لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية
«إن البديل الذي أقترحه لا يحاول تبرئة الأنثروبولوجيا من حمولتها الكولونيالية؛ فعكس ذلك هو الصحيح، لكني أفضّل اتخاذ منهج جديد في النقد؛ هذا المنهج يقتضي الدخول العميق في التصورات والمفاهيم والوقائع التي تزخر بها تلك الأنثروبولوجيا إلى حد تأزيمها. حاولت اقتراح البديل من خلال الدخول في جوانب من عمق المعرفة الأنثروبولوجية، قابلت بينها وبين الرصيد العلمي والثقافي لمنطقتنا؛ مقابلة أدت إلى الوقوف على الضعف الذي سكن الأسس الإبستيمولوجية لذلك الموروث الأنثروبولوجي. وفي دفعة واحدة أدت تلك المقابلة إلى شق طريق بديل في اتجاه خطاب مستقل». عبدالله حمودي
يقدم لنا الكتاب موضوع القراءة: «المسافة والتحليل في صياغة أنثروبولوجيا عربية» للأنثروبولوجي المغربي عبدالله حمودي (دار توبقال للنشر، الدار البيضاء) مشروعًا معرفيًّا، قلّ نظيره في منطقتنا العربية، ألا وهو: صياغة معرفة أنثروبولوجية عربية، ومنها إلى صياغة سوسيولوجيا عربية، بل صياغة علوم اجتماعية عربية. والحال أن منطقتنا العربية اليوم في حاجة ماسة أكثر مما مضى إلى هكذا مشروعات علمية ومعرفية. هي محاولة من بين محاولات أخرى يمكنها أن تساهم في إعادة بناء وتشييد بنيان العلوم الاجتماعية في العالم العربي، وبالتالي التمكن من بلورة معرفة علمية قادرة على تشخيص وفهم الحالة، والوضعية، والوجود، والسيرورة التاريخية الراهنة للإنسان العربي والمجتمعات العربية، في المغارب والمشارق. ليست هذه المرة الأولى التي يعلن فيها صاحب الكتاب عن مشروعه العلمي والمجتمعي هذا، بل كان ملازمًا لأعماله ومتضمنًا في أبحاثه ودراساته، طيلة مساره العلمي: من تمرسه الميداني في واحات ورزازات ودرعة..، مرورًا بـ«الشيخ والمريد»: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة و«الضحية وأقنعتها بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب»، تعريجًا على «حكاية حجّ، موسم في مكّة»..، «الرهان الثقافي وهمّ القطيعة»، «الحداثة والهوية سياسة الخطاب والحكم المعرفي حول الدين واللغة»، وصولًا إلى كتابنا المعني.
سعي إلى تخطي التهميش
يمثل الكتاب الذي بين يدينا منعطفًا إبستيمولوجيًّا مهمًّا، ليس في أعمال صاحبه فحسب وإنما في النقاش الحاصل، بين مثقفينا العرب، منذ الاستقلال السياسي عندنا إلى اليوم، حول معارف العلوم الاجتماعية عامة، وحول المعرفة الأنثروبولوجية الكولونيالية منها وما بعد الكولونيالية، خاصة. وهو يسعى إلى المساهمة بشكل أو بآخر في مجاوزة التهميش والإقصاء والرفض الذي طال ويطول مجالًا معرفيًّا خصبًا كالأنثروبولوجيا من جهة، ومن أجل مجاوزة وضعية القصور والتبعية اللذين تشهدهما العلوم الاجتماعية عمومًا، من جهة ثانية، من خلال أولًا وقبل أي شيء آخر التجربة الأنثروبولوجية للباحث نفسه، أو بالأحرى التفكر الإبستيمولوجي في وضعية الأنثروبولوجيا في العالم العربي، من داخل الممارسة الأنثروبولوجية نفسها للباحث المعني. انطلاقًا من رصد الانتقادات الموجهة للمعرفة الأنثروبولوجية ومشروعيتها العلمية، والتي حددها في حركتين نقديتين اثنتين، على غرارهما يقترح علينا عبدالله حمودي اختيارًا ثالثًا، أو طريقًا آخر مغايرًا لكلتا الحركتين. يتحدد هذا الاختيار في: صياغة الأنثروبولوجيا أو بالأحرى إعادة صياغتها.
إننا أمام اختيار مغاير تمامًا. مغاير للمواقف والتصورات المعهودة التي طالما وسمت الساحة الثقافية العربية التي تنحو إما نحو الرفض الكلي للأنثروبولوجيا بوصفها علمًا استعماريًّا ذا خلفيات أيديولوجية مشبوهة، وبالتالي تهميشها وإقصاؤها كلية من المشهد الثقافي، سواء لمبررات أيديولوجية سياسية كالقومية العربية أو كمقولة الخصوصية، أو لمبررات إبستيمولوجية واهية تنم عن جهل أو ضعف في تملك نظرية المعرفة الخاصة بهذا المجال وهضمها، وعدم مواكبة المستجدات والمنعرجات الإبستيمولوجية في ميدان من هذا القبيل. أو النحو منحى الاقتباس الأعمى، وما ينتج عنه من منزلقات إبستيمولوجية، وكذا تكريس وضعية التبعية المعرفية لمجتمعات المركز، للمجتمعات الأوربية والأميركية. مع دعوات أخرى إلى تعويضها بمجالات أخرى، كالتاريخ والسوسيولوجيا.
هما حركتان نقديتان شديدتان لا ثالث لهما، ساهما بشكل مباشر في وضعية الرفض الذي طال الأنثروبولوجيا. ظهرت الأولى في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، تتمثل في ثلاثة مجالات أساسية، في السوسيولوجيا مع عبدالكبير الخطيبي، في التاريخ مع عبدالله العروي، وفي الفلسفة مع الجابري. أما الحركة الثانية، فظهرت في الثمانينيات من القرن نفسه مع إدوارد سعيد. وهو ما كرّس الوضع نفسه. في مقابل هذه المواقف السائدة والمعهودة عندنا، يقدم لنا عبدالله حمودي البديل المعرفي الممكن لتجاوز هذا الوضع المأزوم. وهو ما عبر عنه بعبارة: صياغة أنثروبولوجيا عربية. أيّة صياغة لأنثروبولوجيا عربية؟ ماذا تعنيه الصياغة في هذا المقام؟ وبأيّ معنى هي عربية؟ أو بالأحرى: ما الجدوى المعرفية من صياغة الأنثروبولوجيا عربيًّا أو بالأحرى إعادة صياغتها؟ وكيف السبيل لهذه الصياغة أو إعادة الصياغة؟
لهدم وإعادة البناء
أما الصياغة وإعادتها، فهي تستعمل ها هنا، بما تعنيه الكلمة من معنى اصطلاحيًّا وإيتيمولوجيًّا: يخص منها وجهين، الأول هو التذويب وإعادة التشكيل، والثاني يحيل إلى تشكيل القول مع أمل أن يكون مستساغًا من طرف السامع والقارئ. الصياغة بهذا المعنى هي: الهدم وإعادة البناء. وهذا هو معنى التفكيك كما نجده عند جاك دريدا، إلى حد ما. ربما لن نجازف إذا ما قلنا: إن عبارة «صياغة» أكثر دقة في الترجمة من كلمة التفكيك لمفهوم Déconstruction.
بهذا تكون، عملية صياغة الأنثروبولوجيا أو إعادة صياغتها ممكنة، على إثر الحركتين النقديتين الآنفتين، وما نتج عنهما من إقصاء وتهميش ورفض في المجال الثقافي والمعرفي العربي. من هنا، ومن هنا فقط تستمد صياغة الأنثروبولوجيا مبررها وإجرائيتها. أما كونها عربية، فهذا لا ينبغي أن يحيلنا إلى نزعة قومية أو أيديولوجية تقول بأسلمة الأنثروبولوجيا وعروبتها كما هو معهود عندنا، وبخاصة في المشرق العربي، وإنما هي عربية، أولًا وقبل أي شيء آخر؛ لأنها تنجز وتكتب باللغة العربية وسننها. أَوَلَيسَتِ اللغة.. دار الوجود كما ينبهنا هايدغر؟
إنها أنثروبولوجيا عربية بالمعنى الذي تتخذ فيه من اللغة العربية مسكنًا ودارًا لها، بل موطنًا لها. بهذا المعنى يمكننا الحديث عن أنثروبولوجيا عربية، عن صياغة أنثروبولوجيا عربية. الكفيل بتفادي التاريخ الاستعماري للأنثروبولوجيا من ناحية، وتفادي إشكالية الهيمنة والتبعية اللتين تسكنان تشكيل وتكوين المعرفة الخاصة بها إبستيمولوجيًّا. هذه الأنثروبولوجيا التي يدافع عنها صاحب «المسافة والتحليل». أنثروبولوجيا، تأخذ من التجربة الميدانية (مع التنظير: إنتاج مفاهيم من داخل تراث المنطقة العربية وواقعها)، بدل النصوص، منطلقًا وحقلًا لها. هي أنثربولوجيا الباحث المنتمي الذي يسعى باستمرار إلى موضوعة مجتمعه وموقعه في هذا المجتمع، بوصفه عضوًا فيه. من خلال المسافة والتحليل المتلازمين. مسافة وتحليل الباحث المنتمي. مسافة أشد حميمية، وأكثرها اجتثاثًا لتلك الحميمية نفسها، في الآن نفسه. إنها غربة في قلب الحميمية. هذه هي المسافة المثلى بالنسبة للأنثروبولوجي المنتمي.
أنثروبولوجيا عربية من هذا القبيل بإمكانها أنْ تفتح الأفق أمام الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية كافة، للنحو على المنهج والمشروع نفسهما. مشروع بإمكانه أنْ يفتح الأفق للنقاش بين الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية.. من أجل صياغة أنثروبولوجيا عربية، يمكنها المنافسة جهويًّا، إقليميًّا، وقطريًّا وعالميًّا.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق