لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
أدب الطفل في الوطن العربي.. بين حكايات الأطفال وروايات اليافعين
بعد قراءتي تلك الإحصائيات، التي تقول: إن كتّاب الأطفال يعيشون طويلًا، وربما يتمتعون بصحة أفضل من غيرهم، قفز إلى مخيلتي مباشرة اسم الكاتبة السويدية أستريد ليندغرين (1907-2002م)، أحد أهم الأسماء في عالم الكتابة للطفل، ووجدت الذاكرة متسعًا لشيخ الأدب الروسي ليف تولستوي (1828-1910م)، مستعيدة بعضًا من حكاياته الشعبية بمواضيعها المتنوعة، المناسبة للأعمار كافة، كما ضحكت طفولتي، وهي تنشد بعضًا من قصائد الشاعر سليمان العيسى (1921-2013م)، تلك القصائد التي كبرنا على إيقاعاتها السهلة، العذبة، وتناقلتها الأجيال بحماس ومحبة.
لا نستغرب أن يحظى كتّاب الأطفال برحلة طويلة مع الحياة، كونهم يعيشون في عالم خاص جدًّا، ويتعاملون مع مخلوقات لا تتوقف عن إبهارهم برحابة خيالها، فرادة دهشتها، واختلاف رؤيتها.
ولكن هل ينطبق الأمر على كتّاب الأطفال في وطننا العربي؟ وقبل ذلك هل يحقّ لنا القول: إننا نمتلك أدبًا للأطفال؟ يبدو السؤال صعبًا، وبخاصة أن الكثير من الأقلام التي كتبت للطفل، لم يتحول الموضوع لديها إلى قضية شاغلة، تهبها عمرها وروحها، بل بقي تجربة على هامش تجربة الكتابة عمومًا، وبقي كثير ممن رغبوا في الكتابة للطفل، أسرى طريقة كتابتهم للكبار، وبدا كأنهم بحاجة إلى من يذكرهم من وقت لآخر، أنهم يكتبون للأطفال، وليس للكبار.
شرفات الكاتب إلى عالم الطفولة
تبدو دور النشر الخاصة بالأطفال، ومجلاتهم الكثيرة المنتشرة في بلدان الوطن العربي، أهم نوافذ الكاتب لتعريف الأطفال بإنتاجاته، لكن هاتين النافذتين، كثيرًا ما تصيبان الكاتب بالإحباط، عندما يرى رئيس تحرير إحدى مجلات الأطفال الحكومية، يقتطع لنفسه أربع صفحات وأكثر في كل عدد، أو مشرفًا على ملحق للأطفال يصدر عن صحيفة عربية، يملأ الملحق بمواده، التي يخجل من سويتها مراهق في الرابعة عشرة من عمره. أما إن يمّم الكاتب وجهه شطر دور النشر، التقى مزاجيات أصحاب الكثير من تلك الدور، وغياب ما يمكن تسميته: الناشر المثقف، ليحتل مكانه ناشر لا يرى في الأمر أكثر من تجارة أثبتت أنها رابحة.
أكوام النصوص التي تصل إلى دور النشر -على حد قول المسؤولين عنها- يبدو أنها تركت تأثيرها السيئ في النص الجيد، فأصبح معظم ما ينشر دون المستوى المتوسط، إلى درجة تشعرك أن هناك اتفاقًا ضمنيًّا أن يكون النص متوسط المستوى، هو النص الغالب على ما يقدم. قضية إشكالية برزت في الآونة الأخيرة، تتعلق بموضوع حماية أفكار الكاتب، تلك الأفكار التي تتضمنها قصصه المرسلة إلى دور النشر، وغير الموافق على نشرها.
والسؤال هنا: هل هناك صعوبة في إيجاد آلية معينة، تشكل مرجعية للكاتب، ودليلًا على أحقيته بالفكرة أو النص، فيما لو رأى أحدهما أو كلاهما في طيّات كتاب، يحمل توقيع كاتب آخر؟ لا نظن أن الأمر بتلك الصعوبة، وهو مع ما أثرناه من نقاط، وأخرى لم نتطرق إليها، سيزيد الثقة في تجربة دور النشر، ويشعر الكتّاب بمزيد من الأمان والطمأنينة، الضروريين لاستمرار العملية الإبداعية، وربما يتوقف جلّ من أصادفهم من كتّاب الأطفال، عن ترديد الكلمات التالية: لا حلّ إلا في افتتاح دار نشر خاصة بي!
روايات اليافعين ومشكلة النص المسرحي
قبل سنوات، وفي إحدى ورشات الكتابة للأطفال في دمشق، قرأنا رواية لليافعين، لاسم مشهور في عالم الصحافة الأدبية، لكن تلك القراءة، سببت لنا الكثير من الإرهاق، ودفعتنا للتساؤل: هل نفتقد إلى هذه الدرجة كُتابًا محترفين في مجال الكتابة لليافعين؟ وما مفاتيح الكاتب عند التعامل مع هذه الشريحة العمرية الحساسة؟ وهل سنصل يومًا إلى التنوع المطروح في الغرب بالنسبة لسوق روايات اليافعين، التي تقدم كروايات بكل ما في الكلمة من معنى؟
مع الوقت ازداد الطلب على قصص اليافعين ورواياتهم، حتى إن بعض الدور أصبحت متخصصة بها، ولكن بقيت عوائق كثيرة أمام الكتّاب، من أهمها قائمة المحظورات الطويلة، وسعي كثير من الدور إلى تبني أعمال بسيطة في لغتها، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن أدب اليافعين الذي نريده، وبخاصة أن أجيالًا كثيرة قرأت أهم روايات الأدب العالمي والعربي في سن الرابعة عشرة، وتعلمت منها، ولم تفسدها الأفكار، التي ترى بعض دور النشر، أنها لا تصلح لليافعين.
من التجارب التي تستحق التوقف عندها، تجربة اللبنانية فاطمة شرف الدين، التي قدمت عددًا كبيرًا من قصص الأطفال، قبل أن تبدأ تجربتها مع كتابة روايات لليافعين، وتقدم في عام 2010م، رواية «فاتن»، التي ترجمت إلى الإنجليزية، تحت عنوان «الخادمة»، وفازت بجائزة أفضل كتاب في «معرض بيروت الدولي للكتاب» في دورة عام 2010م. عندما قرأت عن تحوّل الرواية إلى مادة دراسية في بعض مدارس لبنان، فكرت في موضوع الأعمال المسرحية الموجهة للأطفال واليافعين، التي تعتذر الغالبية العظمى من دور النشر عن تبنيها، بينما يمكن أن يسهم نشرها، في وصولها إلى المدارس، والدخول ضمن المنهاج الدراسي، فيقرأ الأطفال عملًا مسرحيًّا، ويؤدون دورًا فيه، فيصل الطفل إلى متعة التمثيل، متعة تغيير شخصيته الحقيقية، والدخول في لباس شخصية جديدة.
ومع المسرح تحضر السينما، فيمكن لقصص الأطفال الجيدة، أن تصوّر تلفزيونيًّا أو سينمائيًّا، لتكون مادة بصرية، أبطالها الأطفال، وتلبي حاجتهم إلى أعمال تشبههم.
محظورات دور النشر، وأخطاء التقييم
يطرح الكثير من كتّاب الأطفال، التساؤل التالي: من يحكم على سوية النصوص التي نقدمها إلى دور النشر؟ ما دمنا، في الأصل، نعاني ندرة في الأسماء التي تستحق أن تسمى ذات شأن وخبرة في مجال أدب الطفل، فهل يعقل أن تترك نصوصنا بين أيدي موظفين، كلّ إمكانياتهم إجازة في اللغة العربية، أو كتّاب مبتدئين، لا ترقى محاولاتهم لسوية أقل نصوصنا شأنًا؟
يحيلنا التساؤل إلى آخر: لماذا لا تستفيد دور النشر من الأسماء المهمة في هذا المجال، ليكون لهم رأي في مستوى النصوص المعروضة؟ كما أن كثيرًا من النصوص المرفوضة، تصل إلى دور أخرى، فتلقى ترحيبًا كبيرًا، وتحقق بعد صدورها نجاحات مهمة، وهو ليس بالأمر المستغرب، ولا ينتقص من قيمة أحد، فهناك دور نشر عالمية، رفضت أعمالًا كثيرة، ونشرها غيرها، ويحضرني هنا عمل روائي، حمل عنوان «مذاق التوت الأسود»، وهي رواية قصيرة للمؤلفة الأميركية دوريس بوتشنان سميث، نشرت في عام 1973م، في دار نشر مميزة، بعد رفضها من دور نشر كثيرة، بحجة احتوائها على أفكار لا تناسب الصغار، مثل موضوع موت إحدى الشخصيات. في الرواية يموت أحد الأطفال إثر لدغة نحلة في إحدى المغامرات الخاصة بالفتيان، ويعاني الراوي شعور الذنب بسبب خوض تلك المغامرات مع رفاقه. ننوه هنا أن موضوع الموت، هو واحد من المحرمات الكثيرة في أدب الطفل في بلادنا العربية، وكأن الأطفال والفتية لم يسمعوا بالموت قط، لا في الحياة الواقعية ولا على شاشات التلفاز!
يولد الطفل في وقتنا الراهن، وجهاز الكمبيوتر فوق رأسه، ثم يأتي من يريد أن يقصّ عليه حكايات، بالطريقة التقليدية التي استخدمها غيره قبل عشرات السنين. ربما لمثل هؤلاء الكتّاب، يطلق المفكر والأديب العراقي فاضل الكعبي، في كتابه العلم والخيال في أدب الأطفال، تساؤله المشروع: «هل يعقل أن نكتب لأبناء هذا الوقت باللغة والمنهجية والأسلوب والإيحاء والأجواء نفسها، التي كنا نكتبها لأبناء القرن الماضي؟».
بينما يجيب الروائي الكويتي طالب الرفاعي، عن سبب فقر المكتبة العربية بنتاجات أدب الأطفال، مؤكدًا أن الفقر الأساسي يخص كتب الأطفال العصرية، «للأسف، ما زالت المكتبة العربية لأدب الطفل، تدور في خانة الصياد والحمار والحمامة والديك والقرية، وهذه الأشياء على أهميتها ما عادت تمثل الواقع الحياتي الراهن. كما أنها تُقدم للطفل بطريقة بائسة محمولة على
الوعظ والإرشاد».
طموحات كاتب أطفال
يردد أحد أصدقائي من كتّاب الأطفال المجتهدين، حكاية الكاتب والشاعر الدنماركي، هانس كريستيان أندرسن (1805- 1875م)، صاحب الروائع الكثيرة، التي مرت على أجيال من الأطفال، دون أن تفقد شيئًا من ألقها و«طزاجتها»، مثل «بائعة الكبريت»، و«جندي الصفيح» و«عقلة الإصبع»، تلك الأعمال التي ترجمت إلى أكثر من مئة وخمسين لغة، واستوحى المخرجون منها مواضيع لأفلامهم، ومسرحياتهم، وأعمال الرسوم المتحركة، وأسّست جائزة باسمه، تعرف اليوم كواحدة من أرفع الجوائز في عالم جوائز أدب الأطفال، وتمنح مرّة كل عامين، لكاتب ورسام في احتفال كبير.
يزداد حماس ذلك الصديق، وهو يتحدث عن موضوع الطابع البريدي، الذي صدر حاملًا صورة أندرسن، ويحلم بيوم يحتل فيه أدب الأطفال مكانة كبيرة في بلادنا العربية، وتبرز أسماء، تستحق أن تصدر طوابع بريدية تحمل صورتها واسمها.
يشدني حماسه، وأشاركه فيه، لكني أعود لأفكر في المراحل التي يجب علينا قطعها، حتى نصل إلى ذلك اليوم، وإن نجحنا، وهذا ما آمله، سيأتي كاتب أطفال، ليقصّ للأجيال الجديدة، قصة كاتب، حلم برؤية صورته على طابع بريدي، وعمل بجهد حتى وصل إلى مبتغاه. الكثير من الأقلام التي كتبت للطفل، لم يتحول الموضوع لديها إلى قضية شاغلة، تهبها عمرها وروحها، بل بقي تجربة على هامش تجربة الكتابة عمومًا، وبقي كثير ممن رغبوا في الكتابة للطفل، أسرى طريقة كتابتهم للكبار، وبدا كأنهم بحاجة إلى من يذكرهم من وقت لآخر، أنهم يكتبون للأطفال، وليس للكبار.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق