كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مثقفو لبنان بين سلمية التظاهر والعنف.. والتهديد بكاتم الصوت
منذ بدء الاحتجاجات في لبنان (سميت انتفاضة وثورة وحراكًا)، طرح السؤال عن علاقة المثقفين والكتّاب بالتحركات والتظاهرات ودورهم فيها، خصوصًا أنها أتت من خارج الأحزاب التقليدية. تظاهرات بدأت عفوية وسرعان ما أصبحت كثيرة التشعبات في أكثر من مدينة وبلدة ودسكرة، واستعملت فيها شتى أنواع الطقوس والتعابير، من الهتافات النابية (طالت معظم زعماء الأحزاب اللبنانية الذين يقدسون أنفسهم) إلى الضرب على الطناجر (الأواني المطبخية) وصولًا إلى الكتابة على الجدران (الغرافيتي والإستنسل)، وشغلت الرأي العام بوجوهها وشبانها ونسائها. بدا الناس فيها كأنهم في «هايد بارك» بلا سقف، يعبرون بمواقفهم مباشرة على شاشات التلفزة بكل حرية، يريدون محاسبة كل شيء، يصفّون حساباتهم مع الماضي والحاضر والمستقبل، كأنهم على صفحات الفيسبوك، أو كأن عالم الفيسبوك وتعليقاته نزلوا إلى المجال الافتراضي إلى الشارع الواقعي، فحتى الطالب المختلف مع أستاذه في المدرسة أو الجامعة نزل ليحاسبه.
على أن المثقفين اللبنانيين في علاقتهم بالمظاهرات هم مثل الشعب اللبناني، منقسمون بين علمانيين ومدنيين و«ممانعين» مناهضين لثقافة الغرب حتى طائفيين… في الأيام الأولى لم يشاركوا في التظاهرات، وسرعان ما تفاعلوا مع التحركات اليومية في مختلف المدن والساحات، وبخاصة ساحتا البرج ورياض الصلح (وسط بيروت) حيث كانوا ينزلون يلتقطون الصور أمام تمثال الشهداء وبين خيام المعتصمين أو في سينما البيضة التي اتخذتها بعض المجموعات المنتفضة مقرًّا لنشاطاتها الثقافية وموئلًا لإطلاق شتى رسوم الغرافيتي. ومن الذين نشروا صورهم وهم في وسط بيروت: الروائيون جبور الدويهي، ومحمد أبي سمرا ورشا الأمير وبسمة الخطيب… الباحث أحمد بيضون والباحثتان عزة شرارة، ودلال البزري. المعلق السياسي حازم صاغية. الشعراء شوقي بزيع، يوسف بزي، يحيى جابر، وبعض الفنانين التشكيليين مثل جميل ملاعب وريم الجندي والبريطاني طوم يونغ…
في الجانب الفني، غاب المؤلف الموسيقي زياد الرحباني بشكل كليّ عن الساحات واقتصر حضور اسمه على الشائعات والتسريبات، ومقابلة تلفزيونية واحدة، في حين كان الفنان مارسيل خليفة الأكثر اندفاعًا في حفز الناس على المشاركة في التحركات المطلبية، انطلق من مدينة طرابلس (شمال لبنان) ولم يوفر النبطية وصور وبعلبك (حيث يسيطر حزب الله) إلى جانب صيدا ومناطق أخرى، وهو يغني أغنيته الشهيرة «شدوا الهمى»… ولا يختلف الأمر مع الفنان أحمد قعبور الذي غنى «أناديكم» في بلدة الفاكهة (شرق البقاع)، وفي النبطية جنوب لبنان ومناطق أخرى… وكان لافتًا مشاركة مجموعة كبيرة من الفنانين والممثلين في عرض الاستقلال المدني وهم ينشدون ويغنون ومنهم فادي أبي سمرا، عبدو شاهين، حنين أبو شقرا، بديع أبو شقرا، حنان الحاج علي، إلى جانب الفرق الشبابية التي تعزف في ملهى المترو (أبرز معلم ثقافي ترفيهي في شارع الحمرا بيروت)…
في التفسير والتوصيف
حضور المثقفين في التظاهرات اللبنانية كان له أوجه مختلفة، بين المشاركة الميدانية من جهة، ومن جهة أخرى المشاركة الميديائية عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من خلال التعليقات والمواقف المؤيدة للمحتجين، أو التي تشخّص الواقع، وتوصّف الفئات المنتفضة في الشارع من هي؟ ومن أين أتت؟ وماذا تريد؟ قال الباحث وضاح شرارة صاحب كتاب «دولة حزب الله» عن المتظاهرين إنهم «أيتام الريوع»، بمعنى أنهم كانوا من المستفيدين من السلطة وأركانها في مرحلة، قبل أن تجف السيولة فيلجؤون إلى الشارع، وهم علامة من علامات الانهيار الاقتصادي. وفي مقال آخر، اعتبر أن «علاج السلطة الفاسدة، والغالبة، سلطة أخرى في مقابلتها، وليس الخبرة «المحايدة» التي يصح فيها قول أحدهم في المثالية الأخلاقية: هذه المثالية نظيفة اليدين إلا أنها تفتقر إلى يدين». (يقصد أن المتظاهرين في الشارع بلا قوة).
وكتب الباحث والمؤرخ اللغوي أحمد بيضون مقالًا بعنوان «المُناهَبةُ أو البنْيةُ السياسيّةُ لمَسارِ الدولةِ اللبنانيّة نحو الإفلاس»، مفندًا مكامن الفساد في الجمهورية اللبنانية منذ اتفاق الطائف وتأسيس الجمهورية الثانية في بداية التسعينيات. وفي تعليق فيسبوكي بدا بيضون سعيدًا بالاحتجاجات في صورتها الجديدة، عاقدًا الأمل على مسارها وعلاقتها ببيروت قال: «لم أكُنْ أجِدُ بيروت جميلةً. أقيمُ فيها من سنِّ الثامنةَ عشرةَ وأنا اليومَ على عتبةِ السابعةِ والسبعين ولم أكن أراها جميلة. كنتُ أقارِنُها بما أعرِفُ من مدُنٍ في أصقاعِ الأرضِ المُخْتَلِفةِ فلا أراها جميلة. مع ذلك، كانَ يكفيني سلْمُها العاديّ لأسْتَمْتِعَ بالحياةِ فيها كثيرًا ولكن لم أكُنْ من أهلِ التغزُّل بها، في أيّ حال. (…) هي تنفِّذُ الآنَ انقلابًا خطرًا. انقلابًا خطيرًا جدًّا، ولكنّهُ انقِلابٌ على مواطنِ الخطرِ في بواطِنِ تاريخِها المعاصِر. وهي تنفّذُه ومعها غيرُها من مدن لبنان ونواحيه فلا تستأثِرُ بانقلابِها على نَفْسِها. لذا هي جميلةٌ الآن»…
وقدم بعض المثقفين انطباعات مختلفة ومتنوعة في تفسير التظاهرات وقراءة توجهاتها وتأثيراتها. قالت الباحثة السيكولوجية منى فياض: «اللبنانيون الذين أوكلوا، قبل أكثر من خمسة عقود، مهمة قهرهم إلى جلاديهم من الطغاة وسماسرة السياسة وأمراء الطوائف، يتلون الآن فعل الندامة، ويتولون بأنفسهم صناعة التاريخ». المفكر اليساري كريم مروة الذي وُصف «بالفتى التسعيني» (في التسعين من العمر) لأنه حضر في تظاهرات طرابلس وصور وشارك في الدبكة مع المحتجين في النبطية متحدثًا ومشجعًا قائلًا للشبان: «إن ما فعلتموه لم نستطع فعله نحن في السابق»، وكذلك شارك الشاعر شوقي بزيع في الاعتصامات لكن من دون رفاقه الشعراء الذين يجلس معهم في مقاهي بيروت، كأنه وحده من يؤيد الاحتجاجات، وقال في حوار صحفي: «أنا من الذين يعيشون هذا الفرح الاستثنائي الذي سبّبته انتفاضة اللبنانيين التي قد تأخذ طريقها لتصبح ثورة متكاملة؛ لأنها تحتاج إلى رؤية متكاملة ولأن تفرز قياداتها. هذه الثورة عجيبة لأنه ليس لها ملهمون بالمعنى الفردي وليست لها قيادات، وولدت من شرطين هما سفالة هذه الطبقة السياسية وفسادها المستشري وتعاملها مع الناس بوصفهم قطعانًا أو بلوكات عمياء ملحقة بهذا الزعيم الطائفي أو ذاك»…
وفي وسط بيروت كان يحضر الشاعر عقل العويط بشكل يومي، ومن خلال مقالاته في جريدة «النهار» وفي آخر صرخاته «لن أسمح لكم بتجويعي». أما الروائي إلياس خوري فكان على رأس مظاهرة المثقفين إلى جانب المخرجين ربيع مروة وروجيه عساف. أكد خوري «أن الثورة انتصرت وأن الشباب والصبايا قد أنهوا الحرب الأهلية في اللحظة الأولى التي نزلوا فيها في 17 تشرين الأول، قائلًا: إن الطبقة السياسية انهارت كليًّا ولم يعد يوجد قداسة لأي زعيم». وأشار إلى أنّ المنتفضين أوجدوا لغة جديدة، لا يمكن تجاهلها، والثورة رجّعت المعنى للكلام. ويجب أن يكون هناك أفق لعمل اجتماعي ثقافي فكري جديد. وتابع خوري تأكيده «أننا بحاجة لنبني وطنًا لأننا ورثنا مشكلة وليس وطنًا، مؤكدًا أن هؤلاء الشباب، وخصوصًا الطلاب يعلموننا كيف نبني وطنًا، بعد أن عملت الطبقات السياسية المتعاقبة على نهبه وتدميره».
خطر العنف
المعلق السياسي حازم صاغية عاد إلى الفيسبوك بعدما غادره لمدة «هاربًا» من الجدل الذي أحدثه بعدما أعلن رأيه بوضوح في الفنانة فيروز لم يستسغه كثيرون من عشاق الفنانة اللبنانية… هدف عودة صاغية إلى الفيسبوك ليس ترفًا ولا حب التسلية، بل مواكبة التحركات الاحتجاجية، التي اعتبرها «لحظة تأسيسية في لبنان»، ولكنه في المدة الأخيرة بدا متوجسًا من لجوء بعض المحتجين إلى العنف، مفرقًا بين العنف كردة فعل احتجاجية و«العنف الممجّد» والأيديولوجي الذي له مخاطره؛ إذ ظهرت إلى الواجهة شعارات تمجّد علي شعيب، أحد الذين اقتحموا مصرف «بنك أوف أميركا» في وسط بيروت في السبعينيات من القرن الماضي وقتلته القوى الأمنية مع اثنين من مجموعته، وتأتي هذه الشعارات بعد تحريض حزب الله أكثر من مرة ضد المصارف، وبعد الإجراءات المصرفية من خلال منع المواطنين من سحب ودائعهم… واللافت أن من بين المؤيدين رمزية علي شعيب بعض الشعراء مثل يحيى جابر والسينمائي أحمد غصين وكثير من الناشطين وبخاصة الشيوعيون واليساريون… وتوجس من مشهد العنف مجموعة من المثقفين اللبنانيين، بينهم الصحافي جهاد الزين الذي كتب «العنف لعبة أكبر من الطبقة الوسطى الثائرة، حذار»… ونشرت منى فياض بعد الهجوم على مصارف شارع الحمرا صورة شجرة اقتلعها المتظاهرون الذين يمارسون التكسير وكتبتْ متهكمة «اقتلعوها… يبدو أنها من عصابة «حكم المصرف»، وقال الروائي محمد أبي سمرا: إن التظاهرات اللبنانية تجمع شبانًا من علي شعيب (أي المؤيدين للعنف) إلى شباب ما بعد الحداثة، وتعرض إلى انتقاد حاد من اليساريين لأنه مس ما يعتبرونه أيقونة (علي شعيب) في ذاكرتهم… الباحث أحمد بيضون أيضًا عارض العنف قائلًا: «أعارِضُ لجوءَ الحركةِ الشعبيّةِ إلى العُنْفِ. عارضتُهُ أمْسِ وأعارِضهُ اليومَ وغدًا. لا أعارضِهُ حرصًا على الأملاكِ العامّةِ والخاصّةِ ولا على سلامةِ قوى القمعِ ولا على راحةِ بالِ المصارف. أعارِضُهُ خوفًا منه على الحركةِ الشعبيّةِ نفسِها: خوفًا من زَجِّ جمهورِ الحركةِ الأعرضِ في البيوتِ مسمّرًا أمام الشاشاتِ بَعْدَ أن خرجَ من الساحاتِ، وخوفًا من تحوّلِ الحركةِ إلى حركةِ مجموعاتٍ ضئيلةِ الأعدادِ «متفرّغةٍ» للنضال».
التخوين
لم تخل موجات التظاهر في لبنان من حملات التخوين والبلبلة، اتُهم الصحافي بيار أبي صعب بأنه المحرض من خلال تغريداته ضد «خيمة الملتقى» في وسط بيروت حيث كان من المقرر إقامة ندوة ثقافية عن سياسة «حياد لبنان» للباحث عصام خليفة، وسرعان ما ألغيت بعد محاولة إحراق الخيمة من جانب محتجين مقربين من حزب الله، وهم يهتفون «صهيوني صهيوني» ضد الناشط لقمان سليم، لمجرد أنه قال في مداخلته «دولة إسرائيل» وليس الكيان الصهيوني فاتهم بالتطبيع، وجرى التحريض عليه؛ إذ وزعت على باب منزله في الضاحية الجنوبية لبيروت عبارات «المجد لكاتم الصوت». أيضًا اتهم «أبي صعب» بالتحريض على ندوة كان من المقرر أن يقدمها المثقف الماركسي اللبناني المقيم في بريطانيا جلبير الأشقر. غرد أبي صعب داعيًا إلى حضور الندوة بكثافة، فهم قرّاء التغريدة أنها دعوة مبطّنة إلى الهجوم على الندوة، وكما كتب الصحافي الفلسطيني راشد عيسى: «مفهوم تمامًا ماذا يعني أن يدعو أحد أبرز الناطقين باسم «حزب الله» للنزول بكثافة إلى فعالية كهذه، في عزّ موجة حرق خيام الثوار بحجة نقاشها بأمور التطبيع مع إسرائيل، وإلصاق تهديدات تمجّد كاتم الصوت». قال جلبير الأشقر كانت النتيجة الطبيعية أن خشي المسؤولون عن المنتدى الذي كانت ندوتي سوف تُقام فيه من أن يؤدي الأمر إلى تخريبه، فطلبوا إلغاءها…
بعض الإعلاميين الممانعين المؤيدين لحزب الله الاحتجاجات في نظرهم هي للزعران وقطاع الطرق، وبعض المؤيدين للرئيس اللبناني ميشال عون يقولون «ثورة سرقها الزعران»، لمجرد أنها شتمت جبران باسيل.
المنشورات ذات الصلة
سردية الصحراء… حفاظ على الهوية أم بحث عن الغرائبي والمدهش؟
ظلت الصحراء العربية مرتكزًا رئيسًا في الثقافة العربية لسنوات بعيدة، ربما لأن المنطقة العربية تقع في واحدة من أكبر...
الكتابة الذاتية بين عالمين وسيلة للخلاص أم انتقام من الماضي وإدانة للذات؟
تعد رواية «الخبز الحافي» من أشهر الروايات العربية المعتمدة على السيرة الذاتية للكاتب المغربي محمد شكري التي يحكي فيها...
في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات
في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...
0 تعليق