أسهم في تمويل مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمة العربية للترجمة. وشكل تمويل الشارخ لعدد من المشروعات الثقافية بادرة فريدة من نوعها حينذاك، بعيدًا من مال السلطة وتمويلها الذي غالبًا ما يطالب بتنازلات معينة.

تخرج الشارخ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، ونال الماجستير في الاقتصاد من جامعة Williams College ( ولاية ماساتشوستيس، الولايات المتحدة). نال جائزة الدولة من المجلس الوطني للثقافة بالكويت. وجائزة World summit award. والجائزة التقديرية الكبرى ضمن جوائز التقنية العربية. وجائزة الرواد من مؤسسة الفكر العربي. وجائزة «صاحب الرؤية الإلكترونية» تقديرًا لإنجازاته في مجال صناعة البرامج العربية. وجائزة منتدى النجاحات الخليجية. حصلت شركة صخر التي أسسها على ثلاث براءات اختراع من مكتب البراءات الأميركي في حقل اللغة العربية للنطق الآلي والترجمة الآلية
والمسح الضوئي.

أرشيف الشارخ للمجلات الثقافية

انطلاقة صخر

في كلمة له بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي نظمته اليونسكو العام الماضي، يتطرق محمد الشارخ إلى الشرارة الأولى في مشروع صخر، فيقول: «في أوائل سبعينيات القرن الماضي كنت أعمل عضوًا في مجلس إدارة البنك الدولي للإنشاء والتعمير في واشنطن، فدخل مكتبي لأول مرة الحاسب الشخصي وإذ اندهشت من إمكانياته في حفظ المعلومات واسترجاعها رأيت أن لا بد من العمل على تعريب تقنياته لتتواءم مع خصائص اللغة العربية في الصرف والتشكيل».

ويمضي قائلًا: «طال التفكير وتعددت الاستشارات واختمرت الأفكار وقررت أوائل الثمانينيات (1982م) البدء بالمشروع. فاستأجرت فيلا بمنطقة الجابرية في الكويت لبدء المشروع الذي يتطلب تحويل قواعد اللغة العربية وتصريفها إلى Binary System في علم جديد نشأ آنذاك بسبب تقنية الكومبيوتر وهو علم معالجة اللغة الطبيعية  NLP: Natural language Processing الذي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)».

ولأن هذا العلم لم يكن يدرس في الجامعات العربية آنذاك، لجأ الشارخ إلى الاستعانة بمتخصصة بريطانية «لتعلمنا أصول العمل في البرمجيات، واقتضى لاحقًا أن أرسل بعثات لأميركا للاطلاع على هذا العلم ونقل تجارب لغات أخرى لها خصوصيتها أيضًا». بعدها تسنى للشارخ وفريقه تطوير حوالي 94 برنامجًا تعليميًّا وتثقيفيًّا للناشئة العرب مع كتب لتعليم البرمجة ولتدريب المدرسين، «كما طورنا الصرف الآلي الذي نجحنا في عمل أول وأهم تطوير عليه وهو برنامج القرآن الكريم سنة 1985م، ثم بدأنا العمل على التشكيل الآلي الذي تطلب عشر سنوات لإنجازه؛ إذ نحن نقرأ من دون تشكيل ونفهم من السياق لكننا نشكل كلماتنا حين ننطق وإلا صار كلامنا رطنًا والمطلوب أن نعطي للكمبيوتر هذه الخاصية البشرية التي نملكها بالسليقة اللغوية، وعليه تم تطوير النطق الآلي والترجمة الآلية، والتدقيق الإملائي، و OCR وحصلنا على ثلاث براءات اختراع من هيئة الاختراعات الأميركية USPTO أوائل تسعينيات القرن الماضي، وهي أدوات أساسية ولازمة لتحقيق هدفنا الأساسي وهو تزويد الفصحى الحديثة بمعجم عربي حديث وأداة لتصحيح الكتابة آليًّا».

المعجم المعاصر للغة العربية

ويتحدث الشارخ في كلمته في اليونسكو عن المعجم المعاصر للغة العربية الذي دشنه قبل مدة قصيرة، «رأيت ضرورة العمل على معجم حديث للغة العربية بعد أن توقف العرب عن استخدام المعاجم القديمة لصعوبة استخدامها؛ إذ يتطلب استخدامها معرفة الصرف لتحديد جذر الكلمة كما تحتوي على كلمات عديدة لم تعد في الاستعمال، وكون شرح هذه الكلمات يستخدم لغة قديمة وشواهد تحتاج بذاتها إلى شرح بل شروح. كما رأيت أن يكون المعجم إلكترونيًّا ليسهل استخدامه على وسائل التواصل الحديثة». بنى الشارخ وفريقه ذخيرة لغوية مدونة Corpus تشمل خمسين مليون كلمة من الكتابة العربية منذ بداية القرن العشرين ومكنزًا مرمزًا من سبعة ملايين مفردة، وطوروا أنظمة إحصائية لاستخراج الكلمات الفريدة وأولوية استخدام معانيها، واستعانوا بالصرف الآلي والتشكيل الآلي والنطق الآلي والترجمة الآلية لكل منها، إضافة إلى خصائصها الصرفية والنحوية ومرادفاتها ومتضاداتها واشتقاقاتها وذلك في برنامج متاح على الإنترنت لأجهزة الحاسب وجميع أنواع الأجهزة الكفية التي تعمل بنظامي Android أو IOS.

تحوي النسخة الأولى من هذا المعجم 125 ألف معنى وتركيب تحت 80 ألف مدخل و35 ألف مترادف ومضاد و150 ألف مثال حديث. ويمكن لمستخدم المعجم وهو يقرأ الصحف أو بريده الإلكتروني أو وهو يكتب أن يجد المفردة المطلوبة مع اشتقاقاتها ومرادفاتها ومعناها بسهولة من دون أن يخرج من البرنامج الذي يعمل عليه. كما أضافوا للموقع ثلاثة معاجم تراثية للمقارنة ولاستزادة المعرفة، وقاموس عربي/إنجليزي/عربي، بحيث يستطيع قارئ الكتابة الإنجليزية في الصحافة أو الكتب أو البريد الإلكتروني أن يجد معنى الكلمة بالعربية وكل الخصائص المذكورة سابقًا، من دون أن يغادر الموقع الذي يقرأ منه. وهذه وسائل تمكن الطلبة وغيرهم من استخدام المعجم الذي توقفت المدارس عن تعليمه منذ سنوات طويلة لصعوبة استخدامه ولعدم شموله الكلمات الحديثة المتداولة في الصحف والفضائيات والإذاعات العربية التي تستخدم الفصحى الحديثة.

مشروع الشارخ هذا يسد فراغًا في الثقافة العربية، فالمعاجم تصنع عادة في الجامعات مثل: ييل وأكسفورد وبرمنجهام أو في مؤسسات متخصصة.

ولقد انهمك الشارخ وفريقه في السنوات العشر الأخيرة في تطوير هذا المعجم إضافة إلى بناء الأرشيف الثقافي الأدبي الذي يحتوي على مليوني صفحة من المجلات الأدبية العربية، منذ أواخر القرن التاسع عشر.

استوعب إشكالات الثقافة وأسئلة زمنه

عبدالصمد الكباص

استحق محمد الشارخ بامتياز كبير لقب عراب المعلوميات العربية. لا يعود ذلك فقط إلى مغامرته العظيمة التي عُمدت تحت اسم «صخر» بإنجازاته المبهرة التي نقلت العربية من سؤال تحفه الشعارات، إلى حل ناجع يمكنها من الأرض الثانية التي صار إنسان عصرنا يستقر فيها وهي الأرض الرقمية، ولكن وبشكل أقوى يعود إلى هذا الشغف الجارف الذي يظهره مسار الرجل بتطوير الثقافة العربية، وتحويل تموقعها التقني إلى رافعة حقيقية لنهضة جديدة.

لا يمكننا أن نتحدث عن محمد الشارخ إلا باعتباره عقلًا عربيًّا كبيرًا نادر الحدوث، استوعب إشكالات الثقافة التي ينتمي إليها وتملك أسئلة زمنه. إذ عكس التجلي الواضح لحالة يقظة سابقة لزمنها تجاه سؤال التقنية والثقافة، هذا الارتباط الذي يحافظ على درجة هائلة من الالتحام في كل مشروعاته التي شكلت أحلامًا استمات في تحقيقها. بل مثل الرجل منقذًا حقيقيًّا للغة العربية، بعد أن استوعب بشكل مبكر أن لا بديل من حوسبتها وإدماجها في عالم الحاسوب وتحويلها إلى عنصر فاعل في المبادلات الرمزية التي تتم من خلال العوالم الرقمية، فاتحًا بذلك الباب إلى انتمائها الفعلي للكونية بمعناها المعاصر، أي تلك الكونية. لقد كان بذلك، مساهمًا في إرساء طفرة ثقافية تستفيد منها أجيال متلاحقة.

محمد الشارخ الاسم الذي يليق بهذا العمل من أجل الكوني، العمل الذي يؤمن بأن الشعارات لا تكفي أبدًا لحل المشكلات وتبديد المخاوف. إنه المثقف الذي ظل وفيًّا للقضايا التي يؤمن بها. وهو أيضًا حاضن الصداقات بوفاء نادر يكشف غنى روحه وتشبعه بحكمة جمالية للعيش والتقاسم والمحبة. لن أنسى زياراته لنا في مراكش للاطمئنان على أحوال أصدقائه والإصغاء لهم، حيث تشهد سماء هذه المدينة الحمراء على تلك اللحظات الباذخة من السمو والمحبة التي تقاسم فيها معنا، أنا وصديقي المفكر عزيز بومسهولي أسئلة الحياة والفن والكتابة، وهو المبدع المبحر في عوالم السرد الذي أثمر أعمالًا تعكس هذه القوة الثقافية والإبداعية التي يحتكم لها الرجل في ملاحقة أسرار الحياة ومحاورة هشاشتها. إنه مبدع في الكتابة
والصداقة والحياة.

أكاديمي مغربي

محمد الشارخ محاطًا بمقتنياته الفنية

النظر إلى الأشياء بشكل مختلف

إبراهيم داود

أعرف محمد الشارخ منذ نهاية الثمانينيات، كنت جالسًا في يوم ما على مقهى زهرة البستان بوسط القاهرة، ثم أتى رجل يسأل عن الكاتب الراحل إبراهيم منصور، ولم يكن الأخير موجودًا، فقال له جرسونات المقهى إن الأستاذ إبراهيم صديقه، ويمكنك أن تسأله عنه، رحبت بالرجل وأجلسته وعلمت منه أن اسمه محمد الشارخ، كاتب قصة ورواية ومحب للشعر وصديق لإبراهيم منصور، وكان المقهى قد وضع تليفونًا أرضيًّا به، فنهضت واتصلت بإبراهيم منصور الذي أكد أنه قادم، فعدت وجلست مع الرجل في انتظار صديقه، لكن إبراهيم منصور لم يأت كالعادة، فطلب مني الرجل تغيير المكان.

كانت هذه بداية معرفتي بالشارخ التي استمرت سنوات طويلة. يومذاك علمت منه أنه مقيم في سويت بفندق النيل هيلتون، وعلمت فيما بعد أنه أحد كتاب غاليري 68، وأنه صديق يوسف إدريس، وجورج البهجوري، ومحمد البساطي، وأحمد بهاء الدين، وكان الرجل دائم المجيء إلى القاهرة والسهر بصحبتهم، ولما رحل غالبيتهم لم يعد يأت إليها، فقد كان يرتاح إليهم، ويرتاد أماكنهم، ويجلس بينهم ومعهم.

الشارخ مثقف كبير بالفعل، فهو خبير في الموسيقا والأوبرا ومدارس التلحين، عاش طيلة الوقت ما بين باريس ولندن، وصنع إمبراطورية كبيرة تسمى صخر، وهو أهم مشروع لتعريب علوم الحاسب الآلي، عمل فيه معه كبار المثقفين والفنيين والعلماء، من بينهم الدكتور نبيل علي، وعلي مصيلحي وغيرهما، لكنه كان يهرب من هؤلاء ويأتي إلينا ليتحدث عن الفن والأدب، لكن قدره أن رأى من الحياة ما رآه الملك لير.

من بين منجزاته في مشروع صخر أرشيف المجلات الثقافية، وهو مشروع كبير، استغرق العمل فيه سنوات، كان يطور فيه بشكل دائم، فوضع له تبويبًا وفهارس وروابط بين العناوين والمواد من الداخل. كنا نسعد بزياراته للقاهرة، وهو أيضًا كان يدعونا لزيارته في الكويت، كنا نذهب لمدة أسبوع كي نقيم في صحبته في شاليه على الخليج العربي، فنمضي الوقت في الحديث عن الأدب والسينما والفن، فهو لديه أكبر مكتبة سينمائية، حرص على تزويدها بأهم الأفلام العالمية، ولديه مجموعات مهمة من اللوحات للفنانين العرب والأجانب، وهو خبير بالأوبرا والموسيقا والغناء والتلحين، وهو قاص وروائي ومحب للشعر العربي من كل العصور.

تعلمت منه كيفية النظر بشكل مختلف إلى الأشياء، كان يترك أعماله وأشغاله من أجل أن يحضر أوبرا في فيينا، أو أن يقرأ رواية جميلة صدرت مؤخرًا، وهو على كل الأحوال مصري الهوى، محب للمصريين وثقافاتهم وأفكارهم وطرقهم للحياة، أتاح للكثيرين منهم العمل معه في مشروعاته للرقمنة، كان من بينهم الراحل الكبير سليمان فياض العالم بالنحو وشؤونه، الذي تعاون
معه في تصريفات الأفعال وتشكيل الكلمات وغيرها من أمور اللغة.

شاعر وكاتب مصري

رهان على الحداثة

سعيد الكفراوي

قبل أن يقدم محمد الشارخ تجربته المهمة مع التقنية الحديثة كان كاتبًا للقصة القصيرة ضمن جيل الستينيات، نشر في جاليري 68، وكان فردًا ناشطًا فيها، ساهم في إصدار تلك المطبوعة المهمة في تاريخ الثقافة العربية، الشارخ الذي درس في جامعة القاهرة، وينتمي بالولاء والإخلاص إلى الثقافة المصرية، علاقتنا حتى الآن لا تنقضي، فحين يأتي إلى القاهرة نلتقي في صحبته.

الشارخ دائمًا وطوال ممارسته للعمل العام كانت عيناه على الحداثة وعلى تقديم شيء جديد يخدم ما يؤمن به، وكان يعد التعليم هو الفعل الوحيد الذي ينقلنا من حالة التخلف إلى حالة التنوير وغيرها، لذلك بدأ التفكير في مشروع صخر، فأسسه في القاهرة على أرض من عدد من الأفدنة، عليها مصنع لتجميع الكمبيوتر في زمن كان فيه هذا النشاط مقصورًا على خاصة الخاصة، أنتج الكمبيوتر الأشهر «صخر»، وتواصل عبر وزراء التعليم في العالم العربي في تونس والمغرب ودول الخليج وغيرها لإدخال هذا الفرع في تدريس المواد، ومن بداية الثمانينيات كان الشارخ فاعلًا ومبتكرًا ومضيفًا للثقافة العربية، تراثنا الإسلامي والعربي، القرآن الكريم بقراءته المختلفة.

أخذ مني أعداد الكرمل كاملة ووضعها على الكمبيوتر كمادة تحت الطلب، مشروع ظل سنوات في خدمة الثقافة العربية، وقبل أن تبزغ شمس ما تراه الآن على شاشة الكمبيوتر كان الشارخ وحده، حتى الآن يتواصل جيل من الشباب الجدد بالثقافة العربية المترجمة إلى لغات أخرى، وبالقرآن، وبالنصوص
العربية، معتمدين على ما أنتجه صخر، واستعان فيه ببعض المتخصصين في اللغة مثل سليمان فياض في إضافته نصوصًا جديدة تخدم مشروعه. الشارخ الذي أسهم في إنشاء معهد العالم العربي بباريس، ولولاه ما كان. هذا الرجل الصديق عرفته محبًّا للصداقة واللغة العربية والحياة بشكل عام.

كاتب مصري

رجل استثنائي بامتياز

عبدالعزيز بومسهولي

من الصعب أن تكتب عن شخص من طينة نادرة كمحمد الشارخ، لكونه شخصًا استثنائيًّا بامتياز، ومن الصعب الكتابة عنه باقتضاب خاصة إذا كان صديقًا بكل ما تمثله كلمة الصداقة من معنى أصيل، ولا سيما أن خيوط صداقته تمتد بعيدًا في نسج علاقات ثقافية متينة، تستهدف المساهمة الفعالة ليس فقط في ترسيخ الجسور بين المشرق والمغرب وحسب، وإنما أيضًا في المساهمة في تمكين الثقافة العربية عامة من ولوج الفضاء الكوني الفسيح. ولذلك لا نبالغ قط حينما نقول: إن الشارخ رجل استثنائي؛ لأنه لم يضع قدمه فقط في التاريخ الإنساني، بل مكن اللغة العربية من الدخول إلى الكونية عبر بوابة تقنية الكومبيوتر، وهو بهذا الإنجاز التاريخي يكون بالفعل مسهمًا في إحياء اللغة العربية وتمكينها من منافسة اللغات الحية الأكثر تداولًا وانتشارًا في العالم.

لقد كنت محظوظًا بالتعرف إلى محمد الشارخ الإنسان والمثقف ورجل التقنية الذي يملك لحسن حظ اللغة العربية منظورًا فكريًّا، جعله يستثمر كل ثروته في استعادة موقع هذه اللغة في المسار الكوني؛ ويعود الفضل في هذه الصداقة إلى المفكر الكبير محمد عابد الجابري، ففي ربيع 1999م تلقيت اتصالًا هاتفيًّا من الجابري يخبرني فيه بزيارة محمد الشارخ إلى مراكش، والتمس مني أن ألتقيه رفقة بعض مثقفي المدينة، وهكذا ترسخت منذ ذاك الحين علاقة صداقة ما زالت متينة لحد الساعة، وكان من بين المثقفين الذين حضروا جلساتنا فيما أذكر كل من المفكر عبدالصمد الكباص، والشاعر عبدالرفيع جواهري، والكاتب والناشر عبدالصمد بلكبير، والشاعرة مليكة العاصمي، والمفكر حسن أوزال، والناقد محمد آيت لعميم، والفنان التشكيلي والفوتوغرافي
أحمد بنسماعيل.

تعددت زيارة الشارخ للمغرب ولمراكش التي عشقها بالفعل، والتي تسلم فيها جائزة الرواد من مؤسسة الفكر العربي أواخر نوفمبر 2004م، وقد تسلمتها نيابة عنه ابنته المصون العنود؛ ومع ذلك فقد حضر الشارخ في الأيام التالية لمؤتمر الفكر العربي، حرصًا منه على توزيع مجلة «فكر ونقد» التي كان محمد عابد الجابري رئيسًا لتحريرها، على المؤتمرين، وذلك لأنه كان داعمًا لخط هذه المجلة الفكري، ومشجعًا لاستمرارها، بهدف نشر الثقافة المغربية والعربية، ولهذا جمعت بين الشارخ والجابري عدة لقاءات في بيت هذا الأخير بالدار البيضاء.

من الخصائص النادرة في شخصية محمد الشارخ، اهتمامه الكبير بالثقافة والفنون وحرصه على الاستماع والاستمتاع بتفاصيل الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية المغربية، وفي الآن ذاته قدرته على خلق الدهشة في جلساته، وعبر ذلك اكتشفنا فيه ساردًا يتقن بناء المفارقات، وهذا ما ظهر بعد ذلك في منشوراته القصصية والروائية، وبعضها طبع في المغرب، وانعقدت حولها ندوات
بالصويرة وطنجة.

والأجمل في شخص محمد الشارخ كونه حريصًا على تمتين العلاقات الفكرية، فمن خلاله تمكنت شخصيًّا رفقة صديقي عبدالصمد الكباص من عقد علاقات واسعة مع المثقفين في مصر وتونس، وبفضل مبادرته تمكنا من حضور مؤتمر جمعية الفكر العربي المصرية الذي عقدته في بيت الحكمة في تونس في فبراير 2005م.

باختصار شديد؛ إذا كان للشارخ من خاصية، فهي كونه شخصًا استثنائيًّا قلما يجود التاريخ بمثله، ولا سيما في هذا الزمن الذي أضحى فيه الرأسمال داعمًا للتفاهة والاتجار في بؤس الشعوب.

مفكر مغربي


شراكة في الفقد

عزت القمحاوي كاتب مصري

في أواخر ٢٠١٦م كنت في الكويت بصحبة الصديق الكبير سعيد الكفراوي، وقت إعلان أسماء الفائزين بجائزة «الملتقى» للقصة القصيرة في دورتها الأولى. كنت محكمًا في تلك الدورة، وكان الكفراوي أحد ضيوف الاحتفالية الكبار. حضر محمد الشارخ إلى الجامعة الأميركية حيث تقام فعاليات الاحتفال، باحثًا عنا: الكفراوي وأنا.

بعد السلام مباشرة، قال إنه يريدنا أن نمدد إقامتنا أيامًا إضافية، وليس علينا إلا أن نترك له جوازي سفرنا، ليتولى مساعدوه عمل التغييرات اللازمة في الحجز. كانت غبطته بوجودنا واضحة، من دون أن تنجح هذه الغبطة في إخفاء شيء يثقل صدره، يشبه سكينة الاستسلام بعد الخسارة.

كنت متعجلًا العودة لمراجعة بروفات الطباعة النهائية لكتاب جديد، وكان الكفراوي متلهفًا أكثر، للعودة إلى رفيقة دربه، وقد عاودها المرض اللعين. لم يكن بوسعنا التأخير. قلنا:

– نراك في القاهرة قريبًا.

– لا. القاهرة لا.

قالها باندفاع من يتحسب من شر يتربص به. ثم عاد ليشرح بهدوء قرارًا اتخذه بعدم العودة إلى القاهرة، وقال إنه أوصى مكتبه فيها بشحن اللوحات من شقته في الدقي إلى الكويت.

لم يكن بحاجة إلى أن يشرح لنا أنه لا يستطيع العودة إلى مدينة لم يعد فيها محمد البساطي ولا إبراهيم أصلان ولا جميل شفيق ولا إبراهيم منصور إلى آخر قائمة تطول.

صحبة قراءة وكتابة، وعي وسهر، وقصص حب مع جيل الستينيات الذي كان الشارخ بين أعضائه، مثلما كان غالب هلسا. غربت شمس الجيل، لم يعد إلا صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر، وصبري حافظ، وبالقرب منهم الكفراوي وإبراهيم عبدالمجيد.

كان مصرَّا على دعوته، ويبدو أنه رأى أنها لن تُحسم في وضع الوقوف في ساحة الجامعة الأميركية، التي احتضنت السنوات الأولى من جائزة الملتقى. والأفضل أن تؤجل إلى جولة أخرى. دعانا مع الصديق الكاتب طالب الرفاعي مؤسس الجائزة والكاتب الصحافي أنور الياسين. وجلسنا في مطعم نرى الخليج من خلف الزجاج. واستمرت الجلسة من الظهيرة حتى الغروب.

بفضل سعيد الكفراوي، المحب الذي لا يتذكر أصدقاءه إلا أحياء بكامل حيويتهم وصخبهم، زارنا الابتسام في الساعة الأولى، والضحك في الثانية، ثم صار للسعادة حضور راسخ بيننا. قصص عن مقالب وخدع صغيرة، قصص عن كتابة وقراءة وشجارات مستحقة وحب صارت آلامه الكبيرة السابقة مصدرًا للتندر.

يبدو أن تلك الجلسة كانت سببًا في تذويب الأسى بين الشارخ والقاهرة، وقد رأيناه فيها بعد أشهر قليلة، وسهرنا في شقته، وكانت لوحات الفنانين من أصدقائه وغير أصدقائه في أماكنها على الجدران.

هذه هي فضيلة الذكريات التي يمكن أن نستعيد فيها الأحباب والأيام التي رحلت معهم من حياة الشهود الأحياء.

* * *

الشارخ مع أمير الكويت الراحل

لسبب ما وجدت نفسي بين جيل الستينيات، في بداية تعرفي إلى الحياة الثقافية في الثمانينيات. وعندما كانت المناكفة تحتدم بيني وبين البساطي بالذات حول تقييم نص، كان يلجأ إلى تعييري بحداثة سني، كسلاح للتشكيك في سلامة حكمي. وكنت أقول له إننا من جيل واحد «ميلادك الأدبي وميلادي الطبيعي في الستينيات؛ فها نحن زميلان».

بالطبع، كانت هناك صفحات لم أطلع عليها من حياة أصدقائي الكبار. هناك وقائع عقدين وصلتني في شكل حكايات خلال جلساتنا التي يتحول بعضها إلى حنين ومراجعة لما فات. وكان فيما فاتني سنوات إقامة أدباء عرب مثل غالب هلسا، ومحمد الشارخ. وكانت الحكايات تعيد من سافر، وتعيد زمنًا بدا لي شحيحًا في المال كريمًا في السعادة مفعمًا بالأمل. كان من السهل أن أستكمل صورة غالب هلسا من خلال كتبه المتاحة، لكن معرفتي الأدبية بالشارخ تأخرت إلى حين بدأت أقرأ كتاباته القليلة، وكان أولها قصة مفردة في «جاليري ٦٨» المجلة التي دشنت جيل الستينيات، وساهم الشارخ مع أصدقائه في تكاليف إصدارها، وكان في ذلك الوقت قد غادر القاهرة بعد حصوله على بكالوريوس الاقتصاد ليدرس الماجستير في أميركا. قصته «قيس وليلى» كانت تشير إلى مشروع سيتواصل، كغيره من المشروعات التي احتضنتها المجلة الطليعية، وتواصلت فيما بعد لتستكمل مسيرات مميزة، ولكن ولعًا آخر استقر في قلبه.

* * *

أصدقائي في جيل الستينيات يرون الكمبيوتر ماكينة غامضة؛ لذلك لم يشيروا إلى صديقهم الشارخ بوصفه مؤسس «صخر» التي اشتريت منها جهازًا عام ١٩٨٧م، بتصميم على توديع الورق والأقلام. كانت الثمانينيات ـ وربما الأصح أن نسمي المدة من ١٩٨٠ إلى ١٩٩٠م «التسعينيات» ـ هي العقد الذي استسلم فيه الشارخ للولع بأسرار كتابة الكود، وهو الأمر الذي وضع الكتابة الأدبية في مزاحمة ومنافسة غير عادلة، بين عمل مع فريق جماعي يرتب التزامات تجاه مبرمجين وموظفين وعمال، وبين هوى ذاتي هش يحتاج إلى العزلة.

لكن ما أسداه الشارخ لصناعة البرمجيات العربية كان كبيرًا جدًّا على أية حال. أفضال يعرفها المتخصصون في المجال، أكثر مني أنا مستخدم عابر فتنته رؤية كلمات قصصه الأولى بخط صخر الأول قليل المرونة مطبوعًا بالطابعات نافثة الحبر، ليتجسد سطورًا رمادية غالبًا، لكن أكثر واقعية وتحققًا من خط اليد. كان هناك حجمان اثنان ونمط واحد من الحروف، ولم يزل ذلك الخط يفتنني إلى اليوم عندما أراه، في مطبوعات غير مطورة. مثل تخريمات الشيكات البنكية.

طبعًا، من المبهج لأي إنسان أن يحصل على الشيكات، لكنني أسعد كذلك بحروفها المتخشبة والمد المستقيم غير المبرر في رسم الكلمات الذي يشبه حروف جهاز صخر القديم.

لم يبتعد الشارخ من الحرف والكلمة. انشغل عن كلماته الخاصة ليذلل للآخرين سبل انتشار كلماتهم. في الكمبيوتر، تتحول الحروف إلى إشارات رقمية تترجم على الشاشة في شكل إشارات ضوئية؛ حروف من نور. وأظن أن الشارخ راض عن خياراته؛ فسواء أفرط أو قتَّر في الكتابة؛ فهو واحد من جمع، لكنه في مجال تعريب الكمبيوتر رائد وحيد.

* * *

بعد أن حقق الشارخ الكثير مما أراد في هذا العالم، مع منتصف التسعينيات أصبح لديه متسع من الوقت للعودة إلى غرامه الأول: الأدب؛ في الرحلة والبورتريهات من حين إلى حين. كما استنقذ بعض الوقت لنفسه وعاد إلى رؤية أصدقائه، وبينهم اثنان من جيل الستينيات بالمولد: إبراهيم داود وأنا.

لكن الموت، هادم اللذات ومفرق الجماعات، على قول جدتنا شهرزاد، حصد الكثير من حيوات الأحبة، وترك للبقية الشراكة في الفقد.


نصوص تتخطى معتاد السرد العربي تقنيـًّا

حسن بحراوي ناقد مغربي

محمد الشارخ بريشة بهجوري

كانت بداية علاقتي الأدبية والإنسانية بالأستاذ محمد الشارخ ذات نكهة لطيفة وغريبة في آن. فقد دعاني في بحر سنة 2006م اتحاد كتاب المغرب وجامعة عبدالمالك السعدي إلى ندوة في مدينة طنجة موضوعها المجموعة القصصية ذات الاسم المحايد «عشر قصص» التي كانت قد صدرت في طبعتها المغربية لكاتب كويتي لم يسبق لي أن قرأت له أي نص. ولكن مشاركة العديد من الزملاء العرب والمغاربة في هذا اللقاء شجعني على القبول المبدئي للدعوة. غير أنني لأمر ما تماطلت في مباشرة قراءة الكتاب على الفور وقلت لأترك ذلك لأقوم به خلال رحلتي الطويلة بالقطار من الرباط إلى طنجة. الذي حصل بعد ذلك هو أنني ما إن شرعت في تقليب صفحات المجموعة القصصية حتى شدتني بسرعة إلى عوالمها العجيبة وأبهرتني بأسلوبها السردي الذي يطفح بالسلاسة والإتقان ولُمت نفسي حينها على هذا التلكؤ في أخذ الوقت الكافي لقراءتها بكل أريحية كما هي عادتي.

ولم يعد أمامي سوى أن أسابق الزمن لمواصلة القراءة وتسجيل الملحوظات بشأنها لأن موعد اللقاء كان هو مساء ذلك اليوم نفسه الذي كنت أقضي ظهيرته الدافئة على متن القطار. وقد كان أول انطباع حصل عندي بقوة هو أن هذا الكاتب استثنائي بكل المقاييس الإبداعية التي ترسخت في ذهني. فمن جهة المضامين كانت القصص تطرح مشكلات مجتمع مخملي يحل ضيفًا على السرد العربي الحديث الذي دأب على الالتصاق بالقاع الاجتماعي ولم يكن يغادر الطبقات المتوسطة كما عند نجيب محفوظ أو فئات البورجوازية الصغيرة كما عند محمد زفزاف مثلًا. ثم ها إننا مع هذا الكاتب نغوص عميقًا في أوساط اجتماعية أبعد ما تكون عن المألوف لدينا كقراء عرب. شخوص تحيا في رغد من العيش يصعب تصوره. بطائرات شخصية تحملهم أينما شاؤوا في رمشة عين. ونساء يجلبن ملبوساتهن وعطورهن من أرقى المحلات الأوربية. وعائلات تصرف عطلاتها في الأدغال الإفريقية في النزهة وصيد الوحوش. وقس على ذلك مما يُذهل الفكر ويكاد يستعصي على التصور.

لوحة للرسام أحمد مرسي – من مقتنيات الشارخ

ومن حيث الكتابة السردية لا يتردد الكاتب في ارتياد أساليب حكائية تكون أقرب إلى التجريب عندما تجنح إلى استعمال تقنيات تخرق المعتاد السردي العربي، لتعانق آفاقًا إيجابية جديدة بكل المقاييس لعلها تكون من تأثير قراءاته العميقة في متون السرد الغربي ذي المظهر الاستثنائي، كما تتمثل عند جويس وفولكنر وكافكا.

وإجمالًا بدت لي نصوص «عشر قصص» كأنها تجول بنا في مجرات سردية أخرى غير مطروقة وتحملنا على تأمل ما يمكن للغة العربية أن تخترقه من إمكانيات التفكير والتعبير. بهذه التأملات غادرت محطة القطار واتجهت مباشرة إلى القاعة التي تنعقد فيها الندوة حول المجموعة القصصية موضوع الاحتفاء. كنتُ آخر المتدخلين ولم أعلم شيئًا مما قاله الزملاء الذين سبقوني في شأنها. وعندما أخذت الكلمة كان أول شيء افتتحت به هو السؤال هل المؤلف موجود بيننا في هذه القاعة؟ وقد طمأنني مسير الجلسة أنه يجلس في مواجهتي بصحبة زوجته وابنته الدكتورة العنود. سعدت كثيرًا بهذا الحضور العائلي البهي للكاتب في الصالة بعد أن أبهجني حضوره الإبداعي في الطريق وأنا على متن القطار.

وأذكر أنني بدأت حديثي بإثارة مسائل استبدت بفكري أنا الذي صرفت ثلاثة عقود في دراسة وتدريس الرواية وفي مقدمتها أن المعرفة خارج النصية بالمؤلف غير ضرورية بل ربما كانت مشوشة وأحيانًا معرقلة للإمساك بجوهر العمل. فالأفضل أن نترك للنص إمكانية أن يخبرنا هو نفسه عن طبيعة الكتاب وتجعلنا نقف على ذائقته الفنية وأبعاده الجمالية. وها هو ذا النص قد قام بمهمته على أحسن وجه ولم يبق أمامنا نحن القراء/ النقاد سوى أن نضعه تحت مجهر النقد ونبحث في جديده ونمسك بإضافاته. لو وُجدت طبعًا. انتهاء بالوقوف على مكانته بين السرود الرائجة على أديم الرقعة العربية. وهذا ما فعلتُه على مدار الوقت المسموح لي به قبل أن أختم بكلام عن مفارقة عامة التقطتها على مدى صفحات المجموعة مفادها أن شخوص القصص الذين يظلون يسعون طوال الوقت لمعانقة الحياة بكل شغف وفضول سرعان ما يجدون أنفسهم قد وقعوا في حبائل الموت الذي يكون قد تعقبهم بإصرار لا حد له لينال منهم.. فرادى وجماعات.. كأنَّ بينه وبينهم حسابًا عسيرًا ولا سبيل إلى الإفلات منه. وقد تهيأ لي في وقت من الأوقات أن تلك الأعداد الهائلة من الموتى الذين يُطاح بهم عنوة وعند أول منعطف. ربما كانت مجازًا بلاغيًّا عن الموات العربي الذي يهيمن في المجموعة كما يسود في الواقع. ويا حبذا لو كان ذلك الموت يقدم على أطباق طبيعية من نوع الموت الرحيم الذي يألفه الناس على مضض ويستسيغونه قهرًا في النهاية.. كالموت بالأمراض والحوادث والانتحارات.. ولكنه في المجموعة غالبًا ما كان يتخذ مظهرًا شديد الشراسة وبالغ القساوة كالموت في انقلاب قاطرة أو سقوط طائرة أو الانتهاء بين فكي أسد، أو كموت الأطفال الأبرياء إجمالًا.. إلخ إلخ.

الكتابة بوتيرة منتظمة لوجه المتعة

بعد الفراغ من الندوة أخذني الأستاذ إلى جواره خلال مأدبة العشاء لكي نستكمل الحديث حول بعض تلك القضايا والإشكالات التي جرى طرحها بشيء من الإيجاز خلال الجلسة بحكم محدودية الوقت. غير أن الجماعة كانت لنا بالمرصاد عندما فضلت سماع عزف وغناء الفنان اليهودي صاحب المطعم واستغرقت في التصفيق له إعجابًا بإتقانه فن الشبوكي الذي يمثل آخر ما تبقى من التراث العبراني المغربي والأندلسي في طرب الآلة. فهمتُ خلال هذه الجلسة الصاخبة أن الشارخ لم يتوقف أبدًا عن الكتابة على نحو مطلق على رغم المشغوليات والمسؤوليات الجسيمة. وإنما واصل الكتابة بوتيرة منتظمة ولكن لوجه المتعة الشخصية مع الإحجام المقصود عن النشر العمومي. وقد سعيت إلى فهم هذه الوضعية فتبين لي أن السر في هذا الإتقان والجدة اللذين بلغتهما القصة عنده ربما كانا نتيجة لمدة البيات السردي هاته الذي استغرق عقودًا صرفها الرجل في أداء مهام أخرى في مجالات الاقتصاد والأعمال، ولكنها انتهت لحسن الحظ بالخير الرمزي العميم عندما توجها بالانكباب على نشر أعماله الأدبية أخيرًا والاعتناء الأبوي بصخر وإخوته. أقصد طبعًا مشروعه التنويري الحافل الذي اتجه فيه بداية الثمانينيات إلى رقمنة اللغة العربية ومعالجتها بالحاسوب حتى تتمكن من مسايرة لغات العالم والوقوف ندًّا أمام الثقافات والحضارات. والتجربة الرائعة المسماة «كتاب في جريدة» التي لم يَكتب لها الشتات العربي أن تتواصل على رغم تصميم وتضحيات الرجل.. أو آخر العنقود المتمثل في «أرشيف المجلات الثقافية والأدبية» وقوامه مليونا صفحة طافحة بالإبداع والتفكير الذي أنجزه العقل العربي الحديث قبل أن يغرق في السبات.. من جديد.

متخيل روائي عربي جديد

ولم تمض سوى فسحة من الزمن حتى نودي علي مجددًا في أكتوبر من سنة 2008م للمساهمة في قراءة عمله الروائي الجديد «العائلة» في احتفاء باذخ استضافته المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط حيث سيتولى هذه المرة التبشير بمتخيل روائي عربي جديد تجري فيه جملة من الانتقالات: من العوالم شبه الكافكاوية التي سادت في قصصه إلى ارتياد تجربة تراجيدية ذات ملمح شكسبيري تقريبًا في روايته. ومن استعراض النزعة الليبرالية المتوحشة التي كانت تطبع مجتمع القصة إلى نقد الاستبداد السياسي ذي الجذور العشائرية الذي صار محركًا لمجتمع الرواية. وأخيرًا وليس آخرًا الانتقال من البيئة ذات النواة المدنية المحدودة إلى القبيلة في اتساعها الإثني وتشعب ولاءاتها بين دينية وسياسية… إلخ.

وطالما أن الحديث كان يدور بين مختصين وجامعيين عرب ومغاربة فإني أذكر أن مدخلي لقراءة «العائلة» كان هو التأمل فيما اعتبرته يومها خرقَ هذه الرواية لأطروحتين بارزتين: الأولى أطروحة نظرية تقوم على تكذيب أولئك الذين يجعلون للرواية أصلًا قديمًا هو الملحمة كما روجت له الكتابات الغربية خاصة مع الناقد المجري جورج لوكاش.. أو للباحثين القائلين بأن لها جذورًا في تعبيرات تراثية منقرضة كما فعل الروسي ميخائيل باختين عندما قربها من الحوار السقراطي والمينيبي والمحاكاة الساخرة.. وبالنسبة لي فقد كانت هذه الرواية تحديدًا تجد امتدادها في عالم آخر مختلف بكل تأكيد هو الدراما ذات النكهة التراجيدية كما تبلورت في اقتراحات أرسطو وارتبطت بمفاهيم معلومة لديه مثل الإيهام والتطهير والوحدات الثلاث.

وقد سعيتُ إلى تعداد ما ظننته دلائل مفترضة على انتساب «العائلة» إلى هذا الأفق الجديد وفي مقدمتها المآل المأساوي للبطل والخصائص النوعية للوقائع المؤدية إلى سقوط القيم.. وغير ذلك مما سيكون الإتيان عليه هنا من باب الإطناب الذي لا موجب له. وأما الأطروحة الثانية فهي تلك النزعة الواقعية التي تتشخص في المنحى الموضوعي بهذا القدر أو ذاك الذي ارتادته الرواية عندما كانت تسير باتجاه توضيح أن التطرف الديني والسلفية المقيتة لا يكونان على الدوام نتيجة حتمية للفقر والجهل كما أشاع بيننا الإعلام الرائج والكتابات المستعجلة.. بل قد يصيران مثلما في رواية «العائلة» تحديدًا.. من عواقب الثراء الزائد على الحاجة وسعة اليد المفرطة حد البذخ.. وهنا نكون في صلب مقاربة جديدة لا تربط بين الوضع الطبقي «أي الاقتصادي» والاعتقاد الأيديولوجي «الديني في حالتنا».. بل تنظر إلى التلازم بينهما الذي لا يبدو من باب المصادفة.. والمصادفة لا حكم لها كما نعلم.. وهكذا قد يكون الإرهاب في «العائلة» وليد مواجهة عجيبة بين الرخاء المعيشي وممارسة الاستبداد السلطوي. ويتأسس الانفجار الذاتي كطريقة لمواجهة حالة التوتر المنذر بالخطر بين الأبطال الإشكاليين وخلفياتهم التراجيدية؛ كل بطريقته ووفق مزاجه الخاص… الذي لم يكن خاصًّا تمامًا ولا على الدوام.

وقد أمسكتُ في هذه الرواية كذلك بشيء بدا لي حينها جديدًا في السرود العربية وهو أن الرواة في «العائلة» لا يسعون إلى التواطؤ مع القارئ كالمعتاد بل يضعونه في اختبار التلقي ويحفزونه على المشاركة في بناء السرد واختيار أقرب الاحتمالات لذائقته الشخصية.. أي أنهم عمليًّا لم يكونوا يجارونه في نقد المجتمع السياسي أو الغمز في البيئة الاجتماعية.. وهذا يعطينا شعورًا بأن الكاتب لم يكن يرغب في الظهور بمظهر المناضل الملتزم أو يميل إلى استدراج قارئه بالتشويق الحكائي وشراء صمته بسلاسة العبارة.. وإذا كان الكاتب مثلًا يجنح إلى التكتم عن أسماء البلدان والشخوص فليس قطعًا للالتفاف على الرقابات العربية واختيار الهدنة وإخلاء الذمة ولكن غايته من وراء ذلك كانت هي توريط القارئ في المشترك من الهموم القومية وحمله على اتخاذ الموقف المناسب من الواقع المناسب.. من دون ثرثرة زائدة.

خلال العشاء في مطعم «برج الدار» على جادة المحيط الأطلسي كانت الجماعة صاخبة كالمعتاد.. وتشعبت الأحاديث وازدهرت التعليقات حول الرواية حتى صارت مذاهب شتى: «نص مركب محسوب العلاقات يحرض القارئ على المساءلة ويؤمن له متعة عقلية» (فيصل دراج). «خطوة لافتة على طريق ارتياد فضاءات كانت حريصة على الانغلاق والتقوقع» (محمد برادة). «رواية للأرواح النافرة، والمصاير الغامضة، والألم العاتي، والمتع المزدهرة» (شرف الدين ماجدولين). «عالم شجي بإيقاع لاهث ولغة جديدة تشعر أن العمل قام ببناء نفسه» (إبراهيم داود).

ولم يزد الشارخ عن أن علق: ماذا فعلتُ لكم يا جماعة؟ أنا اقترفتُ مجرد رواية عن «العائلة» وأنتم قتلتموها تشريحًا وتحليلًا.. أخشى ما أخشاه أن تظل المسكينة تعاني آلام سرير بروكست لزمن قد يطول.

– لا يا عم.. قلنا له.. لا بد أنها ستتعافى سريعًا.. الأعمال الكبرى لا يضيرها التشريح والتحليل بل ربما زاد في
طول عمرها.

جاء أحد أصدقائنا الكتاب يطلب سيلفي مع المؤلف برسم الذكرى.. وتبعه آخرون وأخريات فتعددت السيلفيات وشغلتنا عن حديث العائلة وشجونها.. وعندما طاب الجو ورقت نسماته رفعنا جماعة شعار الكوجيطو العربي الجديد: أنا أسيلفي إذن أنا موجود.

عمل أحمد عبدالوهاب – من مقتنيات الشارخ

كنيسة قبطية وسيلفي مع ضابط مخابرات

بعد سنوات من حصول هذه الواقعة حكى لي الأستاذ الشارخ هذه الطرفة التي موضوعها السيلفي بالذات وأستسمحه هنا في سردها بلسانه على كريم مسامعكم:

ذهبتُ مع صديقي الكاتب المصري عزت القمحاوي بالسيارة إلى مدينة الأقصر لمشاهدة الآثار الفرعونية التي سبق لي أن شاهدتها مرارًا وتكرارًا. وبعد الفراغ من ذلك أثارت انتباهي كنيسة قبطية فقررتُ أن أقوم بزيارتها بينما فضل رفيقي لأمر ما انتظاري في حديقة قريبة.. وعند مدخل الكنيسة استوقفني الشرطي القائم بالحراسة وبادرني بالسؤال غير البديهي: هل أنت مسيحي؟ فأجبته بكل تلقائية.. لا.. أنا مسلم من الكويت. نظر الشرطي في جوازي وسمح لي بالدخول.. كانت الكنيسة بديعة الهندسة ورائعة الزخرفة من الداخل وتستحق فعلًا أن يصرف الواحد شيئًا من الوقت لرؤيتها.. وبينما كنت مستغرقًا في مشاهداتي متأملًا في سقوفها وأيقوناتها.. جاء الحارس يطلبني لأن أحدًا يرغب في التحدث إليّ في الخارج «عايزينك برة..».. كان السائل قسيسًا مكتهلًا في لباسه الرسمي ومن دون حتى إن يسلم خاطبني بشيء من الغلظة: هل أنت مسيحي؟ فرددتُ عليه مرة أخرى:

– بل أنا مسلم يرغب في زيارة موقع سياحي…

-ولكن.. أضاف القس.. هذا مكان للعبادة وليس بموقع سياحي.. ولا مبرر ليدخله غير المؤمنين.

وهنا شرحتُ لمحدثي بأنه حتى في أوربا يسمحون للسياح من دون التحقق من ديانتهم بزيارة الكنائس والتجول فيها لوجه السياحة والتفرج.. ولم يكترث القس بما سمعه بل سارع على الفور إلى القول بغلظة أكبر:

– اطلع بره.. أنت جاي من الكويت.. ومش مسيحي.. ما هذه الألغاز يا إلهي؟

وعلى إثر ذلك ظهر شخص علمت أنه من المباحث المصرية وحاصرني بالأسئلة كأنه يحقق معي في أمر إرهابي خطير.. وهنا ذهبت عني الغفلة وجاءت الفكرة.. أخرجتُ من جيب «جاكيتتي» هاتفي الذكي وفتحت تطبيق غوغل على اسمي الشخصي وعرضت محتواه على المحقق الذي فوجئ بأن الكائن الماثل أمامه هو الكاتب ورجل الأعمال الكويتي فلان الفلاني أول من دشن المعالجة الرقمية للغة الضاد وطور نظام اشتغال الحواسيب العربية عبر شركته المعروفة عالميًّا باسم صخر.. وغير ذلك من مكرور الكلام.. هو أول مَن فعل وهو أول من ترك..
إلخ.. إلخ.

ومن المصادفات الأرضية السعيدة أن الرجل المحقق كان على معرفة معقولة بهذا الإنجاز وسبق له أن اشتغل شخصيًّا على التطبيق إياه أيام دراسته الجامعية.. وأكثر من ذلك أتيح له أن يطلع على بعض الكتابات القصصية والروائية للشخص الواقف بين يديه في هيئة لا تشي بشيء مما يذكرونه في ويكيبيديا وغوغل.. فما كان منه إلا أن اعتذر لي بكل أدب على جميع ما حصل بدون قصد.. ولكي يتوج هذا اللقاء الغريب التمس مني بخجل ومودة أن يأخذ معي صورة بطريقة السيلفي لتبقى لديه ذكرى عن هذا اللقاء العجيب.. وأخيرًا وبمبادرة إضافية وودودة منه أشار عليّ بزيارة عدد من المواقع الأثرية القريبة على سبيل استكمال سياحتي، وأعلمَ زملاءه القائمين على أمنها أن يحسنوا استقبالي ويكرموا وفادتي..والحق يقال فهم كانوا يفعلون ذلك وأكثر حتى إن الواحد منهم عند نهاية الزيارة كان يطلب بنفس الخجل والمودة أن يأخذ معي صورة سيلفي.

المنشورات ذات الصلة

جائزة الملك فيصل العالمية

جائزة الملك فيصل العالمية

مُنح الأديب ورجل الأعمال الكويتي محمد الشارخ جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، لمبررات منها: قيامه بإنتاج أول برنامج...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *