كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الكون في قبضة التفاهة
منذ القدم، كانت الفلسفة والأدب والفنون تناضل لحماية القيم الإنسانية الأصيلة من كل الانزلاقات المحدقة بها عبر التاريخ، بالموازاة مع المكتسبات التي حققتها الحضارة الإنسانية في بقية المجالات العلمية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، حرصًا منها على أن تكون كل الجهود البشرية تسير في اتجاه تحقيق الرفاهية المنشودة، وألا تنحدر إلى مستوى ردع النبل، وتكبيله، والعمل على إلجام قوى الشر الكامنة في بعض القوى المستحكمة، والتيارات العدمية المنافية للمضمون الجمالي والأخلاقي التي تسعى جاهدة إلى قلب الطاولة على هذا المنحى، وسد الطريق عليه، وعكس اتجاه الرياح لصالحها من أجل الهيمنة ودعس ما تبقى من مضامين إنسانية فطرية، والتحريض على البشاعة والدمار والقبح في كل شيء، من أجل إشباع نزوات شيطانية تضخمت بفعل الأهواء المرضية، والنزعات السيكوباتية المهووسة بالقيم المضادة لفطرة الخلق.
غير أنه مع صعود الرأسمالية، وانهيار القطب الاشتراكي، وتصاعد وتيرة الهيمنة القطبية الأحادية على العالم، وثقافاته، وهوياته، ولغاته، وأنسجته الاجتماعية المتعددة التي كانت تغني مشارب الإنسان، وتغذي فطرته المجبولة على الاختلاف، والثراء، ومع هيمنة ثقافة الإنترنت، ووسائطه التشعبية، وتقنياته المتطورة، وانتشار إبدالاته الثقافية والفكرية الجديدة، أصبحت المؤسسات الثقافية والسياسية والاجتماعية التقليدية التي كانت تؤطر الإنسان، وتتحكم في صنع تكوينه، وعلاقاته، ورهاناته، وتحدد أفق حركيته الفكرية والإنسانية والإبداعية، وانهارت رساميلها فجأة، ومن دون سابق إندار، في حلبة التحولات، وأكثر من ذلك، ما عاد ممكنًا السيطرة على الإبدالات المتفجرة من تقنية المعلومات التي أخذت المشعل، ساحبة البساط من تحت كراسي الحرس القديم الذي كان يحمي النظم، والتقاليد، ويراقب سيرورة التحولات المجتمعية، ويضبط حساسياتها وفق الممكنات الأخلاقية والقيمية المتعارف عليها، مستفيدة من طروحات بعض الفلاسفة الداعمين لهذا الاتجاه تمامًا كما فعل المفكر الفرنسي جوتليب جونتر في كتابه «التفاهة المكشوفة: من أجل قيادة إبداعية».
من الهيمنة على السوق إلى الهيمنة على الإنسان
بدأ نظام التفاهة يتدرج في اكتساح العالم، انبثاقًا من فكرة البحث عن أسواق لتصريف فائض الإنتاج، ولجلب المواد الأولية واليد العاملة، لتأمين وتيرة إنتاجه، وقدرات المؤسسات الاقتصادية الغربية على المنافسة والوجود في الساحة، لكن القضية سرعان ما تعقدت تداعياتها، بتطور التفكير الاقتصادي، وتنشيط آلياته، وتوسيع برامجه، ليصبح مهيمنًا على الأسواق والجغرافيات وما فيها من بشر وتجليات إنسانية ورمزية، وبات لكل مؤسسة فكرها التوجيهي المنظر ومخابرها الاقتصادية التي يشكل كل همها تكديس الرساميل، ورفع الأرصدة المالية في البورصات، وتوسيع الشراكات والاتفاقيات، وخلق لوبيات واتحادات وتحالفات إقليمية تسد الطريق على ما دونها، وتفرض قيودها على النظام الدولي، وبخاصة الحكومات الوطنية المستهلكة التي لا تمتلك قدرات على المنافسة، وحماية اقتصاداتها الهشة.
ومع تنامي سلم الجشع، والاحتكار، والتهافت المادي، نشأت ثقافة بديلة تهاجم الأسس والمرجعيات التي يستند إليها في تحصين رصيده القيمي، ثقافة سلاحها الأهواء، والإغراء، والمتع المادية، والشعبوية، والإلهاء، واللعب المتواصل، وتنميط الفكر، وتسطيح المعرفة، والعمل على عزل الثقافة الجادة، وخلق هوة بينها وبين جمهورها، عن طريق ملء وقته بالتفاهة، والرداءة، والمعرفة المزيفة، ليتسنى لها السيطرة على المنابر والقنوات نفسيهما اللتين كانت توظفهما الثقافة المتخلى عنها تدريجيًّا.
وقد سبق أن دق عدد من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين العالميين ناقوس الخطر، مستغيثين بالضمائر الحية في العالم؛ كي تنقذ ما يمكن إنقاذه، ومنهم آلان دونو في كتابه «نظام التفاهة»، ولويس بيريوت في كتابه «التفاهة الفرنسية»، وجاك ماندارين في كتابه «الاشتراكية أو التفاهة الاجتماعية»… وغيرهم، ولم يقتصر الأمر على الفلاسفة والمفكرين، بل راع هذا الأمر الجلل كثيرًا من المبدعين والفنانين، فراحوا يعبرون عن رفضهم لهذا الانحسار الفظيع للقيم، أمام مرأى من الرأي العالمي، تارة بشكل مباشر، وتارات أخرى بشكل مقنع، كما فعل الروائي ميلان كونديرا في عمله السردي التهكمي «حفلة التفاهة».
يحضّ نظام التفاهة الفرد على الاستكانة إلى ذاته، متحصنًا بالفردانية والأنانية والأثرة المفرطة متناسيًا طبعه الاجتماعي، ورصيده الرمزي الذي شيدته الحضارة البشرية عبر أزمنة سحيقة، وملتفًّا حول دراما الاستغلال والاستلاب الجاثمين على رقبته، ويجبر نظام التفاهة الفرد على قياس كل شيء بالمال، وتصريف كل القيم الإنسانية بالعملة، مرسخًا في ذهن العامة التنازل التلقائي عن الأسس الكبرى لفائدة الاستغلال الرأسمالي، والاستلاب الرمزي عن طريق تقنياته، وأدواته الجهنمية التي تعمل على تشييء الإنسان، وتحويله إلى حمار طاحونة. لقد ربح التافهون المعركة، وسيطروا على العالم من دون حروب، بتعبير آلان دونو.
ثقافة التفاهة بدلًا من الثقافة الجادة
يعتبر دونو نظام التفاهة الرأسمالي «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم الرداءة والهيمنة، من طريق الاستبدال بشخصيتي المثقف والسياسي، «الخبيرَ» الذي صار بوقًا للسلطة، مستعدًّا لبيع عقله للرأسمالية، مقابل الحصول على المال، في حين أن «المثقف الملتزم» يتحمل مسؤولية نشر القيم والمثل؛ إذ استحوذت الشركات على جامعات اليوم، وأصبحت تموّلها، فصارت مصنعًا للخبراء، وليس المثقفين والمفكرين والفلاسفة حتى إن رئيس جامعة عالمية كبرى صرح مرة قائلًا: «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات»، في حين قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة: «إن وظيفته هي بيع الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين للمعلن».
وفي الجانب الإبداعي، سبق أن عبر كونديرا عن نظرته للعالم التافه؛ من خلال روايته «حفلة التفاهة»، مختصرًا بشاعة الصورة، بسخريته اللاذعة التي تنعي جانب القيم، وترثي البعد الوجداني في الإنساني، مصممًا عالمًا سرديًّا يصور المتاهة التي سيجد الإنسان ذاته ضمنها بعد فوات الأوان. حيث يبدو كلّ ما يحيط بشخوص الرواية أقرب إلى لعبة فارغة أو مجردة من المعنى، ضمن عالم تنهار فيه المفاهيم الإنسانية، ويسيطر الموت على كل شيء جميل: الحياة، التعاطف، الحب، الشبق، التعاون، الوفاء، المسؤولية، التآزر… فهي شخصيات هشّة ممعنة في العدميّة تحاول عبثًا إيجاد دلالة لوجودها الذي شارف على الفناء، وهنا يستعين الروائي بمنطق الفكاهة ليواجه هذا الفراغ، إمعانًا منه في السخرية من التاريخ والتهكم من مواده المتكررة التي تجثم على حياة الإنسان فتصيره كائنًا أجوف، عديم الأثر.
إذا كانت التفاهة في نظر آلان دونو «ثورة هادئة» تفرض أن يضع المرء مبادئه وأفكاره في جيبه، ليصير مواطنًا تافهًا قابلًا للتنقل من عمل لآخر، وأن يجيد الولاء والخنوع والطاعة في أنظمة الاستبداد، يعيش حياته بالطريقة التي يرسمها الآخرون في مصادرة تامة لاختياراته، وآرائه، في وقت صارت الخصوصيات مكشوفة، وباتت السير مفضوحة أمام الملأ بفضل التقنيات المتطورة، ووسائل الإعلام الأخطبوطية، فإنه من الطبعيّ أن يصبح ثمانون بالمئة من المجال البيئي مهددًا بالاختفاء، نتيجة تفاقم النظام الاستهلاكي الاستنزافي البشع، والأسوأ الذي عرفته البشرية عبر تاريخها المديد، وأن خمسين بالمئة من خيرات وثروات كوكب الأرض باتت تحت سيطرة ثري واحد في المئة من أثرياء العالم.
وعلى إثر هذا النظام الرأسمالي الاحتكاري الكاسح الذي تخلى عن قواعد المنافسة، حفاظًا على مصالح الشركات المتعددة الجنسيات، كان من الضروري العمل على تشجيع نظام قيمي جديد، يتمركز حول الطمع والأنانية والخداع والربح والشطارة وإتقان اللعبة بديلًا من النظام القيمي التقليدي الذي أرسته الحضارة الإنسانية، على مدى قرون من الكفاح، لتحصين قيم المواطنة والشعب والقطاع العام والمصلحة العامة والتضامن، كل ذلك كان الغرض منه، خلق شعوب وأفراد منصاعة لهذه اللوبيات، ومصالح الضغط والشركات الكبرى، والانخراط بطواعية في إنجاح لعبتها الخبيثة.
والحاصل أنه كلما جال الفرد، بما تبقى من بصره وبصيرته، فيما تزدحم به الساحة من رموز الإعلام، والفن، والسياسة، والمجتمع المدني، لا يمكنه إلا أن يقف بوضوح على المستنقع القذر الذي تقف على حافته الإنسانية جمعاء، ويتفطن للهاوية السحيقة التي تجر العالمَ إليها نخبٌ متهافتة تلهث خلف المال، والشهرة المزيفة، والنزوات.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق