كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
شعراء الوطن المفقود
لحظ الناقد المغربيّ عبدالفتاح كيليطو في كتابه: مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، وفي الفصل الأول الذي عنونه بـ«تناسخ المقطوعات الشعرية» أن في بدايات الشعر اهتمامًا بالتأثير والتأثُّر، وبالتكرار والتقليد، فهوميروس في مستهلّ ملحمة الإلياذة يتوجّه إلى ربَّات الفنون ويناجيها طلبًا للمعونة. لم يذكر كيليطو النصّ من الإلياذة، واكتفى بقوله: «نعلم أن هوميروس» إلَّا أن النصّ من الإلياذة بترجمة سليمان البستاني هو:
ربَّة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا واروي احتدامًا وبيلا
ذاك كيــد عمّ الإخاء بلاه
فكرام النفـوس ألفت أفولا
هذا مثال ينتقيه عبدالفتاح كيليطو من فجر الآداب العالمية، أما الأدب العربيّ فيتوقف كيليطو عند بيت الشاعر العربيّ الجاهليّ عنترة بن شداد:
هل غادر الشعراء من متردّم
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
يعلِّق كيليطو على هذا البيت قائلًا: «في فجر التاريخ العربيّ نُلْفِي رجوعًا إلى فجر سابق، إلى أصل وأساس، فجر مضى وامَّحَى (ولم يخلف إلا بعض الآثار)؛ لكنه ما زال لعنترة حاضرًا ينبض بالحياة، شعر عنترة الذي نميل اليوم إلى النظر إليه كشروق كان انحدارًا نحو الغروب».
غير أن ما لم يَتنبَّه له عبدالفتاح كيليطو هو أن فجر الشعر العربيّ بدأ قبل عنترة بن شداد؛ فالرواة ومؤرِّخو الأدب يتحدثون عن شخصية غامضة، عاشتْ فجر الشعر العربيّ، تُكنّى بابن حذام، وقيل: ابن خذام، وقيل: ابن حمام، وهي الشخصية التي تأثَّر بها امرؤ القيس في قوله:
عوجا على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن حذام
في مطلع القصيدة يعترف امرؤ القيس أنه يدين لابن حذام، وفي الوقت ذاته يمجِّد التراث الذي وصل إليه. وهو تراث يُمثِّل من وجهة نظر شعرية تحدِّيًا لامرئ القيس وحثًّا له في آن واحد. إن امرأ القيس مثله مثل عنترة بن شداد، إذا كان لا بد من أن يتأثر؛ فليتأثر، وَلْيَقْتَفِ آثار مَن سبقه، ولْيَحْذُ حَذْوَهم؛ لكن الظاهر كما يقول كيليطو: «إن الأقدمين لم يأتوا على قول كل شيء، وإنهم تركوا بعض البقايا، وإلا لَمَا وضع عنترة مُعلَّقته (…) لا يبدو أن عنترة ينشغل بتجربته، إنما بتجربة كل شاعر يواجه التراث. حينئذ يمكن أن نُعيد صياغة سؤاله على النحو الآتي: لا جَدْوَى من وضع أبيات لا تعمل إلا على تقليد أخرى». ينطبق هذا على امرئ القيس، فلو لم يكن هناك بقايا لَمَا وضع مُعلَّقته، ولَمَا أنشأ قصائده التي جعلت ابن رشيق القيروانيّ يقول عن أثره في شعر الشعراء من بعده: «ولا ترى شاعرًا يكاد يفلت من حبائله».
وَفْقَ وجهة النظر تلك فامرؤ القيس لم يكن «أول من بكى واستبكى، وليس أول من وقف واستوقف»؛ إنما تأثَّر بشعر شاعر قبله؛ لكن هل التأثُّر بالوقوف على الأطلال يعدُّ من التأثُّر السطحيّ أم من التأثُّر العميق؟ هنا لا يمكننا أن نحسم هذا الموضوع باللجوء إلى الرؤية الشعرية؛ لأنها هي وَحْدَها التي تسمح لنا باستنتاج أساسيّ في جزء من القصيدة في الشعر الجاهليّ؛ أعني البكاء على الأطلال. فما الرؤية الشعرية التي تكمن خلف البكاء على الأطلال؟ أَتَّفِقُ مع الباحث (عبدالحق الهواس) على أن البكاء على الأطلال في مقدمة القصيدة العربية الجاهلية هو «بكاء على وطن مفقود، وليس قضية حيوية بسيطة تتعلَّق بتنقُّل القبائل في مضاربها. هناك قبائل متوطّنة، وبكى شعراؤها على الأطلال في تطلُّع واضحٍ نحو إقامة وطن موحّد».
تكمن هذه الرؤية فيما نرى خلف المقدّمات الطللية؛ رؤية تُمثِّل مجموع التطلُّعات والمشاعر والأفكار التي تجمع بين أعضاء مجموعة واحدة؛ هم الشعراء الجاهليون، والبحث عن وطن مفقود، وكل عمل شعريّ كبير مثل أعمال الشعراء الجاهليين تعبير عن هذه الرؤية، وهي رؤية أشبه ما تكون بوعي جَمْعيّ بَلَغَ الحدَّ الأقصى في وضوحه التصوُّريّ في وعي الشعراء في مقدّمات قصائدهم.
غير أننا لا يمكن أن نفصل البكاء على الأطلال برؤية مستقلة عن القصيدة كلها؛ فدَّلالة هذه الرؤية الجزيئة يجب أن تُربط بالقصيدة كلها؛ عندئذ يمكن القول: إن القصيدة الجاهلية في مجموعها (الكل) مجاز عن البحث عن وطن، تبدأ بالحنين على فقده، ثم رحلة متعبة إليه على ظهر ناقة أو فرس. وإذا صحّ أن القصيدة الجاهلية هي في مجملها مجاز عن رحلة شعرية إلى وطن مفقود، فإن الدليل هو أن الرحلة لا تصل إلى أي مكان؛ لأن المكان مفقود في الأساس.
قد تبتعد القصيدة الجاهلية من هذا المجاز أو تقترب منه؛ لكنها -في الأغلب- تمثل الرؤية الشاملة في الشعر الجاهليّ من حيثُ الوعي الجَمْعيّ بشيء مفقود ينتشر بين الشعراء الجاهليين. لقد أقلقت هذه الرؤية الشعراء، وعبَّر بعضهم عن ذلك؛ مثل قول زهير بن أبي سلمى:
ما أرانا نقول إلا مُعارا
أو معادًا من قولنا مكرورا
ونلحظ صياغة القلق من اسم المفعول (مكرورا) من الفعل (كرّ) يعني: هجم أو تراجع؛ أي أن الشاعر في حيرة من أمره: أيهجم على ما أوجده (الرؤية) قبله من الشعراء؟ أيتراجع عن تكرار ما قاله (الرؤية) قبله الشعراء؟ وقوله: (مُعارًا) يدلّ على أنه لا يملك ما يقوله (الرؤية)، إنما يستعير (الرؤية) من آخرين؛ أي أنه في نهاية الأمر شاعر مُقلِّد فيما يقوله، وليس شاعرًا مبدعًا.
وَفْق هذه الزاوية تحديدًا لا مجال لفهم هذا البيت كما فهمه جواد علي؛ أي أن الشاعر اعتقد بتقدُّم الشعر في مرحلته التاريخية وبتطوره وبتفنُّن الشعراء الذين عاشوا قبله، في طرائق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب، حتى صار مَن جاء بعدهم من الشعراء عالة عليهم فلا يقول إلا مُعارًا.
ثمة أمثلة أخرى يمكن إيرادها؛ لتوضيح عملية التأثير والتأثر من زوايا مختلفة. فهناك من الشعراء مَن وصف الرؤية الشعرية من دون أن يسمِّيها؛ مثل لبيد بن ربيعة:
والشاعرون الناطقون أراهم
سلكوا طريق مرقش ومهلهل
تُجمَع لفظة شاعر على شُعَراء، لكن هؤلاء في بيت لبيد بن ربيعة (شاعرون) لا شُعَراء. لو أنهم شعراء حقًّا لَمَا نطقوا إنما (أشعروا)، ولما طرقوا طريقًا معروفة، إنما فتحوا لهم طريقًا جديدة. الشاعرون إذن هم الذين يتكلّمون، بينما الشعراء هم الذين يشعرون مثلما شعر المرقش ومهلهل اللذان مَهَّدا الطريق للرؤية الشعرية التي تأثَّر بها مَن جاء بعدهم.
إن في قول القدماء: «إن المهلهل كان أول شاعر وصل شعره إلينا أبياتًا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر أي شاعر تقدّم عليه، وإنه أول مَن رُوِيت له كلمة بلغت ثلاثين بيتًا». أقول: إن في هذا القول لَمعنى؛ إذ من المعروف تاريخيًّا أن كُليبًا أخا المُهلهل أراد أن يقيم مُلْكًا في جزيرة العرب، وأن يجعل للعرب وطنًا، لكنه قُتل في حادثة مشهورة، وبكاء المهلهل أخاه كُليبًا إنما هو في الأساس بكاء على وطن مفقود؛ مملكة العرب التي تحوَّلت إلى خراب من أجل ناقة البسوس.
إن ما يلفت الانتباه أن امرأ القيس هو -أيضًا- ابن مَلِكٍ ضاعتْ مملكة آبائه، ويمكن القول: إن بكاءه على الأطلال التي اشتُهِر بـأنه أول مَن بكى عليها هو بكاء على وطنه المفقود.
وعلى أي حال، قبل أن يُهَلْهِلَ الشاعرُ المُهَلْهِلُ الشِّعرَ لم يكن للشُّعراء إلا أبيات قليلة يقولها الرجل عند الحاجة؛ أي أن العرب كانوا مدفونين في حياتهم، ولم يكن بوسعهم أن يتوقفوا عن اللهاث خلف حياتهم اليومية ليتفكّروا في طبيعة حياتهم القائمة على الترحال. يفعل العربيّ ما يتحتم عليه فعله (طلب الكلأ والماء) حتى إذا ساءت الأمور؛ حينئذ يبقى الشِّعر له عزاء، ولم يكن هذا الشعر بأبياته القليلة إلا استعدادًا لِقَبول القَدَر الذي ينتهي بهم إلى الموت.
بعد هذه المرحلة من فجر الشعر العربيّ تزايدت الأبيات وتنوّعت طرائق الشعراء في نظم الشعر، ويُرجع جواد عليّ هذا إلى تقدّم الزمان، وزيادة الخبرة والمران، وتقدم الفكر، وهي أسباب أرى أنها هي التي أدّت إلى أن يكون هناك رؤية شعرية، فقد بدأ الشاعر العربيّ يفكر في طبيعة الحياة القائمة على الحِلّ والترحال؛ لكي لا يبقى مدفونًا في حياته اليومية مثل أيّ رجل عربيّ آخر.
بسبب رؤية الوطن المفقود التي تولّدت عن تفكير الشعراء لم يَعُدِ الشعراء «شاعرين ينطقون» كما عند لبيد بن ربيعة؛ إنما نوابغ كما عند الفرزدق الذي يقول: «وهب القصائدَ لي النوابغُ إذا مضوا». وما يلفت النظر في قصيدة الفرزدق التي عَدَّدَ فيها الشعراء هو قوله: «ومهلهل الشعراء ذاك الأول»، وهو فيما أرى له علاقة بالظروف التاريخية التي تكوَّنت فيها رؤية الوطن المفقود التي بلغ القول فيها مبلغًا عند عنترة كما يُفهم من كلمة «متردّم»؛ في مطلع معلَّقته؛ إذ إن «متردّم» هو القول المحبوك نَسْجه بإتقان.
علي الشدوي – ناقد وروائي سعودي
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
أنت رائع