كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الحقيقة بين المعرفي والعقدي والمؤسسي
في رواية «شيفرة دافنشي» للروائي الأميركي دان براون، يُقتَل راهب في متحف اللوفر بباريس، بيد متطرف مسيحي يأتمر بتوجيهات قس عالي المقام في الفاتيكان. وقبل أن يلفظ الراهب أنفاسه الأخيرة، يتعرى في دائرة رسمها مليئة بالرموز غير المفهومة، ويكتب اسم عالم الرموز الشهير «روبرت لانغدون»، الذي يستدعى من أميركا لحل الغموض حول هذه الجريمة المربكة لرجال الشرطة الفرنسية. لجعل القصة الطويلة قصيرة، يكتشف لانغدون أن الجريمة لها علاقة بالجمعيات السرية التاريخية، وأن المقتول كان عضوًا في جمعية سرية مهمتها حماية ذرية المسيح من التصفية الجسدية على يد أرباب الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، فالمسيح لم يكن أعزب،
بل تزوج من مريم المجدلية، التي توصم بالعهر في الرواية الرسمية الكاثوليكية، وأنجب منها ذرية قائمة حتى اليوم، ولكن كنيسة روما ترفض هذه الحقيقة رغم علمها بصحتها، وتقبل كل من يقول بها، بل تبحث عن ذرية المسيح لتصفيتها من أجل «نقاء العقيدة الكاثوليكية»، التي تقول ببتولة المسيح أو ألوهيته.
الاعتراف ببشرية المسيح وزواجه وإنجابه، تتعارض مع العقيدة الكاثوليكية، وتتعارض مع المؤسسة الراعية لهذه العقيدة، وبالتالي أصبح لدينا ثلاث «حقائق» متضاربة ومتناقضة: الحقيقة المعرفية الخالصة، هي أن المسيح بشر، والحقيقة العقدية، هي أن المسيح إله، والحقيقة المؤسسة، هي أن الكنيسة العليا في روما، هي الوحيدة القادرة على تفسير وإيضاح أي أمر يتعلق بالمسيح، وبالتالي يصبح الاعتراف بالحقيقة المعرفية، هو انتحار لهذه المؤسسة وبالتالي انهيارها، وهو أمر لا ترضاه المؤسسة لنفسها بعد تاريخها الطويل في «حماية» العقيدة، ولذلك هي تدافع عن نفسها في وجه كل من يشكك في معتقداتها، حتى كانت الحقيقة المعرفية واضحة وضوح الشمس في رابعة يوم من أيام الصيف، ولذلك يبقى المسيح إلهًا وثالث ثلاثة في الثالوث المقدس (الأب، والابن، والروح القدس) وهو ما يؤمن به معظم أتباع الكنيسة الكاثوليكية، رغم كل الدلائل التي تثبت خلاف ذلك (الحقيقة المعرفية).
التناقض بين هذه «الحقائق» الثلاث، ليس قاصرًا على المسيحية فقط، بل تجده في المؤسسات الدينية والأيديولوجية كافة، وذلك حين تتحول الفكرة أو الدعوة أو الرسالة الدينية إلى مؤسسة سياسية أو اجتماعية ذات مصالح معينة وبالتالي إصرار على البقاء.
وكل طرف من هذه الأطراف يتخذ «حقائق» الآخرين أوهامًا وأساطير؛ لأنها لا ترتكز على (معطيات) من الواقع وأحيانًا من المنطق.
وصاحب الموقف العقدي يرى في «حقائق» الآخرين هرطقة وكفريات، حين يتعلق الأمر بالدين، أو تآمر واستهداف في حالة الموقف الأيديولوجي خارج إطار الدين. أما المؤسسي المنتمي إلى مؤسسة معينة، فيرى في «الحقائق» الأخرى رِدَّة، أو خروجًا عن الجماعة، أو خيانة، في الحالة غير الدينية. ورغم أن الحقيقة المعرفية الخالصة تفرض نفسها في النهاية، كما حدث مثلًا بالنسبة لكروية الأرض، أو دوران الأرض حول الشمس وغيرها، إلا أن «الحقيقة» العقدية تبقى هي المهيمنة على عقول العامة أو الجماهير؛ إذ يبقى باطن الأرض مسكن الجن والشياطين مثلًا،
رغم عدم وجود دليل معرفي على ذلك، بل لا دليل معرفي، خارج إطار العقيدة، يثبت وجود الجن والشياطين من الأساس، ولكنها تبقى حقيقة ثابتة في الذهن العام إجمالًا.
الدولة والحقيقة
أما «الحقيقة» المؤسسية، فتتمثل في أجلى صورها في مؤسسة الدولة، فما تقوله، أو تأمر به الدولة هو «الحقيقة» ولا حقيقة غيرها، وبذلك تغيرت ديانات وعقائد و«حقائق» مجتمعات وأمم كثيرة، حين تغير شكل الدولة ومضمونها، لا أدل على ذلك مثلًا لا حصرًا، من تحول المجتمع العباسي من الاعتزال أيام المأمون إلى السلفية أيام المتوكل، ومن تحول إيران السُّنية إلى التشيع الصفوي، ومصر من التشيع الفاطمي إلى مذهب أهل السنة والجماعة، الذي هو بدوره نتاج قرار سياسي، وعلى ذلك قِسْ. هذا في تاريخنا، أما في التاريخ الأوربي مثلًا، فإن انفصال إنجلترا عن كنيسة روما الكاثوليكية، ونشوء الكنيسة الأنجليكانية، كان بقرار من الملك هنري الثامن. حقائق الدولة هي التي تفرض نفسها في النهاية، واعتناق الدولة لإحدى الحقيقتين الأخريين هو الفيصل في انتصار إحداهما على الأخرى.
في كتابه «حكايا محرمة في التوراة»، يروي جوناثان كيرتش، الكاتب الأميركي المتخصص في الدراسات اليهودية- المسيحية كيف أن «العهد القديم»، ومن ضمنه الأسفار الخمسة الأولى التي تشكل التوراة التي «أُنزِلت» على موسى، هو مجرد حكايات عن العنف والجنس المحرم، ومجموعة أساطير شرقية أوسطية (سومرية وبابلية وكنعانية)، جمعها مؤلفو العهد القديم من الأحبار، ورفعوها إلى عتبة المقدس، وقال بذلك كثيرون من دارسي التوراة والعهد القديم. ورغم أن معظم اليهود، وكذلك المسيحيون والمسلمون (الأديان الإبراهيمية)، يعلمون أن العهد القديم هو مجرد تجميع لأساطير الأولين في الشرق الأوسط القديم، من زاوية الحقيقة المعرفية، إلا أن ذلك لم يقلل من شأن العهدين القديم والحديث،
فعلى أساس «حقيقتهما» العقدية، قامت مؤسسات دينية وغير دينية من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التقليل من شأنها. بل إن دولًا حالية وتاريخية،
استندت في شرعيتها إلى روايات وأساطير دينية لا تقرّها الحقيقة المعرفية.
فدولة إسرائيل الحالية استندت في شرعية نشوئها إلى «الحقائق» العقدية التي وردت في العهد القديم مثل وعد «يهوه» لإبراهيم بمنح أرض كنعان لذريته من ولده إسحاق (ابن الحرة)، وهو الوعد الذي كان وراء الفكرة أو الحركة الصهيونية التي أنشأت إسرائيل في النهاية، رغم أن مؤسسيها وآباءها لم يكونوا من المؤمنيين بالدين جملة وتفصيلًا في معظمهم، ولكن هذه «الحقيقة» العقدية تحقق لهم ما لا تستطيع الحقيقة المعرفية البحتة أن تفعله، بل إن دولة إسرائيل الحالية، لا تسير أمورها وفق شرع موسى وتوجيهات أحبار التلمود، بل هي دولة علمانية في أكثر جوانبها، رغم أن أساس شرعيتها هو أساطير منتقاة من التوراة والعهد القديم، فاليهودية في هذا المجال، لم تعد مصدرًا معرفيًّا أو مجرد دين، بل أصبحت هوية قومية، سواء آمن اليهودي بأساطير العهد القديم والتلمود أو لم يؤمن.
إشكاليات وتناقضات
ولماذا نذهب بعيدًا هنا، فلدينا في عالم الإسلام ذات الإشكاليات وذات التناقضات، فمحاولات نقد التراث الديني وتنقيته من أمور لا تتوافق مع الحقيقة المعرفية قائمة على قدم وساق، ولكن كل هذه المحاولات تبقى نخبوية، في دائرة ضيقة من الباحثين، أما معظم الناس، فإن «الحقيقة» العقدية تبقى هي الأساس، وبخاصة مع تحول هذه «الحقيقة» إلى مؤسسات هي الحاكمة على صلاح الفكرة أو طلاحها، وما تقوله هذه المؤسسات، التي هي جزء من مؤسسة أكبر وأشمل هي الدولة، هو الحق بالنسبة لمعظم الناس.
خذ مثلًا كتاب «صحيح البخاري»، الذي يُعَدُّ أهم وأصح كتاب بعد كتاب الله، والذي يشكل الحقيقة العقدية لدى معظم المسلمين السنة، ومثله كتاب «الكافي» للكليني لدى الشيعة، تجد أنه يحتوي على أحاديث لا يقر بها عقل أو منطق أو تجريب (الحقيقة المعرفية)، ومع ذلك فهو أصبح كتابًا بعد كتاب، والويل لمن ينتقده أو يقلل من قدسيته. لماذا كان ذلك؟ يقول الروائي «ميلان كونديرا»: إن «اليقين فكرة تحجرت»، فمن الصعب أن تغير فكرة راسخة في ذهن أحدهم، وبخاصة إذا أحيطت هذه الفكرة بقدسية معينة. فصحيح البخاري، وهو مثلنا هنا، لم يكتبه البخاري وحيدًا، بل هو جهد مشترك بينه وبين مريديه، كما ثبت ذلك من خلال البحث المعرفي الخالص، فأحاديث واردة فيه نجد فيها غيبيات مبالغ فيها، وربما كان هذا هو السبب في تعلُّق العامة بها، فالعامة في معظمها تعشق ما لا تدرك، وتتعلق بما يحيطه الغموض والأسطرة، ولذلك فإنه من الصعب التعامل معها وفق الحقيقة المعرفية المجردة. أدرك تجار الأوهام هذا الأمر، فلعبوا على وتره من أجل غايات لا علاقة لها بالحق والحقيقة.
من ناحية أخرى، فإن مؤسسات راسخة تاريخيًّا قامت على أساس كتب مثل: «صحيح البخاري» بكل ما يحتويه، بمثل ما قامت كنيسة روما على أساس «حقائق عقدية» وردت في الأناجيل الأربعة، وليس من المعقول أن تتنازل هذه المؤسسات عن وجودها لمجرد ثبات هذا الأمر معرفيًّا، فالقضية هنا قضية وجود ونفوذ وسلطة، وليست قضية معرفية خالصة. فحتى في أوربا وعالم الغرب، الذي اكتسحته فلسفة الأنوار والتنوير، لم تستطع الحقيقة المعرفية أن (تقضي) تمامًا على الحقائق الأخرى، وبقيت في حالة تعايش رغم كل التناقضات بينها، رغم أن الحقيقة المعرفية هي دليل العمل الفعلي في تلك البلاد. أما في بلادنا، بلاد العرب وكثير من بلاد المسلمين، فإن صراع الناب والمخلب، ومبدأ إما أنا أو أنت، فإنه ما زال قائمًا بين «الحقائق» الثلاث، وذلك كما كان الوضع أوربيًّا، فما نحن اليوم إلا أوربا الأمس. أنا واثق أن الحقيقة المعرفية سوف تهيمن في النهاية، فهي الحقيقة التي تشكل بوصلة عملية، قبل أن تكون حقيقة بذاتها، وإلى أن يأتي ذلك اليوم، فلنبشر بالتعايش بين المتناقضات، فالتناقض في النهاية هو أحد محركات التاريخ، بل هو مهماز التاريخ.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق