كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الفكر العربي في الألفية الجديدة: الإشكاليات والتحديات
«لما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح
فإن حرية الرأي أيضًا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة،
فإذا قُضي على حرية الفكر قُضي على الدولة»
سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة»
طوى العرب القرن العشرين على إشكاليات معلقة في الاجتماع والسياسة والدين والثقافة، وظل «العقل العربي والإسلامي»، أسير اليقينيات والماضي وغياب القدرة على طرح الأسئلة حول المستقبل، نتيجة الأطر التاريخية والعقدية المشكلة له على مدار قرون، وهو ما جعلنا حضارة تُبنى على الوثوقية والجمود -في عالم لا يهدأ في مواجهة الأفكار والسرديات الكبرى- وليس على المساءلة والتفكيك وإعادة البناء، وهو ما حال دون تطوير منظومتنا الفكرية والثقافية وجعلنا ورثة لأعباء تتعدد بناها وأشكالها، ولا سيما ما يتعلق بأزمة ثنائية الإسلام والحداثة، التي شكلت وتشكل إحدى أهم القضايا التي طرحها الكتّاب والعلماء العرب في حقولهم المعرفية المختلفة.
ولئن اعتبرنا –تجاوزًا– أن الانشداد نحو التراث أو «العقل التراثي»، يُعد من بين أهم العقبات التي تعرقل مسيرة التحديث في الدين الإسلامي، فإن أوضاع المجتمعات العربية على مستويات عدة، ليست أفضل حالًا؛ إذ عمل الاستبداد السياسي على إفقارها وتجويفها وإغراقها بالجهل والأمية الثقافية. ومع ضرورة التأكيد أن مثقفينا وعلماءنا، من أمثال: محمد أركون (1928- 2010م)، ومحمد عابد الجابري (1935- 2010م)، ونصر حامد أبو زيد (1934- 2010م) وأدونيس، وعلي حرب وعبدالمجيد الشرفي، وغيرهم من الأعلام العرب المبدعين، عالجوا في أطروحاتهم ومؤلفاتهم المسائل التاريخية والثقافية والدينية المهمة، وساءلوا ما يعتبره البعض بمنزلة المقدسات، إلَّا أن إنتاجهم بقي أسير النخبة وبعض الدوائر العلمية العربية، ولم يستطع اختراق الجمهور لتحريره من السياج الأسطوري.
أتى القرن الحادي والعشرون على العرب وهم معلقون بأثقال القرن الذي مضى، وأحدثت التحولات العالمية والإقليمية في الألفية الجديدة تصدعات خطيرة، وكان من الصعب إقصاء تأثيرها عن ثقافتنا ورؤيتنا تجاه الذات والعالم. ولعل البانوراما السياسية والزلزالية التي فجّرها ما اصطلح عليه بـــ«الربيع العربي» وضعنا أمام معضلة «التفاوت التاريخي» وكشف عن الحجم الهائل للمشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا، خصوصًا العنف والتعصب الديني. فصحيح أن الحراك الاحتجاجي، كانت له إيجابيات، لكنه -على حد توصيف الكاتب والمترجم السوري هاشم صالح- فجر البراكين التراثية؛ فالحالة الظلامية المسيطرة على العالم العربي بسبب العنف السياسي والديني، وسيادة العقل الأصولي، والصراع الطائفي والمذهبي وانتشار التنظيمات الإسلامية، تقدم كلها مؤشرات على شيء صاعد من الأعماق، كان مكبوتًا منذ مئات السنين والآن حان أوان انفجاره؛ «ولن نصل إلى حل قبل أن تشبع الطبقات التراثية العميقة انفجارًا وتفجيرًا»(١).
في موازاة القيام بالنقد الراديكالي «للذات التراثية» وهو مطلب ملحّ، يُطرح سؤال إشكالي حول «مستقبل الثقافة العربية»، فبعد أن نشر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973م) «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938م، لم نلاحظ وجود جهد فكري معتبر يدرس مستقبل الثقافة عند العرب، وقد يعود ذلك إلى غياب المشروعات الفكرية الكبرى التي يمكن لها النهوض بهذا الهم المعرفي. نقول هذا ونحن أمام إشكالين: الأول تراثي، والثاني اجتماعي/ ثقافي. وعلى الرغم من أن الانسداد والتفاوت التاريخيين يمنعان انطلاق وتيرة الحداثة، فلا يكف المثقفون العرب المتنورون عن التصدي لمعضلات الراهن العربي، بعضهم ضمن مقولات «القطيعة الإبستمولوجية» (La rupture épistémologique) مع العديد من الثوابت التي تكبل حركية المجتمعات وتطورها، والبعض الآخر بتجديد قراءة التراث عبر المناهج العلمية الجديدة. طبعًا، لم يكن الدين وحده ما أثار اهتمام الفكر العربي المعاصر، فثمة أمور أخرى طغت عليه، ربما تكون أشد خطورة وإلحاحًا من مصالحة الإسلام مع الحداثة؛ ونرى أن التحديث والإصلاح الحقيقيين يجب ألَّا يقتصرا على المنظومة الدينية والإيمانية ورموزها، فأي ثورة معرفية وعلمية جادة لا بد أن تطول كل المجتمع.
حوارات «الفيصل»
انشغل «الفكر العربي على مشارف الألفية الجديدة: حوارات مع أبرز المفكرين العرب» بقضايا رئيسة يتصدرها أربع: الإسلام والحداثة، واضطرابات الربيع العربي، والإرهاب، والحركة الثقافية العربية. لقد تضمن الكتاب مقابلات امتدت بين عامي 2016- 2019م نشرتها مجلة «الفيصل»(٢) السعودية، أُجريت مع كتّاب وعلماء عرب بارزين، أثروا بشكل لافت في المشهد الثقافي العربي. وإننا حين نشير إلى هذه الرباعية التي طغت على النسق العام المتحكم بطبيعة الأسئلة المطروحة، فهذا لا يعني أن أمورًا أخرى أقل أهمية غابت عنها، كما أنه يبدو لنا أن سؤال الحداثة كان الأكثر حضورًا، فالثقافة العربية اليوم تحاول وبجهد مضنٍ بناء هويتها والخروج على «التابو السلفي» وهي تواجه موجات عاتية من حراس العقيدة.
انطلاقًا من السؤال الإشكالي المطروح أعلاه حول «مستقبل الثقافة العربية»، يحضر طرح آخر على اتساق به، تناوله بحصافة زكي الميلاد في مقاله «مستقبل الثقافة في السعودية»، حيث تساءل عن كتابة عمل يستشرف آفاق مستقبل الثقافة في بلاده: «عملًا نريد منه أن يحمل صفة الكتاب المرجعي، أو صفة الكتاب الرائد، أو صفة الكتاب الملهم… بحيث يرسم لنا خطة، ويكشف لنا أفقًا، ويفتح نقاشًا يكون واسعًا وممتدًّا حول مستقبل الثقافة في السعودية، وما يتفرع منه في الحديث عن مستقبلنا الثقافي ومنظورنا الثقافي المستقبلي». غير أن أهم سؤال طرحه الكاتب السعودي هو: «ما سؤالنا الثقافي؟ فالثقافة بلا سؤال ثقافي، هي ثقافة بلا وعي وبلا بصيرة بذاتها ووجودها، بحركتها وفاعليتها (…) والسؤال اللافت والمحير هو: كيف يغيب عنا مثل هذا السؤال؟ أو لا يتجدد طرحه باستمرار، مع أنه السؤال الذي يفترض ألّا يغيب عنا؛ لأن الإجابة عنه أو الاقتراب من هذه الإجابة، لا تتوقف على مجرد إبداع هذا السؤال واكتشافه، إنما على طرحه المتكرر، وكثرة النظر فيه؛ لأنه ليس من نمط الأسئلة البسيطة أو السهلة أو العادية، بل هو سؤال الأسئلة في الثقافة، وسؤالها الحيوي، ويفترض أن يمثل محور النقاشات فيها»(٣).
عربيًّا، يمكن لنا الحديث عن صراع بين الحداثة و«التتريث»(٤) اشتد مع اتساع رقعة الأصوليات الإسلامية وسعيها الدؤوب لمصادرة الإسلام وتبديل هويته. ولعل القضية الأهم التي يجب أن تحتل النقاش الثقافي العلمي في فكرنا العربي المعاصر: أي إسلام نريد؟ إن حتمية التطور الإيجابي تفرض علينا ضرورة النقد العميق للبنى والحقيقة التراثية المقدسة في الإسلام، كما فعل فلاسفة الغرب مع المسيحية، فالإسلام لم يدخل بعد فيما دعاه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricœur) (1913- 2005م) بــــ«أزمة الحقيقة مع ذاتها». إنه لم يتوصل بعد إلى «أشكلة» مفهوم الحقيقة، أي جعله إشكاليًّا لا بدهيًّا ولا إطلاقيًّا يقف خارج كل نقاش كما يعتقد الأصولي(٥).
لا أسعى في هذا التقديم للكتاب إلى عرض ما احتوته الحوارات التي أجريت مع أعلام عرب مبدعين من مشارب مختلفة، إنما هدفي فتح النقاش حول مسائل أجدها مهمة طرحت فيه، وقد حرصت على قراءتها كلها ولاحظت -كما أشرت سابقًا- أن الأجوبة انشغلت بأربع قضايا: الإسلام والحداثة(٦)، واضطرابات الربيع العربي، والإرهاب، والحركة الثقافية العربية. وقفت مطولًا عند جسارة بعض المفكرين، يتقدمهم الكاتب والأكاديمي الأردني فهمي جدعان، فإلى جانب خطابه النقدي للنزعة الدينية/ الاجتماعية المتمسكة بالماضي، قدَّم أفكارًا رؤيوية في مواجهة الحركات الدينية السياسية الحديثة، تتقدمها الثورية الراديكالية الإسلاموية التي تريد -وفق تعبيره- «جعل زمن الصراع التاريخي زمنًا أبديًّا، وأن تكون العلاقة بين الإسلام والمخالفين له أو المختلفين معه، علاقة صراعية دائمة، حتى بعد أن استقر دينُ الإسلام في العالم وبين البشر بما هو دين أخلاقي إنساني حضاري. هذا خِيار –والكلام لا يزال لجدعان- لكنه خِيار بائس وكارثي. لذلك هو يتطلب حلًّا تجاوزيًّا، وهذا الحل يكمن عندي في ثلاثة أمور:
الأول: الدفاع عن إستراتيجيات معرفية تعزز مبدأ «تاريخية» النصوص الدينية الصراعية، وما يقاربها من نصوص «مربكة» تتطلب الدراسات التاريخية والمفهومية المعمقة توجيه فهمهما توجيهًا سديدًا.
الثاني: تعزيز الفهم المنهجي المستند إلى ردّ «الجزئي» أو «الذري» إلى «الكلي» أو «العام» أو «الهولستي» أي المقاصدي.
الثالث: إقرار مبدأ التأويل القرآني –بالمعنى العقلاني- بديلًا لمبدأ القراءة الظاهرية للنصوص. هذه المبادئ تأذن، بصراحة، بالتحول من سياسة العنف إلى سياسة السلم والعدل القرآنية»(٧).
هامش الحرية الكبير
إن أهمية الحوارات في الكتاب أتت بالدرجة الأول من هامش الحرية الكبير الذي فاجأني حين قرأتها، خصوصًا صدامها المعلن ضد الماضوية في الدين والنصوصية التفسيرية والتراثية التي تعرقل الحداثة الدينية، والتخلف الاجتماعي وبناه الغائرة والعميقة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على المساحة الواسعة المتاحة التي أعطيت لمجلة «الفيصل»، وهذا جهد لا يستهان به خصوصًا في السنوات الأخيرة التي تضيق فيها المنابر التي تنقد الخطاب الديني المتشدد. وإن الذي يعيش في دول الخليج العربي يدرك من كثب أن ثمة حراكًا ثقافيًّا لافتًا، فالمنطقة -وفق رأينا- تحاول بناء نفسها وتشكيل هويتها وصورتها، وأعتقد أن معركة حرية التعبير ومناقشة الأفكار في الفضاء العام بمسؤولية وطنية وأخلاقية، ستشكل أبرز تحدٍّ لاستكمال مسيرة التحديث الجارية، على الرغم من التأثيرات الهائلة التي تسببها الصراعات الإقليمية من تأخير، وأحيانًا ضمور وتراجع وانكسار. وليس خافيًا على أحد أن الحالة الثقافية في العالم العربي تأثرت كثيرًا بالتصدعات الزلزالية التي أصابت المنطقة بدءًا من عام 1967م، وما تلاه من أحداث كقيام الثورة الإيرانية عام 1979م، وتراجع الأحزاب القومية والناصرية، وانفجار المد الإسلاموي والجهادي في سبعينيات القرن المنصرم، وحرب الخليج الأولى والثانية، وأحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001م، والاحتلال الأميركي للعراق عام 2003م، وما ترتب على الربيع العربي من اضطرابات منذ أواخر 2010م، فأنتج بدوره أزمات جديدة تتعلق بالحفاظ على الدولة وصون أمنها إزاء المخاطر الناجمة عن الحركات المتطرفة العابرة للقارات والحدود.
هذه الأحداث السياسية أدت إلى تراجعات هائلة على المستوى الثقافي، فغاب عن الفكر العربي المعاصر المشروعات الكبرى الهادفة إلى بناء ثقافات حداثوية عالمة، بعيدًا من «العقل الخرافي والأسطوري». فهل ما زلنا نجرُّ وراءنا ذيول النكسة وتبعاتها؟ وأي سؤال ثقافي جامع يشغلنا الآن؟ كيف يمكن لنا الخروج على الذاكرات المتنازعة التي تكبل حركة تقدمنا؟ وأي دور للدولة في إرساء قواعد الحداثة؟ وهل استقال العقل العربي والإسلامي المعاصر من دوره؟ وإلى أي حد نحن إزاء صراع بين الإسلامات في المنطقة العربية: الإسلام السلفي والأصولي، والإسلام التقليدي، والإسلام الصوفي، والإسلام الحداثي؟ بمعنى آخر: هل نواجه اليوم معركة حرب النصوص والتأويلات؟
لا نغالي إذا قلنا: إن الإسلام كله في مخاض، وكذلك العالم العربي، خصوصًا بعد انفجار العنصر الجهادي. لقد لامست الحوارات المدرجة في الكتاب «معضلة الإرهاب» التي وصلت إلى ذروتها الأعنف، مع ما يسمى «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). وكان لافتًا بعض التحليلات التي نظرت إلى هذا التنظيم الإرهابي كحركة «رجوع بدائي» إلى الإسلام، وبأنه يريد تكوين دين جديد؛ في كل الأحوال لا يمكننا اختزال الإشكال الإرهابي بهذه العودة المرضية إلى العنف وإلى زمن البدايات الإسلامية؛ إذ ينبغي الإصغاء إلى طبقات كثيفة متشكلة في اللاوعي الديني والجمعي، تحتاج إلى منهجية علمية لفهم ظواهرها والسلوكيات الناجمة عنها. في هذا السياق تبرز أهمية التحليل الذي تقدم به علي حرب في المقابلة التي أجريت معه؛ حيث يرى أن «الجهاد الإرهابي هو آخر مراحل الإسلام السياسي. وهذه هي حصيلة كل سعي للتطابق مع الأصل: انتهاكه باستئصال كل مخالف ولو كان قريبًا أو حليفًا (…) هذا هو مآل العودة إلى نماذج مستهلكة أو بائدة لتطبيقها في هذا العصر: الإطاحة بمكتسبات الحضارة القديمة والحديثة، وانتهاك كل المقدسات والقيم والأعراف: أي البربرية والعدمية في آنٍ واحد»(٨).
والحال، هل يمكن عدّ الجهادية الإسلاموية ردًّا على الحداثة وعودة مرضية للأصلنة/ الجذور؟ إذا كانت الأصلنة (Radicalisation) تحتوي على قيمة عرضية فهي أيضًا ترمز إلى دلالة حمائية. عاين فتحي بن سلامة خلال نشاطه العيادي في الخدمة العامة ضمن الضواحي شمال باريس، وجود خطاب «فائق الإسلامية» يستبطن رغبة طارئة بتأصيل الجذور. وبهذا المعنى تُفهم الأصلنة كعَرض رغبويّ للتجذر لأولئك الذين لا جذور لهم. لم يكن مصطلح الأصلنة حاضرًا في الاستخدامات السياسية والتحليلية، وجرى الاستعاضة عنه سابقًا بمصطلحات أخرى من قبيل: الأصولية، التعصب، التبشير المتحمس (أو الدعوة الحارة للدين). يشرح ابن سلامة العلاقة بين الهوية والأصلنة الكامنة التي تتغذى على الإحباطات والكره ورفض العالم الواقعي، فتجد جوابًا لها لدى الإسلاموية الجذرية(9).
من بين القضايا المهمة التي طرحها كتاب «الحوارات»، والمدرجة في إشكاليات الاجتماع العربي، فشل مشروعات تحديث الدولة. كان للأيديولوجيات القومية واليسارية والدينية، القدرة المعطلة لمهام الحداثة السياسية؛ إذ حاول «العقل الحزبي الوصائي» تغليب الأيديولوجيا والعزو إلى غائب، على المعرفة والعلم والفهم العقلاني لمشاكل المجتمعات، وهو ما فجَّرَ البنى والعصبيات المناهضة للدولة كالقبلية والمذهبية والطائفية والهويات المحلية ونزعات الانفصال، والأخطر في المشهد، الصراع السني- الشيعي، وهو صراع يُخاض على أسس طائفية وإستراتيجية.
جمع الكتاب أسماء بارزة لها إسهاماتها الثقافية في الفكر العربي المعاصر ضمن تخصصات مختلفة ومدارس عدة، أجمعت كلها من دون استثناء على «سؤال التنوير» في الإسلام والاجتماع وعلى أولوية الخروج من الانسدادات البنيوية الراهنة؛ وهذه علامة فارقة ودالَّة تؤشر على قوة الوعي النخبوي بالأزمات العربية، سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا ومجتمعيًّا.
يعرف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant) (1724- 1804م) «سؤال الأنوار» أو «التنوير» بأنه «خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الآخر. وإن المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصًا في العقل، بل نقصًا في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الآخر. تجرأ على أن تعرف! كن جريئًا في استعمال عقلك أنت! ذاك شعار الأنوار. الكسل والجبن هما السببان في أن عددًا كبيرًا جدًّا من الناس يفضلون البقاء قُصَّرًا طوال حياتهم، بعد أن حررتهم الطبيعة منذ أمد بعيد من أي توجيه خارجي. وهما السببان أيضًا في أنه من السهل على الآخرين أن ينصّبوا أنفسهم أوصياء عليهم. وما أيسر أن يكون المرء قاصرًا (…) إن الاستعمال العمومي للعقل ينبغي أن يكون دائمًا حرًّا، وهو وحده القادر على نشر الأنوار بين الناس، بينما الاستعمال الخاص قد يكون في العديد من الحالات محدودًا بشكل صارم دون أن يعوق ذلك بوجه خاص تقدم الأنوار. وأقصد بالاستعمال العمومي من قبل المرء لعقله: أن يستعمل عقله بوصفه عالِمًا أمام الجمهور بأكمله الذي هو عالم القرّاء. وأسمي استعمالًا خاصًّا ذلك الاستعمال للعقل، المسموح به للمرء في ممارسة المسؤولية أو الوظيفة التي أُسندت إليه بوصفه مواطنًا»(١٠).
ما الذي نستشفه أو نستخلصه من الطرح الكانطي إذا طبقناه على واقعنا العربي؟ وهل ستقودنا العقلانية إلى إدارة رشيدة لأزماتنا؟ وهل الاستعمال المستقل للعقل يساهم في تكوين المواطن الفرد وليس إنسان الجموع؟ وأي دور للحريات في تطوير الوعي بالدين والإيمان الفردي؟ وهل بمقدور العرب أن يكونوا أحرارًا في استعمال عقولهم من دون قيد أو توجس من الرقيب السياسي والديني؟ وما الدرجات التي تقاس بها الحريات عندنا؟ على قدر ما تضعنا هذه الأسئلة الصعبة أمام حرج ثقافي ومعرفي، على قدر إدراكنا بأهمية عدم القدرة على تجاوزها، فقمع الحرية وتكبيل الاستعمال العمومي للعقل، يشكلان أهم المعضلات التي تعرقل تطوير ثقافتنا العربية الراهنة التي تضيق فيها مساحات الحريات والإدارة العقلانية لشؤوننا، والتي من الضروري النظر إليهما كركيزة أساسية في أي مشروع حول مستقبل الثقافة العربية.
جعل الفيلسوف الألماني هيغل (Hegel) (1770-1831م) «تاريخ العالم ليس إلَّا تقدم الوعي بالحرية»؛ هذه المعادلة يضاف إليها سؤال «مستقبل الثقافة العربية»، يعدان من الضرورات التي يجب أن تناقش وباهتمام في الجامعات والمنابر العلمية والفضاء العمومي في العالم العربي من أجل تحديث مجتمعاتنا وتطوير وعيها بذاتها وبالعالم المحيط بها، وأيضًا في سبيل تقليم أظافر التطرف والتعصب والأصوليات والجاهليات الجديدة التي تنمو في البيئات التي تنتهك فيها كرامة الإنسان وحريته، وتغيب عنها العدالة والمساواة والحق في الاعتقاد وعدم الاعتقاد؛ «ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضًا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فإذا قُضي على حرية الفكر قُضي على الدولة»، هذا ما ينبهنا إليه الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677م) (Baruch Spinoza) في «رسالة في اللاهوت والسياسة»(١١). إن سؤال الحرية يرتبط بالفلسفة والديمقراطية(١٢) التي يجب النظر إليها بمنزلة الثالوث المقدس؛ فحين يسيطر الطغيان السياسي والديني، وهو -في الغالب- طغيان يعمل على تأبيد الواقع وتوطيد بنيته، يتراجع الخطاب النقدي، فتنكفئ العقول النقدية لصالح العقل الإقصائي الذي يتأسس على العنف والتطرف وإلغاء الآخر.
قدمت الحوارات المدرجة في الكتاب أفكارًا نقدية لم تهادن الأصولية ولا الاستبداد الديني والسياسي ولا القمع، واحتلت المطالبة بالقراءة الحداثية للنصوص الدينية الإسلامية حيزًا ملحوظًا في الأسئلة والإجابات عنها. طبعًا، لم يكن الدين وحده الشغل الشاغل للمفكرين الذين حُووِرُوا، فالقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أخذت الاهتمام المطلوب. لقد لاحظنا أن الخطاب الثقافي النقدي تجاه التيارات السلفية والأصولية، كان الأشد وقعًا، فثمة لغة واضحة تطالب بالتحرر من ثقل «العبء السلفي» الذي يكبل حركية الإسلام ومسارات تطوره.
إن مسيرة التحرر من الانسدادات الدينية والثقافية والسياجات الدوغمائية المغلقة(١٣) تستوجب قبل كل شيء النظر إلى مشاكلنا وواقعنا المأزوم بعين العقل على خطى ابن رشد وغيره من الفلاسفة العقلانيين؛ كي نُخرج الإسلام المعاصر من الذائقة الموجود فيها، وكي نحرر وعينا من الجمود الفكري، بعد أن وقفت محطته عند ابن تيمية، أي في القرن الثالث عشر.
هوامش:
(١) انظر: صالح، هاشم، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار؟ دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م.
(٢) يُسجل لــ«الفيصل» منذ تأسيسها عام 1977م القيام بدور تنويري في الخليج العربي والدول العربية، وقد قدمت المجلة بدءًا من عام 2016م نهجًا جديدًا واحتلت مساحةُ النقد فيها، خصوصًا في مساءلة الدين والتطرف والإرهاب، حيزًا مهمًّا وربما تجاوزت في محطات كثيرة الحدود التي يتصورها المهتمون بالشأن الثقافي لناحية الانطباعات العامة المتشكلة حول حرية التعبير والكتابة في المملكة العربية السعودية وضوابطها ضمن بيئة محافظة يشكل الدين أحد أهم هوياتها.
(٣) الميلاد، زكي، مستقبل الثقافة في السعودية، مجلة الفيصل، 1 نوفمبر 2018م.
(٤) هذا المصطلح وضعه عالم الاجتماع اللبناني خليل أحمد خليل قاصدًا به العودة المرضية للتراث بوصفه النظام والمنطلق الذي يجب أن تُبنى عليه قيمنا ورؤيتنا المعاصرة للذات والعالم.
(٥) هاشم، صالح، العرب والبراكين التراثية: هل من سبيل إلى إسلام الأنوار، مرجع سابق، ص108.
(٦) نستحضر مقالة علي حرب «لا مصالحة بين الإسلام والحداثة» التي نشرها في صحيفة النهار اللبنانية في 21 مارس (آذار) 2015م؛ لسببين: الأول: اللغة النقدية العالية التي اتسمت بها، والثاني: قوله باستحالة المصالحة بين الإسلام والحداثة. يخلص صاحب «النص والحقيقة: الممنوع والممتنع» إلى «أن الإسلام الذي كان في الماضي، عنوانًا لحضارة مزدهرة، يتحول الآن كما يمارسه حراسه، إلى طوطم سلفي أو إلى ديناصور ثقافي، إلى بعبع خرافي أو إلى تنين إرهابي، وكلها صور ونماذج تستخدم في مواجهة موجات الحداثة المتلاحقة التي أفاد منها المسلمون وتأثروا بها، وإن أنكروا ذلك وجهلوه».
(٧) راجع المقابلة معه في الكتاب.
(٨) راجع: الحوار معه في الكتاب.
(9) Benslama, Fethi, Un furieux Désir de Sacrifice. Le Surmusulman, Paris, Le Seuil, 2016.
(١٠) كانط، إيمانويل، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ تعريب وتعليق: محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2005م، ص85 وما بعدها.
(١١) سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2012م.
(١٢) راجع: نصار، ناصيف: «الفلسفة والديمقراطية وكرامة الإنسان»، صحيفة النهار اللبنانية، 18 يوليو 1995م. يناقش الفيلسوف نصار في هذا المقال العلاقات بين الديمقراطية والفلسفة، ويشير إلى أن الديمقراطية تحتاج إلى الفلسفة، والفلسفة تحتاج إلى الديمقراطية. يسعى إلى قراءة موقع الديمقراطية في أنظمة التعليم في العالم العربي، ويخلص إلى أن «أنظمة التعليم تلعب دورًا كبيرًا في انتشار التفكير الفلسفي وفي خلق الاستعدادات الإيجابية للتفاعل معه. إن التربية الفلسفية تؤدي إلى تحسين منطق التفكير والحكم، وإلى تحميل كل فرد مسؤولية التفكير في شؤونه الخاصة وفي الشؤون العامة، وإلى خلق مناخ من الحرية الفكرية ومن النقد ومن الاحترام المتبادل بين المواطنين».
(١٣) استعمل محمد أركون في نقده للعقل الإسلامي وفي مشروع ضمن الإسلاميات التطبيقية مصطلح «السياج الدوغمائي المغلق» (la clôture dogmatique) «قاصداً به السياج المشكل من العقائد الإيمانية الخاصة بكل دين، التي بقيت بمنأى عن كل تفحص نقدي أو علمي، بسبب استخدام إستراتيجية الرفض من قبل المؤمنين التقليديين». راجع: أركون، محمد، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم، دار الطليعة، بيروت، 1999م، ص50.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق