كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«بلاد القائد» لعلي المقري.. لعنة الدكتاتورية المدمّرة
يغوص اليمنيّ علي المقري في روايته الجديدة «بلاد القائد» في قلب بلاد متخيّلة يسمّيها عراسوبيا، يحكمها دكتاتور مهووس بجنون العظمة، يرصد المتغيرات التي تجتاحها في مرحلة مفصلية من تاريخها، حيث تنطلق فيها ثورة تحرق القائد والبلاد معًا، وتغيّر وجهها إلى الأبد بشكل غير متوقّع. يقسم المقري روايته (منشورات المتوسط، ميلانو، 2019م) إلى أربعة فصول/ فصوص: فصّ المرجوّ، فصّ المبجّل، فصّ الاكتمال، فصّ القذى، وكأن الفصوص الأربعة عبارة عن فصول أربعة لرحلة الدكتاتور من البداية حتى النهاية، وكيف تطورت شخصيته وصولًا إلى النهاية الفظيعة التي انتهت بها حياته.
يحكي كيف أنّ القائد الدكتاتور يستعين عبر رجاله بروائيّ مشهور للمساهمة في تدوين أجزاء من سيرته، حيث يُعَظَّم فيها، وإضفاء القداسة عليه، ويرضخ للمشاركة في ذلك تحت ضغط الحاجة المادية لإنقاذ زوجته المريضة سماح، ومحاولًا تبرير الأمر بصيغة ما، لكنّه يظلّ رهين الصراع الداخلي الذي يفتك به ويعكّر عليه أوقاته.
ذلّ الفضيحة: يعيش الروائيّ الذي يترك زوجته في مصر ويمضي إلى عراسوبيا مرارة القهر، وذلّ الفضيحة، يشعر بالمهانة؛ لأنّه يتحوّل إلى أداة لتمجيد طاغية، ويقوم بتسخير أدبه وعلمه من أجل صياغة حكايات تقدّس الدكتاتور، وفي الوقت عينه يواسي نفسه، أنّه يقدم على ذلك من باب التضحية لإنقاذ زوجته المريضة، ويعزّي نفسه بأنّه سيركل الفقر قريبًا ويصبح قادرًا على توفير ثمن العلاج لسماح. يشعر في الأيام الأولى لوصوله أن ما يعمله فضيحة في حياته الأدبية والشخصية، وقد ازداد هذا الشعور وهو يتخيل تصريحات لأحد النقاد عن عمله مع دكتاتور وبيع مواهبه الأدبية له، تلك المواهب التي قال من قبل: إنه قد سخرها للإشادة بالاستعمار. رأى نفسه بمنزلة فضيحة ممنوعة من الخروج إلّا بموافقة القائد وأولاده.
يجد الروائيّ المجلوب نفسه في معمعة لا يمكن الفكاك منها، يقع في مستنقع القائد وأسرته، من جهة تستدعيه الشيماء ابنة القائد، تطلب منه الزواج سرًّا، وتطالبه بإرضائها، وهو الذي يفترض به أن يكون خبيرًا باعتباره صوّر الحرمان والتمرّد وقارب مواضيع جنسية في أعمال سابقة له، وتحاول أن تظهر نفسها مظلومة وأنّ تجاربها السابقة في الزواج لم تكن ناجحة، وأنّه قد يكون المخلص الذي يعيد إليها رونقها وسحرها.
يصوّر صاحب «حرمة» بلاد القائد التي بدت هادئة ساكنة لا حياة فيها، تجتاحها رياح الثورة، تقلبها رأسًا على عقب، تغيّر الناس، بحيث ينقلبون على بعضهم بطريقة وحشية، يصبحون أشخاصًا مختلفين، تظهر وجوه كانت مخبوءة، وكأنّ الأقنعة تنزاح بطريقة فوضوية لتكشف رغبات الانتقام التي كانت متصاعدة بشكل غير معقول. كما أنّ الراوي الذي يقيم في بيت الضيافة، ويقدّم نفسه على أنّه خبير بتراث عراسوبيا، يصوّر مفارقات من الخوف الذي كان يفسد حياة الناس، والجرائم التي كانت تُقْتَرف في وضح النهار بحقّ أبناء البلاد، واستغلالهم وابتزازهم ومعاقبتهم بشتّى السبل، لتكريس قناعة لدى الجميع أنّ القائد منزّه ومقدّس ومبجّل وأيّة حركة يقوم بها تنمّ عن عبقريته وتفرّده وعظمته.
يحكي الراوي عن الأوقات التي سبقت عاصفة الثورة التي أطاحت بالقائد، وكيف كانت الأجواء تغلي، وظهر القائد في خطاب تجريميّ اتّهم الشعب بالخيانة وتوعّد بالقضاء على وصفهم بالفئران والخونة، وبدأ باستخدام القوّة المفرطة، متخيّلًا أنّه سيقضي عليهم من خلالها، وغير مدرك أنّ هناك ما يحاك من قبل قوى كبرى للإطاحة به، والاستجابة لما وصف بطلبات الثوّار بالتدخّل الدوليّ الذي زاد الطين بلّة، وتسبّب بمزيد من الانشقاقات بين القوى المحلّيّة لاحقًا.
في الرواية شخصيات عديدة، كأبي اليُمن، ومحمدين، وإسماعيل النون، والأحمد، والمحب، ونازك، والمنذر، ونادية، وأم أسعد، وسحر، والحالمة بموت الرئيس، وغيرها من الشخصيات، تحضر في سياق الأحداث المتسارعة، تؤثّث عالم القائد، وتدور في فلكه؛ لأنّه المركز الذي يتحكّم بمصايرها، وعليها الإذعان له وانتظار لحظة التغيير من أجل إعلان الانشقاق عنه، والبدء بالتنكيل به وبتاريخه. يختار المقري للراوي اسم علي، بحيث يتماهى معه في الاسم والصفة، يكون روائيًّا أيضًا، ويكون الإيحاء بتوثيق حكاية حصلت، وأنّ المسرود يحيل إلى الواقع، وإن بدا أنّه يفترق عنه بصيغة روائيّة. ويكشف أسرار القائد التي أصبحت معلنة، وكيف كانت لديه لجان متخصصة في تلبية نزواته المجنونة، وكان لديه مكتب أمينات السر المختص بتقديم الخدمات الخاصة له، وغير ذلك من التفاصيل التي تظهر حجم البؤس الذي كان يخيّم على البلد التي يتباهى القائد بأنّه بانيها وحاميها وأنّها تعرف به، ولولاه لما عرفها أحد.
رعب ويأس
يتجوّل الراوي في بلاد القائد، يحاول ألّا يلفت الانتباه، يشعر بنوع من الارتياح وهو يتطلع إلى وجوه الناس، ويقرأ يافطات المحلات، وكيف أنّ صور القائد كانت تحتلّ جميع الأماكن، واجهات المحلّات ومفارق الطرق، والساحات والأبنية العالية والكبيرة، بحيث يغطي على كلّ شيء، أو أنّ صورته هي الأهمّ في البلاد التي باتت تحمل لقبه وصفته كزعيم يرى نفسه معجزة زمانه.
يقول إنه في لقائه بالقائد، استمع إلى حديثه عن منجزاته العظيمة في البلاد التي صارت تحمل صفته؛ صفة القائد التي بدت بمنزلة اسمه، ويذكر أنّه عرف قبل سنوات طويلة أنّ عراسوبيا تعرف ببلاد الثورة، ولم يعرف إلا حين وصل إليها أنهم صاروا يطلقون عليها صفة أو اسم بلاد القائد، أما عراسوبيا، وهو الاسم الذي أطلق عليها في اليوم الأوّل للثورة، من جانب القائد نفسه، فلم يسمع أحدًا يردده، ويلفت إلى أنه بات من الواضح أنّه لم يعد متداولًا سوى في السجلات الرسمية بين البلدان. يصف الرعب الذي جثم على صدر البلاد في حياة القائد وبعد قتله والتمثيل به، وتغطية جثته بالقذى، وكيف أنّه عمّم الخراب بطريقة لا تستدلّ إلى أيّة محاولة للخلاص أو التهدئة، ونشر سموم اللعنة التي حلّت بمجيئه ورحيله، ولم تكن حياة الروائيّ علي بمنجى من ذاك الخراب؛ لأنّ زوجته المريضة بالسرطان ماتت أثناء غيابه، ولم يتمكّن من تحقيق حلمه بالثراء، وبالتمكّن من تأمين ثمن علاجها، وظلّ مسكونًا بشعور ضاغط يغرّبه عن ذاته.
ويصل إلى درجة من اليأس، ويصرّح أنّه لم يعد يهتمّ بمصيره، وما إن كان سيعود لبلاده أم سيبقى هناك، كما لم يهتمّ بمصير الشيماء التي جيء بها إلى بيت الضيافة ولم يعلن عن هويتها وأنها ابنة القائد، خوفًا عليها من الانتقام، ولا يعرف إلى أين مضت، حتى المعارك التي تدور وتطحن الجميع لم تعد تثير اهتمامه، وقد بدت أنها خرجت عن طورها، وتفشّت بين الجميع بشكل مرعب.
ولعلّ القارئ يبحث عن مطابقة بين الواقع والمتخيل، ويقترب من القول: إنّ البلاد المصوّرة التي تكون مزيجًا مركّبًا من الأحرف الأولى لكلّ من العراق وسوريا، والأحرف الأخيرة من اسم ليبيا، تكاد تستقلّ بذاتها على أنّها بلاد متخيّلة، لكنّها تمرئي الأحوال في كلّ من هذه الدول بصيغة أو أخرى، وتنحو لتركّز على الوضع في ليبيا، من دون أن يسمّي الروائيّ ذلك، لكنّ الأحداث والمتغيّرات والصفات، وحكاية القصر المبني على شكل خيمة، تميل للاقتراب أكثر من الخصوصية الليبية، كما أنّ صورة الغلاف تقترب من صورة للرئيس الليبي معمّر القذافي بشكل رمزي، ناهيك عن جوانب من التطابق في الأهواء الغرائبية والطقوس الجنونية التي كان يدأب على ممارستها وإظهارها، وطريقته في الحركة والكلام.
يلفت المقري إلى انسداد الأبواب والآفاق معًا في وجه الأدباء، وكيف أنّهم يضطرّون للرضوخ لما يملى عليهم، بحيث يناقضون ضمائرهم، ويكتبون تحت وطأة الحاجة والفقر والجوع والمرض ما لا يرضيهم، وما يكون تحايلًا على الذات والآخر، على الأدب والتاريخ، بالموازاة مع شعور اللعنة التي تطاردهم في حلّهم وترحالهم.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق