كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
جورج بتاي في «أدب الشر».. تمرُّس وجرأة وبصيرة نقديّة مُقارنة
في سنة 1957م صدر في باريس كتاب جورج بتاي «الأدب والشر»، وهو كتاب سجالي نقدي يتناول، عبر مدخل وثمانية فصول، ثماني شخصيات أدبية غربية ساهمت بصناعة المشهد الأدبي والفكري هي: إيميلي جين برونتي (بريطانية)، وشارل بودلير (فرنسي)، وجول ميشله (فرنسي)، ووليم بليك (إنجليزي)، وماركيز دي ساد (فرنسي)، ومارسيل بروست (فرنسي)، وفرانس كافكا (تشيكي)، وجان جينيه (فرنسي). تجدر الإشارة إلى أن «الأدب والشر»، ترجمهُ إلى لغة الضاد حسين عجّة (2019م) في طبعته الثانية، وصدر في بغداد عن دار سطور بواقع 224 من القطع المتوسِّط.
وإذ يعود كتاب جورج بتاي (1897 – 1962م) إلى خمسينيات القرن العشرين فإنما يعلّمنا الكيفية الحرة التي يصطفي بها كاتب ما مثل بتاي موضوعة حيوية كالشر ليستعرض معطياتها لدى عدد من الكتاب الكبار الذين نقرأ لهم في حياتنا، استعراض الخبير الذي يلج النصوص بجرأة نافرة تعوّدنا صوتها النقدي عند جورج بتاي في غير كتاب له وجد طريقه إلى العربية، ولا سيما خلال السنوات الخمس الماضية منها، كتاب «الإيروسية» وكتاب «التجربة الداخلية».
في هذا الكتاب أفنى الأستاذ حسين عجّة وقته بترجمته عبر لغة رشيقة رغم عسر معجمية جورج بتاي عندما يكتب، لكن من الواضح أن عجّة بذل جهدًا رائعًا في نقل هذا الأثر النقدي السجالي إلى لغة الضاد. يعترف بتاي في «المدخل» بأن هذه الدراسات التي يضمها هذا الكتاب «فرضت عليه تماسكها وهي مكتوبة من جانب رجل بالغ»، لكنه يستأنف فيقول: «إنها ترجع إلى صخب الشباب؛ بل هي الصدى الصامت لتلك الفتوة». وفي هذا السياق، يعترف بتاي بأن «الأدب هو الجوهري» وكذلك هو «التواصل»؛ بل أكثر من ذلك يعتقد أن «الأدب ليس بريئًا، بل هو مذنب»؛ فهل يحق للأدب بوصفه مذنبًا الدفاع عن نفسه؟
كم ترانا بعيدين عن إيميلي جين برونتي التي ولدت في 30 يوليو 1818م وتوفيت 18 ديسمبر 1848م، وعاشت عمرًا قصيرًا لم يتجاوز ثلاثين سنة لكنها قالت خطابها بما راق لبتاي الذي وجد أن «أخلاقها النقية لا تشوبها شائبة»؛ بل إن خطاب برونتي «ينطوي على تجربة عميقة إزاء الشر»، فلم «يكن في ذهن برونتي عالمًا مستقرًّا». ويقف بتاي عند المعنى الأخلاقي للتمرّد «تمرّد الشر ضد الخير»، ويميل بتاي إلى إرساء مفهوم التراجيديا في قراءته لبرونتي؛ «فلا يمكننا الحصول على بهجة الحياة إلا عبر رؤيته التراجيدية».
أزهار الشر
إلى شارل بودلير، وتحديدًا إلى تجربته في ديوان «أزهار الشر» هذه التجربة التي حملته إلى المحاكم؛ إذ يعتقد بتاي أن «عنصر الشر واضح تمامًا في أعمال بودلير»، ويجادل بتاي جان بول سارتر الذي كان تناول بودلير في كتاب له، ولا سيما أن الفيلسوف الوجودي «يربط من دون قصدية المشكلة الأخلاقية بمشكلة الشعر»، وبودلير – بحسب تعبير بتاي – هو «الإنسان الذي لا ينسى نفسه»، يأتي ذلك في ظل نقد حاد يكيله بتاي إلى قراءة سارتر الذي «يخطئ في التأويل الملتبس الذي يقدّمه عن تجربة بودلير»، لكن بتاي يعترف بأن ديوان «أزهار الشر» «ينطوي على ما يبرر تأويل سارتر الذي قال: إن بودلير كان مهمومًا في أن تكون حياته سوى الماضي»، ولا سيما أن هذا الشاعر وعندما كان طفلًا تراه «مشدودًا جسدًا وقلبًا إلى أمه».
إلى ذلك، يربط بتاي تجربة الشر لدى بودلير بالعالم التاريخاني الذي يحيطه: فلا «يعبّر التوتر الذي لا مثيل له لبودلير عن ضرورة فردية وحسب، وإنما نتيجة لتوتر مادي مُعطى تاريخيًا من الخارج» ما يعني أن تجربة «أزهار الشر» تتجاوز «اللحظة الفردية» التي لا يغادرها الشر ولا التعبير عنه. ولنا نحن أن نتأمل متسائلين: هل للشر أزهار؟ كم مرّة علينا قراءة هذا الديوان؟
وبعد ذاك يأخذنا بتاي إلى ميشله وكتابه «الساحرة» الذي جعل ميشله ذاته من الذين «يتكلمون بطريقة إنسانية للغاية عن الشر»؛ بل بطريقة إن هي إلا فرصة لبتاي نفسه لكي «يطرح مشكلة الشر عقلانيًّا»، وميشله كان قد «منح العالم الذي تصوّره أكثر من خاصية التمرد».
وليم بليك
الشاعر وليم بليك «لم يكن مجنونًا، كان يقف عند حدود الجنون»، لكن بتاي يستأنف فيقول: «إن الإنسان الحقيقي، أي: العبقرية الشعرية، هو المنبع». وما هو لافت، يقول بتاي: «عن الدِّين ما هو إلا نتاج للعبقرية الشعرية، ولا يوجد شيء في الدِّين لا ينطوي عليه الشعر»، ويؤكّد بتاي أن «فضيلة بليك تكمن في تعريته للشكل الفردي للدِّين والشعر، وفي ذلك منحهما من جديد ذلك الوضوح الذي سينعم بفضله الدِّين بحرية الشعر، والشعر بالقوة السياسية للدِّين». ويستعين بتاي بكارل يونغ في تحليلاته السيكولوجية عندما يتحدّث عن الميثولوجيا التي اشتغل عليها بليك؛ إذ يعتقد بتاي أن الشعر في أصله «تنهد القيود»، وهذا ما يقودنا إلى «التمرّد» في العالم الذي نعيش، وتكمن قراءة الأمل لدى بليك في «عدم اختزال العالم»، وهو ما يتطلّب «اليقظة الأبديّة» التي تنتج متعة أبدية، لهذا يقول بتاي: إن «غبطة الحواس تشكّل حجر الزاوية في حياة بليك».
العنصر الملعون
إلى الماركيز دي ساد يأخذنا بتاي عبر نخبة من كتّاب ونقاد مروا على تجربته الأدبية والجمالية من دون إغفال «الطابع التحريضي» الذي تتسم به حياة ساد وأعماله الذي «تكمن جوهر أعماله في رغبته في التدمير»؛ بل إن «العنصر الملعون هو في الواقع ما كانت تبحث عنه أعماله»! ومعروف عن ساد أنه ما كانت لديه أيّة تحفظات ولا صرامة قد تسمح باختزال حياته إلى «مصاف مبدأ ما». وكنا قرأنا من ذي قبل كتابة بتاي عن ساد في الكتاب الأول عن الإيروسية وعلى نحو مستفيض لكننا ههنا نقرأ عن لعبة الشر التي تقبع في ساد وانفرط عقدها في كتاباته التي ظلّت تحتفي بما يسميه بتاي «الهيجان» أو «الألم المنشود» أو «الهتك» أو «التحريض» أو «الخلاعة والعري» أو «الرذيلة» أو «مستنقع البهيمية» أو «العربدة» أو عمومًا ذلك «الدافع الإيروسي بوصفه انهدادًا أو انحطاطًا أو تعذيبًا أو تدميرًا».
بروست وكافكا
ليس بعيدًا من ماركيز دي ساد نذهب مع بتاي إلى عوالم مارسيل بروست وفكرة «الفحولة» التي أوصلها لنا بوصفها «تجربة حياة إيروسية» منحها بروست «هيئة مفهومية» عبر مفهومات عدّة منها: «الشعور بالتدنيس»، و«تدنيس الأم»، و«الأمهات المدنّسات». وفي هذا السياق يؤكّد بتاي أنه «مثلما يكون الهلع معيارًا للحب يكون العطش للشر معيارًا للخير»؛ بل يؤكِّد أنه «ومثلما كان أكثر حذاقة من ساد كان بروست المتلهف للمتعة قد ترك لنزعة الشر ذات اللون الكريه للإثم ونفس إدانة الفضيلة».
ولا ينتهي الشر في الأدب عند هذه التجربة، إنما نجده عند العبقري كافكا، لكن بتاي يركّز قراءته في الجانب الطفولي لدى كافكا، ويميز بتاي بين كل من الجانب الاجتماعي والجانب العائلي، وكذلك الجانب الجنسي والجانب الديني في كتابته عن كافكا.
يعود بتاي، مرّة أخرى، إلى جان بول سارتر ليضفي على فصول كتابه هذا قدرًا من السجال عندما يتحدّث عن جان جينيه، لكنه وبصدد كتاب سارتر عن جينيه يقول: «يكرّس سارتر لشخص ومؤلف كتاب «يوميات لص» – وهو نص جينيه – يكرس عملًا طويلًا» تحت مسمى «القديس جينيه» ولا سيما أن هذا العمل يعد «واحدًا من الأعمال النادرة والجديرة بالاهتمام» وسط اعتقاد سارتر بأن هذا الكتاب إنما «يعبر فيه جينيه عن نفسه»، ذلك أن ثمّة كرامة في الأمر، والكرامة المقصودة لدى جينيه هي «المطالبة بالشر»، قال سارتر: «إن تجربة الشر هي كوجيتو باذخ يُظهر للشعور تفرّده بإزاء الكينونة». وتراني ههنا أعتقد أن عبارة مثل هذه هي التي خلبت لب بتاي وهو يهم بالكتابة عن جينيه ليتحدّث عن السيادة وقدسية الشر، وكذلك عن الانزلاق نحو الخيانة والشر المنفر، ومن ثم مأزق الخرق اللامحدود، كذلك عن التواصل المستحيل، وتاليًا عن إخفاق جينيه، والحرية والشر. يبدو هذا الفصل الذي يختم به بتاي كتابه هو الأكبر والأكثر سلاسة.
أخيرًا، وأنا أقرأ فصول هذا الكتاب، وجدت نفسي أشعر بلذة القراءة، والأكثر من ذلك أهمية هذا الكتاب وهو يلامس مشكلة الشر لدى هذه النخبة الرفيعة من المبدعين. ولعل الأجمل في هذا الكتاب سلاسة الترجمة التي يقدّمها لنا «حسين عجّة» خبيرًا متمرسًا، فطوبى لك مترجمًا وأنت تقدّم متن هكذا كتاب إلى القارئ العربي.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق