لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
سجالات متقادمة كأنها ذكريات
تنتمي السجالات التالية إلى عقود أخيرة من القرن الماضي، انطوت على سلب مثابر أغلق المستقبل. لحق التغيير بالزمن والمكان والمستقبل قبل وصوله. فلم تبق ملامح دمشق على ما كانت عليه، وشكل بيروت انزاح عمّا كان. تبدو تلك السجالات أطيافًا راحلة، تشبه قبورًا جرفها سيل عنيد. والذين قاسمناهم الخلاف والاختلاف غيّبهم الموت، تبقّت منهم أسماء تتسرّب، أحيانًا، من الذاكرة.
بعثت على السجال الأول ملاحظة عارضة، أصابت عملًا لإميل حبيبي أخطأ النجاح. فبعد روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، التي حظيت بتصفيق واسع، حاول الأديب الفلسطيني، الذي بقي في مدينة حيفا، أن يعطي «متشائله» اسمًا جديدًا: «لكع بن لكع». بنى روايته الجديدة بمواد تشبه ما بنى منه روايته الشهيرة، ارتكن إلى لغة تراثية صقلتها الصحافة، زخرفها بسخرية سوداء، ودعمها بإشارات سياسية، تخز العرب ولا تقتصد في هجاء الاحتلال الإسرائيلي. غير أن ما سعى إليه ضلّ طريقه، ترسّب في محصول فقير، عاينته مع الأردني غالب هلسا بلا إعجاب كبير.
كان غالب قد وصل إلى بيروت، بعد أن أخذت به أقداره إلى مسار طويل، مرّ فيه على القاهرة، وعلى بغداد مرّتين، فدمشق وبيروت، في انتظار سفر قادم خاصمته الراحة منذ زمن طويل. سألني بنبرة متلكئة كأنها لتلميذ خجول: هل قرأت عمل إميل الأخير؟ أجابه وجهي بنفي بلا كلمات، وردّ بكلام موجز: «قلّد ما كتبه ولم يحسن التقليد». تشاركنا الرأي في حوار مشترك، اقترحته جريدة السفير اللبنانية، في أوائل عام 1978م، أوحى بتواطؤ موتور ضد أديب فلسطيني ذائع الشهرة. لم نكن ندري، حينها، أن نقدًا محدود الكلمات يمكن أن يستدعي غضبًا لافحًا، ينصف المظلوم ويحاكم الظالمين!!
ظهرت بدايات الرد في مجلة الجديد، التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح بلغة تلك الأيام بكلمات من نار بلا نور: «البرجوازيون الصغار يهاجمون رفيقنا في بيروت»؟ كان هذا عنوان مقالة كتبها المؤرخ الرصين الدكتور إميل توما. كان «الإميلان»، كما كان يقال، عضوين في الحزب الشيوعي. صدّ الرفيق المؤرخ الهجوم الذي وقع على الرفيق الروائي، اعتصما بحبل «الطبقة العاملة»، وواجها طبقة ضالة تدعى: البرجوازية الصغيرة. بدا المؤرخ اللطيف، الذي حسم حياته مرض السرطان في بودابست عام 1984م، قاضيًا عنيف الإدانة، ينكر على الذين هاجموا رفيقه معرفة الأدب والنقد، وبدا الرفيق الروائي مبدعًا معصومًا عن الخطأ، تضمن حزبيته إبداعه القويم.
ما ترسّب في الذاكرة لا يعود إلى «برجوازيين صغار»، تطاولوا على النقد الموضوعي وهم يتطاولون على رفيق روائي، ولا إلى خلاف أدبي يدور بين الرذيلة والفضيلة، بل عاد إلى ظاهرة: «القبيلة الحزبية»، التي إن اشتد غضبها دعت إلى معايير قبلية في الكتابة والقراءة، واستنفرت أفراد القبيلة للإجهاز على خصومها. لم يتبقّ، تقريبًا، رفيق يحسن الكتابة، أو لا يحسنها، إلا شارك في «معركة الحق»، مسلحًا بتهم جاهزة، تبدأ بالعماء الفكري والسياسي وتنتهي بالتآمر على الأدب المقاتل، حتى اقترب عدد المشاركين، من فلسطينيين وعرب، من العشرين أو جاوز ذلك.
قال لي هلسا ببراءة لازمته حتى رحل: «ألا ترى معي أن الرفاق يشخصنون الحقيقة، ويختصرونها في أدباء حزبيين؟ لماذا يساوون بين الاختلاف و«الشذوذ»، ويسرفون في الاتهام حتى تعييهم الكلمات؟».
ارتكن الاتهام في تلك الواقعة إلى «معايير جماعية في النقد والإبداع»، وإلى نبذ المفرد والتفريد والاحتكام إلى «واحد مجهول»، يباركه تعميم، هو تجهيل، لا فرق إن كان «الواحد» معمّمًا، أو حاسر الرأس، يطمئن إلى «مادية جدلية» مفترضة، أو إلى اتّباع موروث يجهض المفاهيم الحديثة، التي يدّعي الانتساب إليها.
انطفأ اليوم هذا «الصخب العالي الصوت»، رحل المؤرخ والروائي وتراخى ما هو «جديد»، وغاب غالب هلسا وتساؤلاته. استقر «التعميم» في مكانه، ناسيًا أن لا معرفة إلا بالخاص، وأن الإبداع يصدر من أفراد ولا ينبثق من «جماعة». يتحرّر اليوم «الصخب» المنقضي من سلبه. يتكشّف ضوضاء مبهجة، يلتفت القلب إليها بحنين.
الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»
ينفتح السجال مع «رفاق» راحلين على «رفيق» آخر، كان له جمهرة من المشايعين: الروائي السوري حنا مينه، الذي اجتهد في الكتابة وفي العيش طويلًا. وعلى خلاف الأديب الفلسطيني، الذي قلّد ذاته وأخطأه التوفيق، وتعرّفت إليه «هاتفيًّا» بصوت أجش يخالطه السعال، كان الأستاذ حنا صديقًا، بشوشًا مضيافًا حريصًا على سيجارة لا تنطفئ، قاسمته صداقة سعد الله ونوس والناقد السينمائي سعيد مراد، الذي التحق بالتراب قبل الخمسين، وسعيد حورانيه، كاتب القصة النبيه الذي اعتزل الكتابة مبكرًا. كان هؤلاء، باستثناء سعد الله، أعضاء في «رابطة الكتّاب العرب»، التي رأت النور في دمشق عام 1954م، ربما.
كان في الصديق الروائي الراحل أبعاد من شخصية «أبو زهدي الطروسي»، بطل روايته «الشراع والعاصفة»، البحّار الشجاع الذي يحب الحياة وتطربه تحيات «الجمهرة» التي تلتف حوله. دفع إلى السجال الطويل تعليق صغير، خالف رأي حنا عن «البطل الإيجابي»، نشر في مجلة الحرية التي انتقلت بعد 1982م من بيروت إلى دمشق. وكحال حبيبي الذي أوكل إلى غيره «الذود عن حياضه»، هرع مشايعو الروائي، أسوريين كانوا أم لبنانيين وعراقيين، إلى نصرته، وتكاثرت الردود وانتهت إلى كتاب: «حوار في علاقات الثقافة والسياسة»، شارك فيه هلسا والروائي السوري هاني الراهب والفنان عاصم الباشا وغيرهم. كان في الردود ما يفصل بين الجماعة المؤمنة و«الفرقة الضالة»؛ إذ للجماعة الأولى كتابها الرشيد المحدث، همسًا، عن الواقعية، والناطق جهرًا «بالواقعية الاشتراكية»، وللجماعة، المبتورة والموتورة معًا، أضاليل وعبث سمّار، يلقّنهم الليل ما يكفّره النهار.
تمثّل الطريف، الذي لا طرافة فيه، في «البطل الإيجابي» المتوالد في متواليات على صورته، ساوت بين الروائي وبحاره وبين قرّائه والبحار المنتصر، وبين الانتصار وواقعية «شجاعة» لا تخيب. كان في الاختلاف ما يطفو على سطح الأدب وفي أعماقه رغبة في الانتصار، حتى لو كان انتصارًا من حبر وورق؛ ذلك أن «الحلم الاشتراكي» بدأ، آنذاك، رحلة الأفول. وعوضًا عن مساءلة أسباب خيبته، تشبّث «الإيجابيون» بمدينة فاضلة موعودة، بحاجة إلى نقد سياسي، بعيدًا من شعارات أقرب إلى «التعزيم»، أوحت أن الحديث عن الدفء يجلب سكنًا سعيدًا. لملم الزمن أوراق المدينة الموعودة، وأشعل فيها النار، ونقل التعزيم إلى خطاب مختلف، أدمن عموميات لفظية، تفصل بدورها بين الحق والباطل.
يبحث العقل النقدي عمّا هو سياسي في الصنعة البلاغية، ويصيّر العقل المغلق الزخرف اللغوي الشكلاني حقيقة جامعة. كشف مكر الزمن أن الاعتراف بالآخر فضيلة، وأن الفضيلة المعترف بها لا يحتكرها أحد، وأن العقل الطليق، يضيق بالنعوت النهائية. لم تعترف الإيمانية المتحزّبة بالمراجعة الذاتية، ونقدت «أضاليل» خصومها، دون أن تدرك أن النقد المشخص أداة نظرية سياسية، تعطف معرفة نسبية على معرفة نسبية أخرى، وأن مرجع الحقيقة هو الممارسة والأثر الملموس، لا استظهار الكراريس الحزبية.
أظهر الواقع أن المواقف الفكرية النسبية، التي تحترم الرأي ونقيضه، مقبولة عند مثقفين لا قبائل لهم، يحترمون الكتابة ولا تستدعيهم البطولة، أكانت إيجابية أم سلبية. نقدت، في تلك الحقبة النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي روايات جبرا إبراهيم جبرا «بأسلوب غليظ» في دراسة نشرت في مجلة شؤون فلسطينية عنوانها: «بين فلسطيني الوهم وفلسطيني الواقع» أو ما يشبه ذلك. كان «الرفاق» يرون ذاك الأديب الفلسطيني المستقر في بغداد «ليبراليًّا»، بلغة مخفّفة، أو رجعيًّا برجوازي الأهواء، بلغة من حطب. توقعت حين التقيته للمرة الأولى في بيروت أن يستنفر حاشيته، وكان له معجبون؛ كي يفصّلوا بين الأحكام العادلة والمعايير الجائرة. لكنه اكتفى بعتاب ساخر وبإنارات هادئة، دافعت عن الإبداع والفرديات المستقلة.
اعتبر جبرا أن الكتابة بعد من تجربة ذاتية، مرجعها ذات حرّة متعددة الهواجس والذكريات والرموز. قال ضاحكًا: «إنني أكتب عن قدس عرفها شبابي، وعن شباب حاشد بالأسرار، وبنيت «وليد مسعود» بأحلامي وبتذكّر بشر عايشتهم، وضعت فيه ما أذكر من أبي وأمي وطفولتي…»، وتابع: «لا يحق لأية تعاليم نظرية أن تكسو ذكرياتي بألوان غريبة عنها. لا يصف دقائق الجسر إلا من سار فوقه…». ولم يشر إلى جسره، وإن كنت أدرك أن جسره ذاتيته المتعددة المصادر، اجتمعت فيها أطياف طفولة في بيت لحم، وصبا مقدسي، ومعاناة اغتراب ولجوء، ومنظور رومانسي للعالم جاء من شعراء إنجليز مثل بايرون وكيتس وكوليردج، وتمثّل قصائدهم حين كان طالبًا في جامعة أكسفورد في بريطانيا.
النفس الرحيبة الأنيقة
أحال جبرا، في حديث صباحي مشمس، إلى ثقافة المكان، فلا ثقافة حقة تكتفي بالكتب، وإلى طفولة غزيرة الرموز، وإلى طفل لامع قديم أراد أن يكون أبًا لأبيه، كما يقول الرومانسيون. كان بإمكانه، دون أن يعاقب أحدًا، أن يلمّح إلى ناقد مغربي قرأ دراستي الظالمة بعنوان عادل: «قراءة جبرا ومشانق الأيديولوجيا»، لكنه أثار حوارًا أنيسًا يحتفي بالبشر ولا يقاصصهم. بعد لقاءات عدة في عمّان ومرور ثلاثة عقود، تقريبًا، على رحيله، أسمح لنفسي أن أدعوه: «النفس الرحيبة الأنيقة»، التي أسعدني اقتراح صديقي عبدالرحمن منيف بالإشراف، معًا، على كتاب جماعي أهدي إلى جبرا بمناسبة بلوغه السبعين عنوانه: القلق وتمجيد الحياة 1995م. ولد جبرا في بيت لحم عام 1920م.
«نسيم الشباب من الجنة»، قول ردّده معلمي في المرحلة الابتدائية، القصير القامة المأخوذ برائحة عطرة. كان أسلوبي في مرحلة الشباب مدّعيًا يمازجه الجفاف، صاغ مرة دراسة عن المصري إدوار الخرّاط، نعت فيها أسلوبه «بلغة الكهّان». وأخذت عليه تكرار ما يكتب وغلوّه في تجريدات تتطيّر من المعيش. كان قد أشرف على عدد من مجلة الكرمل، بعد انتقالها إلى قبرص إثر الخروج من بيروت عام 1982م كرّسه «للحساسية الجديدة»، و«تصغير» النهج الواقعي ومشاكسة منظور نجيب محفوظ، دون ذكر اسمه.
لم أكن من أنصار «حساسية الخرّاط»، ولا شكلانيته اللغوية المتكلّفة، نقدته بلا تحفّظ غير مرة، أشدّها عنفًا في مجلة الكرمل. فاجأني صاحب «رامة والتنين» بشكل من «الحوار والاختلاف» لا عهد لي به. بعث برسالة رقيقة، جمعت بين العتب والشكوى علمتني، بعد رسائل تالية، قاعدة جديرة بالنظر: «يُقرأ المبدع في كل أعماله أو لا يقرأ». أرسل لي، كما وعد في رسالته رزمًا متلاحقة من الأوراق، تتضمن حوارات معه ومقالات قديمة وجديدة، وأوراقًا تعود إلى أربعينيات القرن الماضي حين كان عضوًا في «جماعة الخبز والحرية». تأملت تصوره اللغوي القائل، بشكل مضمر: إن اللغة خلق إلهي ومرتبة إيمانية، وإن محاكاة الإلهي جهاد شاق متواتر، أقرب إلى استغراق الصوفية في الوجود الإلهي.
استقر جبرا إبراهيم جبرا في صدري بحديثه الأنيس، واحتفظت بسلوك الخرّاط درسًا في المؤانسة. أبان الطرفان أن المبدع الأدبي من ثقافته، وأن الثقافة أُلفة وتعارف وصحبة طويلة الطريق. سايرت الأول في عمّان، تعرّفت فيه إلى «وليد مسعود»، فلسطيني من واقع وشعر، وقابلت الخرّاط في القاهرة ولمحت فيه بطله المشتهى «ميخائيل» العاشق لأنثى من ندى ونور ورغبات. نحتفظ من المثقفين الصادقين بأشواقهم، التي تقترحها الروح وتبنيها الأحلام ويدفع بها الزمن إلى ركن غامض.
كان صديقي السوري حيدر حيدر ينظر من شرفته إلى بحر بيروت ويقول ضاحكًا: «ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردًا»، كان آنذاك في أربعينياته. ما قال به نهجس به اليوم، مع فرق في الزمن، الذي «يرعب الإنسان رعبًا كاسحًا»، بلغة نجيب محفوظ في الصفحات الأخيرة من «السكرية».
سؤال أخير: لماذا يهذّب الكاتب أسلوبه بعد حين؟ هل هي التجربة التي تعلّمه ما لا يعلمه، أم إنها متاهة الزمن وأطياف الراحلين؟
يتناثر الجواب المؤرق في الصدر، كأنه شظايا جارحة الأطراف.
المنشورات ذات الصلة
أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة
في أحد اللقاءات التلفزيونية الموجودة على «اليوتيوب» سأل الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي عميد الرواية العربية نجيب...
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
0 تعليق