كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفساد كمحرك للانتفاضات الشعبية
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الفساد ظاهرة تختص بها بلدان العالم الثالث «الجنوب» في حين تنتفي في البلدان المتقدمة «الشمال»؟ التجارب والوقائع تؤكد أن الفساد أصبح ظاهرة عالمية توجد وتنتشر في البلدان والمجتمعات كافة بغض النظر عن مستوى تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
ففي أوربا الغربية اضطر المستشار الألماني السابق هلمت كول إلى تقديم استقالته من زعامة الحزب الديمقراطي المسيحي بعد فضيحة تلقيه أموالًا غير شرعية لتمويل حملات حزبه الانتخابية، وفي فرنسا أدخل ابن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، المعتقل بتهمة قبض رشاوى، كما أدين رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي السابق بتسهيل وتمرير صفقات مشبوهة مع شركة النفط الفرنسية «آلف أكتان» بالتعاون مع عشيقته كريستين جونكور، وفي إيطاليا حكم على رئيس وزراء سابق «جوليو أندريوني» بالسجن بتهمة الرشوة والفساد.
أما في دول شرق أوربا فإن الفساد أصبح سمة عامة للمرحلة الانتقالية من الاقتصاد «الاشتراكي» الموجه إلى اقتصاد السوق «الرأسمالي»، وهو مرتبط بسياسة الخصخصة وتصفية القطاع العام، ومختلف أنواع التعديات غير المشروعة كالتهرب من الضرائب، وسرقة المال العام، والتهريب، والتلاعب بسعر الصرف، وتهريب العملات الصعبة.
وفي روسيا ما بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، خصوصًا في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين فإن الفساد والرشوة أصبحا جزءًا لا يتجزأ من النسق السياسي الاقتصادي والاجتماعي في أعلى درجاته، الذي عبر عنه التحالف شبه المعلن بين المافيا ورجال المال والسياسة من جهة، وألمانيا التي تحكمت في جميع مفاصل الحياة في روسيا آنذاك من جهة أخرى.
وفي آسيا طالت تهم الفساد والرشوة عددًا من الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء وكبار المسؤولين في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وماليزيا وإندونيسيا وتركيا وباكستان وأفغانستان وإيران والصين وغيرها.
وطالت قضايا الفساد الدول الإفريقية، ودول أميركا الوسطى والجنوبية، والأمر ذاته يشمل الدول العربية، حيث سادت ولمدة طويلة جدًّا الأنظمة العسكرية والدكتاتورية والاستبدادية في معظمها، حيث حول الجنرالات والحكام وبطانتهم، وما يسمى بتحالف مافيا المال والسلطة، بلدانهم إلى مزارع خاصة لهم ولبطانتهم على حساب الأغلبية الساحقة من الشعوب، الذين يرزحون تحت وطأة الاستبداد والفقر والبطالة والجوع والمرض والقمع والإرهاب وانعدام اليقين وغياب الثقة والأمل في المستقبل.
وفي الواقع، إن قضايا الفساد لم تعد تقتصر على الدول والحكومات والشركات متعددة الجنسيات وشركات السلاح بل طالت المنظمات والهيئات غير الحكومية، وهو ما أجبر المفوضية الأوربية للاتحاد الأوربي قبل سنوات على تقديم استقالة جماعية بما في ذلك عضوة المفوضية رئيسة وزراء فرنسا السابقة إديث كريسون، كما نشير إلى فضيحة الفساد الكبرى التي طالت قيادات بارزة في الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا».
وفي كثير من الأحيان، إن القانون والقضاء والقضاة أصبحوا أداة وغطاء ودرعًا يحمي الفساد، وبخاصة فساد كبار المسؤولين والشركات الكبرى ذات النفوذ، وهو ما يحصل بالفعل في عدد من بلدان العالم الثالث بما في ذلك البلدان العربية.
تمدد الفساد وتغوله
لدى استعراض الدوافع المحركة للحراكات والثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربية، سواء في موجتها الأولى منذ 2011م التي شملت تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، إلى جانب ما نشاهده من حراكات شعبية عربية واسعة في الموجة الثانية الراهنة، كما هو الحاصل في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، نلحظ استشراء وتمدد وتوغل الفساد في مفاصل الدول العميقة وأنساق السلطة، إلى جانب وجود عوامل مهمة أخرى، كالاستبداد واحتكار السلطة، وهيمنة نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، إلى جانب تفشي الفقر والبطالة وتردي الخدمات التي تتسم بها أغلب الدول العربية، بمستويات مختلفة.
لقد تنبهت الأمم المتحدة لحجم المشكلة الخطيرة «الفساد» التي تهدد الاستقرار ونظام القيم والأخلاق في العالم، وأصدرت قرارًا مهمًّا حول وجوب مكافحة الفساد على المستوى الدولي؛ إذ تشكلت في عام 1993م منظمة الشفافية الدولية ومقرها برلين، وقد عقدت عددًا من المؤتمرات، من بينها مؤتمر في نهاية عام ١٩98م في بروكسل تحت شعار «في سبيل مناخ تجاري خالٍ من الفساد».
ومن الملحوظ أنه حيث توجد أطر سياسية وقانونية ورقابية قوية، وحيث يوجد حضور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني، فإن الفساد يتم تطويقه ومحاصرته وكشفه، واتخاذ الإجراءات النظامية والقانونية والقضائية الرادعة بحق مرتكبيه، مهما كانت مواقعهم.
غير أنه في معظم الدول «جلهم من بلدان الجنوب» حيث تكون الأطر السياسية والقانونية والقضائية ضعيفة ومخترقة أو معدومة، وفي ظل شلل وغياب مؤسسات المجتمع المدني وطغيان النظم الشمولية والدكتاتورية، فإن ثروات ومقدرات تلك البلدان تصبح لقمة سهلة في متناول أصحاب السلطة والنفوذ، ويمتد الفساد ليشمل الحلقات العليا والحلقات الدنيا ضمن الجهاز البيروقراطي المترهل، وما سهل عليهم تحقيق مصالحهم الخاصة والأنانية انعدام أو ضعف التخطيط والإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي، وشلل أو غياب أجهزة الرقابة والتحقيق والمحاسبة، إلى جانب تردي الأوضاع المعيشية والمادية لصغار ومتوسطي الموظفين الذين يعيشون البطالة المقنعة، وسط الإهمال والتسيب والروتين والإساءة للمواطنين، وعدم تقديم الخدمات اللائقة بهم، وفي ظل غياب أو ضعف سياسة العقاب والثواب ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب وفقًا لمبدأ التكافؤ والمساواة والعدل إزاء الجميع.
السلطة مدخل لتحقيق الثروة
في الغرب عمومًا فإن الثروة هي المدخل إلى السلطة، أما في بلدان الجنوب والشرق فإن السلطة هي المدخل لتحقيق الثروة، حيث يستغل رجال الحكم والشخصيات العامة مواقعهم بغرض الإثراء الشخصي غير المشروع عبر العمولات والسمسرة وسرقة وإهدار المال العام وعقد الصفقات المشبوهة.
في الواقع الفساد ظاهرة قديمة وتعود تاريخيًّا إلى المراحل الأولى لتشكل المجتمعات «العمران البشري» والدول، وكان متضمنًا للصراع الأزلي بين الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم، الحرية والاستبداد. كما احتل موضوع الفساد حجر الزاوية في النظام الأخلاقي/القيمي لجميع الحضارات والأديان، غير أن هذه الظاهرة «الفساد» في ظل نظام العولمة بمضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، أخذت بعدًا متقدمًا وحضورًا قويًّا على المستويين العالمي والمحلي.
التجارب التاريخية تؤكد أن عناصر الفساد والرشوة والجريمة المنظمة تستمد قوتها واستمرارها من حالة الجمود والشلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وضعف أو غياب الشفافية والمراقبة والمحاسبة؛ لذا فإن العديد من البلدان أقرت خططًا عاجلة للإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي، وعملت على تطوير الأنظمة والقوانين لتتواكب مع متطلبات الحياة والعصر، وتطبيق مبدأ «من أين لك هذا؟»، وتجريم أي تعدٍّ على الأموال العامة، أو استخدام الموقع والنفوذ والوظيفة من أجل الإثراء غير المشروع على حساب حقوق ومصالح الدولة والمواطنين.
وفي هذا الإطار فإن وسائل الإعلام المختلفة ومناهج التربية والتعليم تضطلع بدور كبير في التوعية الفكرية والوظيفية والأخلاقية حول احترام الملكية العامة للدولة والعمل على حمايتها من أي اعتداء أو إهمال أو تسيب، وفضح وكشف المتلاعبين بأموال وحقوق ومصالح الدولة والشعب أيًّا كانت مواقعهم.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق