كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الربيع العربي وقلق السينما.. تأمل في مسارات الحكي والتعبير
في (17 ديسمبر 2010م) تناقلت وسائل الإعلام في العالم حادثًا مأساويًّا لشاب تونسي يحرق نفسه بعد مصادرة السلطة لبضاعته، يخرج التونسيون إلى الشارع، وتصل أصوات الصارخين إلى مصر، وسوريا، والمغرب، وليبيا، كما لم يحصل من قبل. فتطلق وسائل الإعلام على هذا الحراك تسمية الربيع العربي، فتتّسع آفاق الحلم ويظهر نور الديمقراطية في نهاية النفق كان يجب أن نصل إلى نهايته فقط! الآن بعد مرور ما يقرب من العقد تسترجع الشعوب العربية الحلم، لكنها تسترجع معه إحساسًا غير واضح يختلط فيه الحزن والندم واليأس من دون أن يستقر على شعور واحد، بعدما صار بالإمكان الوقوف على المكتسبات وعدّ الخسائر.
مدخل
صار اليوم النظر إلى الربيع العربي نظرة تقيسه بمكاسبه وخسائره، من خلال هذا المنظور، فقد تطرق المنتدى الإستراتيجي العربي من خلال تقرير له بعنوان خسائر الربيع العربي إلى رقم مهول فقد حدّد الخسائر التي تكبدتها البلدان التي شهدت ثورات بين عامي 2010م و2014م بلغت نحو 833.7 بليون دولار أميركي، إضافةً إلى مليون و340 ألف قتيل وجريح، نتيجة للحروب، وهو تقرير شمل تسعة محاور منها الناتج المحلي والبنية التحتية وأسواق الأسهم والاستثمارات والسياحة، إضافة إلى كلفة إيواء اللاجئين. هذا ما جعل الكلام الآن عن نتائج الربيع العربي هو عكس الحماس الذي صاحب ميلاده وتلا أحداثه. القليل جدًّا من لا يزال على موقفه الذي يرى ضرورة النزول إلى الشارع من أجل التغيير، هذا أمر يعكسه الخفوت الكبير في الكتابة عن الربيع العربي وما يجب أن تصير عليه الأمور بعده، حتى عبارة الربيع العربي صارت تُذكر بعبارات لصيقة بها مثل «ما سمي بالربيع العربي» تأكيدًا لعدم تماشيها مع واقع الحال، ومثلما وُصفت الانتفاضات بالربيع فهناك من وصفها بالخريف. لكن التاريخ رغم ذلك سجّل أن الثورات تأخذ وقتًا، وشدّد على ضرورة أن تُسبق بثورة ثقافية. لكن المهم أن أمر التغيير متروك للزمن وقياس مدى استعداد المجتمعات العربية للتغير وتشبثها به أمر متروك لفهم معاني التغيير والاتفاق بشأنها. لكن ما يهمنا ونحن نلملم التفاصيل والمضامين الثاوية في الأعمال السينمائية أننا نتوقف على مرحلة مهمة من تاريخ السينما العربية ومآلات الربيع العربي التي خلّفت إنتاجًا أدبيًّا وفنيًّا مهمًّا يستدعي الدراسة.
سينما ما بعد الربيع العربي
هناك مأزق يترصّد الحديث عن الربيع العربي أو عن الثورة عمومًا في الأدب والفن على حد سواء؛ إذ يعترضنا إشكال متى يمكن للمبدع أن ينجز عملًا عظيمًا عن الثورة أو حراك شعبي ما؟ هل ينجزه وهو يعيش مخاضها ويتتبع تفاصيلها ويعيشها، أو أن يرجئ ذلك إلى ما بعد الثورة، أي إلى حين هدوء عواصفها، وصفاء سمائها، حيث يصبح بإمكانه استرجاعها بتروٍّ يمكِّن في النهاية من عمل يستشرف المستقبل ولا يكتفي بوصف ما حدث فقط. هل يشغل مفهوم الزمن هنا الإلزام؟ هل يمكننا أن نعتبر أن أخذ مسافة زمنية، مع ما جرى من أحداث هو قدر وطريق يجب سَلْكُه؟ في هذا الصّدد علينا أن نُذكِّر بتجربة نجيب محفوظ الذي توقّف عن الكتابة ستّ سنوات عقب ثورة 52، ومن بين تفسيرات كثيرة لصمْتِه كان هناك تفسير رائج، أن حرصه على الابتعاد كان بدافع إيجاد مسافة مع هذا الحدث العظيم(1)، حتى يتعامل معه أدبيًّا بالطريقة المثلى، وهكذا ظهرت الثورة في الكثير من أعماله مثل: (ثرثرة فوق النيل، وبداية ونهاية، واللص والكلاب…) كما أنّ علاء الأسواني الذي انتهى مؤخرًا من روايته «جمهورية كأن» واستغرق زمنًا في كتابتها، وأخذ أيضًا مسافة مع أحداث الثورة المصرية.
يبدو من هذه الناحية أن رؤية المبدع لعمله الفني هي المتدخِّلة بشكل أساسي في المدّة الفاصلة بين إنجاز العمل، لا أن يكون مبدأ اتخاذ مسافة شرطًا مسبقًا وحاسمًا يؤدي احترامه إلى جودة مثلما يؤدي خرقه إلى قبح أو رداءة! حتى الآن فالمدة التي تفصلنا عن الربيع العربي الذي اندلع في تونس ومن بعدها في مصر وسوريا والمغرب…لم تتجاوز العقد ومع ذلك فقد شاهدنا أعمالًا سينمائية قدّمت رؤى مختلفة فيما جرى من أحداث، دراما، سينما…لكن هل قدّمت هذه الأعمال منجزًا سينمائيًّا يُشكّل ما يمكن أن نطلق عليه تيارًا؟ الأكيد أن الأعمال التي أعقبت الثورة تفتقد إلى بناء فلمي واضح وإلى تصورات جمالية خاصة بها، صحيح أنها استطاعت أن تنتزع وسائل تعبيرية كثيرة لكن ما زال الوقت مبكرًا على الحديث عن فلم متمكن من وسائله ومطوّع للحدث لصالحه وليس العكس، أن يكون الإنسان فيها هو مركز الفلم.
كيف عبرت السينما بعد الربيع العربي؟
الصورة، كانت أوّل سند للثورة، عن طريقها وصل إلى العالم ما كان يحدث في الشارع، وصار بإمكان العالم أن يتابع ما يحدث في شارع بورقيبة وميدان التحرير. كما كانت كاميرا الفيديو فعالة في تصوير ما يقع بسرعة فائقة، الصورة إذن ساهمت في التغيير وكانت فاعلة فيه. وهذا كان منطلق السينما في الوصول إلى المشاهد ونقل وجهات نظرها في الربيع العربي. إن الانطلاق من الإشكال التالي: كيف عبّرت السينما بعد الربيع العربي؟ كفيل بأن يفتح أفقنا على ما نريده من هذا الموضوع.
مساحة حرية مع نسمات الربيع: كانت أغلبية الأسئلة المثارة حول سينما ما بعد الربيع العربي متعلقة بهامش الحرية التي قد يربحها الفن السابع سيرًا على مطلب الشارع، السينما العربية كان لها الحلم المشروع بالحريّة، بحيث يمكننا اختزال الكلام عن الحرية في إنهاء عهد الرقابة وسلطتها وكذلك اتساع مجال الاشتغال في كل الموضوعات المسكوت عنها والانفتاح على كل الموضوعات السياسية خاصّة، هذه -قد تكون-هي مطالب سينما ما بعد الربيع العربي التي يمكن أن ندرجها تحت عنوان الحريّة، لكن هل يكون تحقيق هذا المطلب سهلًا للسينما؟ الأمر أصعب لأن الحديث عن الحرية في السينما هو تقريبًا مقياس لمدى سير الشعوب في درب المصالحة، كما أن للمسألة جانبًا أهم وأقوى وهو الجانب المادي الذي يرتهن له إنتاج الأفلام وتداولها.
مشكل الدعم
مبدئيًّا إن تصريف موضوعات فكرية وفنية تنتصر لرؤية المخرج صعب في ظل صناديق الدعم التي تدعم ما تراه مناسبًا من أفكار وتقصي ما تراه مشاكسًا أو خارجًا عن إطار رؤيتها. أمام هذا الواقع كان على السينما أن تبحث عن منافذ دعم أخرى منها صناديق دعم غربية أوربية تحديدًا. ولم يكن يمكن أن نتحدث عن فلم «الشتا اللي فات» شكّلت تجربة فريدة في إنتاج أفلام بميزانيات قليلة، يحكي الممثل عمرو واكد عن هذا الفلم أنّ إنتاجه كان بدعم ذاتي وبمشاركة من ممثلين منتصرين للثورة. ويُعد فلم «الشتا اللي فات» للمخرج إبراهيم البطوط نموذجًا للموجة السينمائية الجديدة، وشارك في كتابته أربعة مؤلفين، هم ياسر نعيم وحابي سعود وأحمد عامر، إضافة إلى مُخرِجه. واشتركت في إنتاجه شركات مستقلة يملكها بطلاه عمرو واكد وصلاح الحنفي ومخرجه إبراهيم البطوط، وشارك في بطولته عدد كبير من الوجوه الجديدة وعدد من صناع السينما المستقلة الذين عملوا في الفلم بالمجان دعمًا لصناعه»(2). هل كان بإمكان السينما المصرية أو غيرها أن تنتج أفلامًا بقدر كبير من الحرية في اختيار شكل التعبير المناسب ومضمون تعبير مناسب يتجاوز مشكل الدعم في ظل مجموعة من الظروف المفروضة على السينما، فهي ملزمة بتخطي دعم الدول والحكومات، وهذا يقتضي بحثًا مضنيًا عن بديل أجنبي. وهو ما سيفتح باب نار آخر عندما ستوصف أعمال مدعومة من الخارج بأنها قد تحمل أفكارًا تهدّد الداخل! كما يمكننا ملاحظة الحماس الكبير في إنتاج الأفلام بعد السنتين الأوليين للثورة وخفوته بعدهما، هل ستتحمس صناديق الدعم لأفلام لا تقدم بالضرورة أفلامًا عن الثورة بمباشرة نمطية بل بتأمل عميق في الأسباب والنتائج ومصاير الناس؟ لكل هذه الأسباب يجب أن يتسع النقاش عن الحرية حدود التعبير إلى كل هذه الجوانب.
المضامين الجديدة
أدّت الكثير من الظروف بعد الربيع العربي إلى دفع السينما العربية إلى أن تسلك مسارًا واقعيًّا صرفًا في اختيارها للمضامين، ويمكن اعتبار هذا المسلك عودة للواقعية بعدما شكلت تيارًا سينمائيًّا لمدة طويلة في الماضي، هذه العودة جاءت بعد سيادة مضامين جديدة مثل العنف والكوميديا وصلت حد الابتذال، لكن، لم يعد بمقدور الجمهور أن يشاهد الكوميديا وهو يعيش أسوأ الظروف، من فقر وتهميش وقهر، صحيح أن هذه الموضوعات كانت تنتشله أحيانًا من أزمته لكنها لم تعد قادرة على لعب الدور نفسه بعد موجة التكنولوجيا فسرعة متابعة الأخبار المصورة من خلال الهواتف النقالة ونقلها لعنف الشارع بشكل سريع ومتلاحق ويومي كان يذكِّر الجمهور أن الواقع أشد بؤسًا وأن القادم أسوأ من الحاضر. لكنّ هناك عاملًا موضوعيًّا في هذه المعادلة، فظروف الاضطراب والترقّب والخوف من مسارات الثورة، جمّدت وأجّلت تفكير الجمهور في السينما وأصبحت في نظره ترفًا وحاجة لا تلائم تفكيره في اليومي ومصاعبه، هذا الموقف انعكس في هجره لقاعات السينما، وعدم إقبال المنتجين على إنتاج أفلام نجوم وشباك تذاكر تفاديًا لفشل تجاري كان يطرق الأبواب، فالتقطت السينما البديلة هذه الإشارة، واعتبرتها فرصة مثالية، فتكاثفت شركات الإنتاج الصغرى والمستقلة ومعها أفراد ينتمون إلى مجال السينما، أغلبهم لم يكن يمانع بالعمل المجاني في فلم عن الثورة… وهكذا تحقّق تراكم سينمائي مهم، تميزه صفة الاستقلالية ويوحِّده اتخاذ موضوعات الثورة نفسها أحداثًا لأفلام سينمائية، وهنا يمكننا أن نتحدّث عن الكثير من الأعمال بين التسجيلي والروائي، كلّها كانت تدور في فلك الثورة، وتستلّ منها أحداثها ويمكن هنا أن نذكر: (الشتا اللي فات) 2011م إخراج إبراهيم البطوط، وفلم (18 يوم) 2011م وهو عبارة عن عشرة أفلام قصيرة تمثل عشر وجهات نظر عن الثورة، و(بعد الموقعة) 2011م إخراج يسري نصر الله، و(اشتباك) 2013م إخراج محمد دياب، و(قبل الربيع) لأحمد عاطف، و(على حلّة عيني) 2016م لليلى بوزيد، و(مانموتش) 2012م لنوري بوزيد…
الجماليات الجديدة وطرق التعبير
الجانب المهمل في سينما ما بعد الربيع العربي هو جانب التعبير وطرقه، ونقصد (الأساليب التي عبر بها الفلم وطرق الحكي وبناء القصّة) مع أن هذا الجانب قد يكون الأهم لأنه يخلق للسينما أفقًا جديدًا واختيارات متعدّدة، ولعل أبرز تيارات السينما وأشدها تأثيرًا في تاريخها جاءت بعد وقع أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية. من هنا يمكننا أن نختبر المنجز السينمائي العربي بعد الربيع العربي وبحث أساليب تعبيره الجديدة.
لا حدود بين الروائي والتسجيلي: لعلّ أول ما يسترعي الانتباه في منجز أفلام بعد الثورة إعادة رسمها للحدود الفاصلة بين الفلم التسجيلي والفلم الروائي، صحيح أن هناك أفلامًا روائية مثل (الشتا اللي فات – بعد الموقعة- اشتباك) وهي أفلام مصرية، و(مانموتش) وهو فلم تونسي، و(جوّع كلبك- وهم الكلاب..) وهي أفلام مغربية… لكن ملامح الفلم التسجيلي هي الصفة الطاغية التي يسهل أن نصل إليها في هذا المنجز، وهي الميزة التي تسم أفلام هذه المرحلة، ويمكن إرجاع أسبابها إلى المباشرة التي لعبتها أرشفة الأحداث ومحاولة حفظها، وكاميرا الهاتف والكاميرات المحمولة التي سهلت على المخرجين الشباب الانطلاق من اليومي لصناعة أفلامهم، «الوثائقيّ، سواء أكان تسجيليًّا أم سينمائيًّا أم تلفزيونيًّا، بدا الأسرع في التقاط نبض الشارع، وفي وضع ما يُمكن اعتباره «حجر الأساس» لنشاطٍ، يتّخذ من الصورة مادة فنية لمقاربة تجليات الواقع، في مراحله المختلفة، وتحولاته المختلفة، وأسئلته المختلفة»(3). لكن عندما نتحدث عن الفلم الروائي فلن يسهل علينا تلمس ملامحه الواضحة، بناء الفلم لم يجد بعد مخرجًا فنيًّا واضحًا يكون بداية لتأسيس فلم، وأن يطوع الأحداث والقصة لصالح شكل واضح، كما أن أفلامًا روائية كثيرة تراوغ الروائي لصالح الوثائقي رغم أنها تقدّم نفسها كأفلام روائية.
لذلك فالكثير من القلق يجب استحضاره ونحن نتحدث عن تجربة سينمائية حقيقية بعد الربيع العربي، فإنجاز أفلام عن الربيع العربي، أمر ليس بالسهولة التي قد تتبادر إلى الذهن، فالفلم الروائي «لا يزال، لغاية الآن، عاجزًا عن تحقيق التراكم الفني – الثقافي – الجمالي المطلوب، وعن تطوير أدوات تعبيره، وعن تثبيت لغة سينمائية في مقاربة الحكايات والحالات، إما لأن الحدث، بحدّ ذاته، يُنتج تبدّلاتٍ خطرة وغير محسوبة وسريعة وعنيفة، تستمرّ في إرباك اللحظة نفسها، وإشاعةِ مناخٍ غامضٍ حول كلّ شيء؛ وإما لأن سينمائيين عديدين يُفضِّلون إيجاد مسافة -زمنية وثقافية وتأملية- عن الراهن الآنيّ، قبل البدء بتحقيق أفلام تبني على الوقائع ما يُغذّي المخيلة في تشييد عمارة سينمائية صلبة المبنى، ومتينة الصنعة، تعالج المواضيع الجمّة، التي لا يزال الحراك يُفرزها، بحيوية إبداعية تحصّن اللغة السينمائية من كل شائبة ممكنة»(4). المدى الذي يمكن التوقف عنده مستقبلًا منفلت، والأوضاع السياسية لا تبشر بمستقبل فني يستطيع معه الفلم والمخرج الاطمئنان، ومزاج الداعمين في الداخل والخارج قد لا ينظر لسينما الربيع العربي بالحماس نفسه الذي نظر به إليها في الماضي، علينا إذن، استحضار كل هذه العقبات عند الحديث عن فلم روائي متكامل يحقق تراكمًا وبعده توجهًا ولِمَ لا تيارًا!
لكن، إذا تخلصنا من تصورنا المفترض عن كيفيات بناء الفلم وطرق اشتغاله ونظرنا إلى الأفلام الروائية المنجرة على قلّتها فهي تحرك أسئلة كثيرة. وإذا أردنا أن نحصر دائرة أفلام بعينها للخروج باستنتاجات يمكن إسقاطها على الكثير من الأفلام الأخرى، فيمكننا أن نسمي على سبيل الذكر لا الحصر ( الشتا اللي فات – بعد الموقعة- هم الكلاب – سلم إلى دمشق – اشتباك – 18 يوم).
قلق الكاميرا
إن أغلبية الأفلام هنا، تخلّت عن حيادية الكاميرا الثابتة، والتأطير الثابت يكاد يكون نادرًا، ثم تعويضه بكاميرا محمولة تقاذفها الأيدي كما الأحداث، تصاحب الفوضى، توجه عدستها في كل اتجاه وسرعة تقترب وتبتعد من دون ضرورات أحيانًا، لا يمكن النظر إلى هذا الجانب الجمالي نظرة سلبية؛ إذ إن مقاربة موضوعات الربيع العربي ورواية قصصه فرضت على المخرجين، أو هم من وضعوا صوب أعينهم نقل نبض الشارع وهو ما جعلهم ينحازون إلى خيار الكاميرا المحمولة، رغم أنهم بذلك كانوا ينحازون معها إلى الموضوع لا الشكل.
الشخصية على حساب الحدث: أفلام كثيرة لم تقنع بتقديم خطّ سردي لشخصية واحدة، تكون أساسية وتحاط بعد ذلك بما يؤثث الأحداث، أفلام فتحت مسارات لشخصيات مختلفة، لقصص متعدّدة ولمصاير متداخلة، حاول كل فلم على حدة وكل الأفلام مجتمعة أن تُسمع فائضًا في أصوات الناس، الحدث يستكين والإيقاع يهدأ ليفتح للشخصيات المجال للتعبير عن وجهة نظرها التي قد تختلف وقد تتفق حول الثورة، فكثرت أصوات الراوين الذين يقدمون أنفسهم ووجهات نظرهم في ما حصل. يمكن هنا أن نتحدث عن فلم «18 يوم»، المحسوب عمليًّا على الفلم القصير، بحيث يتضمن 10 وجهات نظر مختلفة حول الثورة، وفلم «الشتا اللي فات» أيضًا حتى «اشتباك».
المكان ووجهات النظر: أفلام كثيرة قدّمت تصورًا مختلفًا لبنية المكان وعلاقته بالسرد الفلمي، بدأ بـ«سلم إلى دمشق» لمحمد ملص وانتهاء بـ«اشتباك» لمحمد دياب و«18 يوم»، في كل هذه الأفلام جُمِعت شخصيات عديدة تحمل فكرًا مختلفًا داخل فضاء مغلق عليها، يكون هذا الفضاء رهينًا بما يقع خارجه، هكذا كانت هذه الأفلام تستطيع أن تمسك بالوطن كله في دائرة ضيقة، يصير معها الحوار ممكنًا بعد التعب والظلم الذي يلحق بالجميع، زجت هذه الأفلام بأطياف مختلفة منها رجل الشرطة نفسه الذي عذب وقتل وأحرق…مع ضحاياه السابقين في المكان الضيق نفسه (مخفر، بيت، مستشفى، سيارة شرطة…) ورغم عدم قدرتنا الآن على الأقل في الوقت الراهن، على إلحاق هذا الجانب بمظاهر جمالية ظهرت في سينما الربيع العربي، فلا يمكن أيضًا تجاوز تميزه وقدرته على أداء دور فني مناسب للقصص التي قدمته، مع استحضار شح ميزانيات الإنتاج التي فرضت على المخرجين عدم النظر إلى قصص مكلفة!
خلاصة
على السينما (مخرجين، منتجين، كتاب، نقاد…) أن تتجاوز التفكير في الربيع العربي كفترة تفرض نفسها بحالة معينة وجامدة، كأن تعود في كل لحظة إلى الحدث بعينه، هذا الأمر سيؤدي بها إلى الكثير من الادعاء، وسيؤدي بنا إلى مشاهدة الحدث نفسه مرارًا، لن تستطيع السينما مجاراة نشرات الأخبار في نقلها المباشر لما حدث. عليها إذن، أن تعود إلى حصونها العتيدة إلى اللغة السينمائية وإلى الإنسان، لا يجب أن تتملص الأفلام من الشكل الأنسب، الذي تختزله قاعدة بأية طريقة تحكي، السينما يجب أن تجد وسائل تعبير وأن تجتهد في الوصول إلى القصص، قصص الناس وليس حديث الثورة بالضرورة. لقد نجحت كتابات محفوظ لأنها ترصّدت واقع ما بعد الثورة، تتبعت الإنسان المصري المنهك الذي خرج من واقع مرير إلى واقع أكثر مرارة، وهذا المسار هو ما سيجعل السينما تعيد تأمل الواقع الذي يتبدّل باستمرار وتنكشف فيه حقائق وتغيب أخرى، وهنا يأتي دور السينما والسينمائيين.
______________________________________________________________________________________________________
الهوامش:
١) هناك تفسيرات أخرى لابتعاد نجيب محفوظ من الكتابة في هذه الفترة، منها أنه بعد الانتهاء من الثلاثية أراد أخذ مسافة مع الكتابة نفسها.
٢) السينما المصرية تعود إلى الواقعية http://www.aljazeera.net/news/cultureandart .
٣) نديم جرجورة، أفلام الربيع العربي: ارتباكٌ وجماليات https://www.alaraby.co.uk/diffah/arts
٤) نديم جرجورة، أفلام الربيع العربي: ارتباكٌ وجماليات https://www.alaraby.co.uk/diffah/arts
المنشورات ذات الصلة
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم
أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط...
«احكِ منامكَ حتى أراك» لخليل صويلح محمد ملص: مخرج لديه رغبة دفينة في ترجمة عمره الشخصي إلى أفلام
يستعير خليل صويلح قول سقراط (470- 399 ق. م) «تكلم حتى أراك» عنوانًا لكتابه الجديد «سينما محمد ملص- احكِ منامكَ حتى...
0 تعليق