كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الرسام العراقي سعد الطائي: من العبث أن يقوم الفنان بالتنظير داخل اللوحة
لا يضع المتلقي في محنة قد تبعده من فهم مقاصده
يعد سعد الطائي واحدًا من أبرز الأسماء الفنية العراقية منذ زمن بعيد. ولد هذا الفنان عام 1935م على ضفاف نهر الفرات قرب مدينة بابل التاريخية. أحب الطبيعة فرسم تفاصيلها منذ صباه. نال شهادة الماجستير في الرسم من أكاديمية الفنون الجميلة في روما في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ليعد أحد أعضاء جمعية الانطباعيين الذين ساهموا في تعزيز هذه المدرسة الفنية. ترأس قسمي التربية الفنية والفنون التشكيلية في كلية الفنون الجميلة. يطرح هذا الحوار شيئًا من الأثر التاريخي لواحد من الرواد في الرسم العراقي. حاورناه حول منجزه الفني في مرحلة الخمسينيات، وكيف ينظر إلى الفنون في هذا الزمن بعد أن طرأت متغيرات فنية وذائقة جمالية تعد اليوم مختلفة لو قورنت بمراحل سابقة.
● من يتابع رسوماتك يعتقد أنك تلازم التجريب، أيمكن لي أن أعد هذا الأمر هاجسًا لإعادة صياغة نصك البصري بين فينة وأخرى؟
■ لم يكن التجريب في أعمالي هاجسًا لمجرد التجريب، وإنما هي الدوافع الملازمة للاستمرار في العمل ينتج منها ما يمكن اعتباره تجريبًا متصلًا ببعضه مع ما سبقه في الأسلوب والموضوع، ففي الخمسينيات وما بعدها كان اهتمامي بالطبيعة وما فيها من ظروف تنعكس على ما فيها من بشر ومعاناتهم، وكان ذلك في رسومي التي نفذتها عن الأهوار في الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. فالموضوع هو الذي يحدد الصياغة واللون فتجد في رسوم الأهوار كان اللون السائد الأزرق وما جاوره، وعندما رسمت الصحراء فمن الطبيعي أن تكون الألوان ترابية، أما الفضاء فكان في الاثنين البحر والسماء والأرض الممتدة، وكان تداخل الأرض أو الماء في تقطيعات الفضاء متميزًا بكونه جزءًا من اللوحة وليس تزويقًا لها، وعندما رسمت الإنسان محاصرًا بالأخشاب كان ذلك تحولًا من السكون إلى الحركة وانتقال العين من جزء إلى آخر في اللوحة، وعندما رسمت الأحجار لا لكونها أحجارًا بشكلها المألوف وإنما خلقت منها حياة، وكانت تسميتي للمعرض «الأحجار تنطق بصمتها»، أو المعرض الذي قدمته في الثمانينيات عن (الأمل) وقدرة الإنسان على البقاء ما دام الأمل أمامه وهكذا، فالموضوع له الأثر الكبير في تحويل الشكل لغاياته مع الاحتفاظ بالأسلوب والتقنية التي ميزت أعمالي.
● اسمح لي أن أتساءل عن رؤيتك للفن في هذه المرحلة، وأود أن تقارنها لي بخمسين عامًا مضت؟
■ إن كان سؤالك يتعلق بالفن العراقي فيمكن لنا القول إنه بخير والفن في هذا البلد مستمر وفي تقدم، طالما هناك مدارس للفن كمعهد الفنون والأكاديميات التي يتخرج منها العديد ممن نستطيع القول إنهم يدركون ما يفعلون. لكن يبقى فرق كبير بين من يقلد الآخرين أو الاتجاهات الفنية العالمية وبين من يجد له طريقًا يميزه عن غيره ويكون مخلصًا لعمله ولأهدافه، وهؤلاء الفنانون درس غالبيتهم على أيدي رواد الحركة الفنية في العراق ممن درسوا في الخارج، ومعنى الدراسة في الخارج هو استيعاب ما يمكن الحصول عليه من الأستاذ أو المحيط الذي يساعده كثيرًا على التحصيل الفني، وأقصد بالمحيط هنا المتاحف المليئة بالأعمال الفنية، والمعارض الفنية المعاصرة التي يطلع عليها ويزيد من خبرته في التقنيات والاتجاهات والإبداعات التي لا تنتهي… أما ما كان سائدًا قبل خمسين عامًا أو يزيد فهو محدود بمحدودية الفنانين الذين عادوا من الغرب، وهم على قلتهم مبدعون ومتميزون ولكل منهم أسلوبه الخاص الذي كان أساسه الدراسة الأكاديمية في البلدان التي كانوا فيها في تلك المدة، فكانت الجماعات الفنية قليلة لكن المعارض التي نقيمها سنويًّا لها وزن فني عال، وإقبال الجمهور الذواق للفن لم يكن تقليدًا للآخرين بل تذوقًا حقيقيًّا ومعرفة عالية وثقافة فنية جعلت منهم أو من بعضهم مقتنين للأعمال الفنية التي يتفاخرون باقتنائها. من تلك الجماعات الرائدة جماعة الرواد، وجماعة بغداد للفن الحديث، وجماعة الانطباعيين العراقيين، ثم تلتها في ستينيات القرن الماضي جماعات أخرى كانت في نشاط مستمر وتواصل مع الحداثة وما ينتجه الآخرون، واستيعاب الأفكار الجديدة والأساليب المختلفة، لكنني أقول إن من اعتمد على إمكانياته الذاتية وتطوير أسلوبه في البحث والتقصي بقي مستمرًّا بأسلوب متميز، أما أولئك الذين تأثروا واستمرت علاقاتهم بما ينتجه غيرهم فلا تتمكن من تمييز عمل عن آخر ولا يمكن تشخيص أحدهم عن الآخر.
● هل تعتقد أن النقد المعاصر قد ولج عميقًا إلى تجربة مهمة كتجربتك الفنية؟
■ في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وبداية نشوء الجماعات الفنية ومن ثم جمعية الفنانين العراقيين (1954م) كان النقد الفني مرافقًا للحركة الفنية. على الرغم من قلة النقاد آنذاك، وكان النقد موضوعيًّا لا يجامل أحدًا، وقد كتب العديد منهم عن أعمالي وحرصوا على متابعة ما أنجزه. وآراؤهم الصريحة في التحولات الأسلوبية التي أبقت على الطراز متميزًا في كل الحقب المتتالية، فقد كتب جبرا إبراهيم جبرا، وكتب شوكت الربيعي الذي استمر طويلًا في متابعته لأعمالي ونقدها، وشاكر حسن آل سعيد وعادل كامل الذي ما زالت كتاباته عن منجزي مؤثرة وعميقة، والعديد من النقاد الآخرين. وقد برزت مؤخرًا دراسة أكاديمية للباحثة إخلاص ياس السامرائي في رسالتها التي نالت بها درجة الماجستير عام 2003م ففي هذه الدراسة تطرقت إلى التطور الأسلوبي في أعمالي من عام 1950 حتى عام 2000م، ثم مؤخرًا صدر كتاب نقدي عن جمعية الفنانين العراقيين من تأليف الدكتور جواد الزيدي الذي كان موفقًا في (الولوج عميقًا) إلى تجربتي التي زادت على نصف القرن. وما أجده ضروريًّا هو أن يكون الناقد متابعًا لما ينجزه الفنان، وأن يبحث في الجديد المتطور والتحولات التي لا تأخذ العموميات بل التفاصيل لمنجز واحد مثلًا ودراسته وسبر أغواره، فالمتلقي ينتظر ما يراه الناقد ويحلله كي تزداد المتعة وتعم الثقافة الفنية.
إشكاليات التسميات
● أما زلت وفيًّا للمدرسة الانطباعية، وما مؤثراتها السابقة واللاحقة في فنك؟
■ إن إشكالية التسميات ما زالت قائمة عندنا وتسمية الجماعات الفنية في مقدمتها، ومنها جماعة الانطباعيين العراقيين التي كان مؤسسها الفنان حافظ الدروبي، وصرت عضوًا فيها حال رجوعي من الدراسة في إيطاليا عام 1957م، ولم يكن جميع أعضائها انطباعيين، ولم أكن أنا كذلك لكن هذه التسمية طبعتنا بطابع الانطباعية التي حاولنا مرارًا تغيير التسمية، وغيرت من جماعة الانطباعيين إلى جماعة الانطباعيين العراقيين للابتعاد من المدرسة الانطباعية الفرنسية في القرن التاسع عشر التي كانت تسميتها تنطبق على أساليب الفنانين المنتمين إليها، وبهذا لم تكن التسمية عندنا منطبقة على أساليب غالبية أعضاء هذه الجماعة، ولكن أقول إني لم أبتعد عن الاهتمام بالانطباعات التي تحدثها البيئة في أعمالي، ولم أبتعد إلى التجريد، فالتغيير عندي أهم من الشكليات المجردة.
● أود أن أتساءل عن هوية فنك أين تكمن اليوم سواء الفكرية منها والجمالية؟
■ أنا مهتم بمخاطبة المشاهد ليس سطحيًّا وإنما في جعله ينظر إلى اللوحة ويدور بعينيه في كل بقعة منها، فأنا لا أهتم بنقطة نظر واحدة يرتكز عليها الموضوع، وإنما مجموعة من النقاط المنظورية، أرضية كانت أم فضائية، هكذا من ناحية الشكل أما الموضوع فهو أساسي في أعمالي، والفكر الذي يدفعني إلى إنتاج اللوحة ليس إلا عمق مشاهدة وتمحيص لما أراه وأتأثر به. والقراءة كذلك منبع كبير للمعارف وقراءة الشعر تنير الدرب للفنان وتلهم خياله كما هي الحال عند الشاعر.
ذاكرة الفنان
● كيف لك أن توفق بين الذاكرة ومظاهر اليوم في رسم لوحة لا تخرج عن إطار أسلوبك المميز بتوظيف البيئة والماضي معًا؟
■ إن ما تختزنه الذاكرة من الطفولة لا ينسى، وهو ما يثير في الفنان الرغبة في استذكاره، وعندما أرسم قد تمر حادثة أو مشهد علق في الذاكرة يكون مؤثرًا في عملي تمتزج معه ما في المخيلة من مفردات قد تكون واضحة أو ضبابية لكنها فعالة في المشهد الجديد، والأسلوب لا يتأثر كثيرًا في تغيير المشهد أو الفكرة. أما مفردات البيئة فهي مكررة إلا في الأدوات التي تستحدث لتجد مكانها في اللوحة.
● كان للمرأة نصيب من لوحاتك، وكان للقباب حضور مميز وللقارب رؤية زمنية، هل ما زال تأسيس هذا الفضاء سمة لمعالجاتك الفنية؟
■ رسمت العديد من اللوحات التي تمثل المرأة وبخاصة في كونها رأس هرم البيت مع الأطفال، وهناك العديد من هذه اللوحات يمثل العائلة ثلاثية الأشخاص، فمرة داخل صخرة، ومرة تتحمل ضغوطًا مما حولها، وأخرى مع نساء تجمعهن اللوحة لكن دون ارتباط إلا في التوجه إلى مكان معين، فترى في بعض اللوحات نساء يندفعن إلى السوق أو إلى اتجاه غير معلوم منفصلات عن بعضهن كما في بعض لوحات الستينيات، لكن الهدف واحد. رسمت أشخاصًا لا تظهر عليهم معالم المرأة أو الرجل لتمثيل الإنسان لغاية أريدها، أما القارب فكان رسمه بتأثير البيئة التي شاهدتها وأغرتني في مخاطبتها… ومرة أعجبني مشهد تلاميذ المدرسة الذين يصلون بقواربهم (المشاحيف) ويتركون المجاديف متكئة على حائط المدرسة، وعند انتهاء الدوام يأخذ كل واحد منهم مجدافه وينطلق مع أخيه أو أخته متجهًا إلى كوخه في الهور. أما عن سؤالك عن القباب فهي الحقبة الأخيرة التي انبهرت برسم معالمها، وابتدأت أول لوحة عن القبة المخروطية لزمرد خاتون، وبعد دراسة تلك الأشكال أثارتني مشاهد القباب الأخرى والمآذن والأروقة في القصر العباسي وأروقة الجامعة المستنصرية وغيرها، فأنا لا أرسمها كما هي منظورة كما الآلة، وإنما أريد لها أن تتداخل فيها المشاهد كما تتداخل مشاهد زوار القباب المقدسة من خلال المرايا في سقوف المبنى، والفضاء ملازم لأعمالي. وقد أثار ذلك اهتمام المخرج الكبير إبراهيم جلال في قيامي بتصميم عدد من الديكورات لمسرحيات أخرجها.
● أتشغلك المسألة الباطنية وتوظيفها في الفن؟
■ لا أضع من يتلقى أعمالي في محنة قد تبعده من فهم مقاصدي، ولذلك أتحسس بأن ما يشغلني هو الوصول إلى المتلقي وتعرفه على ما أريد لا بالسهولة المطلقة ولا بالصعوبة والتعقيد الذي لا مبرر له، ومن العبث أن يقوم الفنان بالتنظير داخل اللوحة فهي لغة وحدها تشاهد في كل مكان وكل زمان، أما المسألة الباطنية فأنا أقول هي أساس كل أعمالي، وليست هناك لوحة رسمتها من دون أن يكون فيها ما يمكن قراءته والاستمتاع به.
● أريد أن تعلن لي عن انطباعك في الفن العراقي وبخاصة فنانو جيلك؟
■ فنانو جيلي منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر: فائق حسن، جواد سليم، عطا صبري، أكرم شكري، حافظ الدروبي وغيرهم أسن مني بمعدل عشرين أو خمسة عشر عامًا، لكني جايلتهم واشتغلنا معًا سواء بالتدريس أو النشاطات الفنية خارج النطاق الأكاديمي، فكان منهم رموز معروفة، ومنهم من أدى ما عليه من واجب في التعليم وأجاد فيه، ومنهم من بقي يمارس أسلوبه الفني متمسكًا بما هو عليه، وآخرون صارت لهم بصمات واضحة في الفن العراقي ولا يزالون يثبتون وجودهم كمبدعين.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق