كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الثقافة من الخوف إلى الإنصات
عاصفة العنف التي تهبّ هنا وهناك تستدعي الوقوف مرة تلو أخرى عند مسألة الموقف من الثقافة في العالم العربي. هذا رأيي باختصار. في غمرة عاصفة العنف التي تتضاعف شراستها، يستبدّ الحل الأمني بأصحاب القرار في العالم العربي، كما في كل مكان يهجم عليه العنف. لكن الوقوف عند مسألة الموقف من الثقافة هو ما يجب عدم التفريط فيه.
ليس لي أمل في أن يغير أصحاب القرار نظرتهم إلى المثقفين النقديين العرب، فيقتربوا قليلًا منهم. لكن المثقفين النقديين لا يتعبون من الطرْق على الأبواب طيلة الليل والنهار. يواصلون الطرْق؛ لأنهم يدركون أنهم لأجل هذا كانوا ويكونون. أو بالأحرى لأنهم يعرفون أنهم يقولون ما لا يحب أصحاب القرار أن يسمعوه. لقد تعود أصحاب القرار على أن يطلبوا من أبناء بلدانهم، من أي فئة، أن يقولوا لهم ما هم يحبّون. والمثقفون النقديون يعرفون أن هذا ليس من طبيعة واجبهم. واجبهم هو أن يقولوا ما يفكرون به؛ لأنهم يحرسون حلم الناس جميعًا بعالم حر، ينتقل بالأرض وأهلها إلى زمن يتخلص من الجهل والاستعباد والكراهية.
هل هذا كثير؟ ربما كان أكثر من كثير، في عالم عربي يقف اليوم مذعورًا، مرتبكًا، حابس الأنفاس. لا يدري من أين يقبل العنف بهذا الشكل وهذا الحجم. لا يصدق أن كل ما حقق من مراحل على طريق البناء الاجتماعي والتعلّم من العالم يصبح في لمح البصر في مهب عواصف العنف التي تتضاعف مآسيها.
لكن يحق لكل واحد منا، قبل هذا، أن يتساءل عن معنى أن يقول المثقفون النقديون ما يفكرون به، وليس ما يحب أن يسمعه منهم أصحابُ القرار. فالتساؤل قيمة سابقة على القبول وعلى اليقين. قد لا يخطر على بال الشخص أن يتساءل عن معنى ما يتكلم بشأنه المثقفون النقديون، إما لأنه يجعلهم في مكان اللعنة، أو في مكان التبجيل. وهما معًا منافيان لأخلاقيات الثقافة وأبجديتها.
ما أفكر به، شأني شأن كل مثقف نقدي ارتبط مصيره بمصير أهله وأرضه، هو الثقافة. هي كلمة السر. هي الإشارة والملاذ. الثقافة التي تعني المعرفة المتصلة في آن بالفرد والجماعة، بالواقع والمصير، بالإنسان والأشياء والكون، بالاكتشاف والإبداع، بالذات والآخر، بالحياة والموت. كل معرفة تدلنا على هذه جميعًا هي الثقافة. مهما كانت صيغة التعبير عنها، أكانت فنية أم فكرية أم علمية. لا أقصد إعطاء تعريف يعيّن الحدود، بل أفتح الطرقات على الفضاء الشامل للثقافة، بما كان لها عبر الأزمنة، وما هي عليه في حياتنا اليوم.
تعريف كهذا للثقافة لا يتوقف عند حد معلوم، لا يتعب من السعي في طرقات الثقافة، ولا يتأفف من طلب استئناف السير بقدمين لم تتدربا على المشي في المسالك المتشعبة. تعريف يخرج بالتأكيد على صيغ الفرجة التي نرتاح إليها، وعلى ثقافة الاستهلاك التي يكون الهدف منها هو امتصاص الطاقات المبدعة الخلاقة. تعريف مستخلص من الثقافة التي تتطلب الجهد والتركيز والمعاناة. وبه تكون الثقافة رفيقة لنا في الحياة، تدلنا على ذاتنا، وعلى الفضاء الذي نعيش فيه: فضاء المجتمع والقيم، فضاء الأشياء بما تمثله بالنسبة لي ولك، فضاء الكون الذي نحن جزء منه.
والثقافة هي التي تعلّمنا معنى الثقافة. عندما لا نكون باحثين في مجال من مجالات المعرفة، ونريد أن نعرف معنى الثقافة، فمن الأحسن أن نتجنب التعريفات القديمة والحديثة، ونذهب مباشرة إلى ما يشكل الثقافة ذاتها. عندما أقرأ قصيدة أو رواية، عندما أشاهد مسرحية أو شريطًا سينمائيًّا، عندما أتعرف على نظرية فلسفية أو علمية، عندما أنصت إلى موسيقا وأستمع إلى غناء، عندما أسكن بيتًا أو أعمل في مكتب، عندما أركب سيارة أو حافلة أو طائرة، عندما أتبع طريقة في الأكل، وأفضل لباسًا على سواه. هذه كلها هي الثقافة.
ما أتعلم من كل هذا هو كيف أميز بين ما يمنحني رؤية متجددة إلى الحياة، وما يشوش عليّ الرؤية أو يمنعها عني. ولا شك أن الكتاب يظل المادة الأكثر قدرة على تعليمنا معنى الثقافة. الكتاب بتاريخه العريق، من العهود القديمة حتى اليوم. كتاب متعدد: في الأدب، والفنون، والتاريخ، والفكر، والعلوم. كل فرع من هذه الفروع يتسع ليشمل حقولًا لا عدّ ولا حدّ لها. تلك هي الثقافة التي بنتْها شعوب عبر تاريخ الحضارات. إنها الثقافة التي صقلت حواس الإنسان وفكره، هيأته ليعيش بأفضل طريقة، ويتعايش مع الآخرين. هي التي نقلته من وضعية الغاب إلى وضعية الحضارة، في المدينة والبادية على السواء. هي التي أمدته بالمعرفة، وهيأت له شرائط الإقامة في وسط مجتمع ومؤسسات دولة. هي التي حمته من السقوط في الغوغائية، وهي التي ساعدته على الاحتماء من سطوة الطبيعة، وإبداع وسائل لتطويعها لصالحه.
لنتأمل تاريخ الشعوب التي بنت حضارات باذخة، وكان العرب من بينها. ألا يمكن أن نتوقف لنسأل عن السبب الذي كان وراء نشوئها، منذ الحضارات الفرعونية والبابلية حتى حضارة العصر الحديث؟ سيقودنا السؤال إلى البحث عن معنى الحضارة، سينقلنا من قبول الحياة كما نحياها إلى الوقوف على عتبة معناها. وستسعفنا الثقافة، من جهتها، في جعل حياتنا أكثر امتلاء مما هي عليه بدونها. بحساسية الإبداع ونور الفكر سنعثر على طرائق لم نعهدها في حياة الانغلاق والاستهلاك. وبفضلها سنتكلم مع العالم لغة مشتركة، وسنقيم على الأرض بين جميع أهل الأرض.
هذه الثقافة هي التي خاف منها أصحاب القرار في العالم العربي الحديث. بذل المثقفون النقديون مجهودات متوالية؛ لتفسير مصدر هذا الخوف، وفي كل مرة يذكّرون بأن الثقافة نعمة بدلًا من أن تكون وحشًا. خاف أصحاب القرار من الثقافة؛ لأنهم لم يفهموا أنها تدل على كيفية التخلص من التخلف والاستعمار والتبعية. وها نحن اليوم، بعد قرنين من مشروع التحديث، نجد أنفسنا في تخلف أكبر مما كنا فيه. تخلف هو الجهل الذي يستولي على العقول، ومصدره حرمان العربي من الثقافة.
ما عليه العالم العربي اليوم من ذعر، وارتباك، واحتباس الأنفاس، ربما وجّه أصحاب القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا به. أن ينتقلوا من الخوف من الثقافة إلى الإنصات إليها. ذلك شرط يتقدم الشروط كلها. منذ ما بعد 11 سبتمبر، شرع الغرب في توجيه التوصيات إلى أصحاب القرار في العالم العربي. توصيات العناية بالعلوم الإنسانية، بالفلسفة، بالفكر النقدي إجمالًا. وفي كل مكان من العالم العربي اليوم مجموعات عمل تشتغل على تنفيذ ما ينتظره الغرب منا. لكن الغرب ينسى أن يذكّر أصحاب القرار بضرورة أن ينتقلوا هم أنفسهم من الخوف من الثقافة إلى الإنصات إليها.
لا يمكن لمؤسسة أن تقوم بتنفـيذ مشروع إن كانت هي نفسُها لا تستوعب فاعلية ما ستقبل عليه. من هنا يصبح اقتناع أصحاب القرار بالثقافة لازمًا في الخروج من تعليم الجهل الذي أمروا به، ومن ثقافة الجهل التي عمّموها عبر وسائل الإعلام. أما أنت، فلك أن تتكلم بحرية صوت لا يخشى، وصوت لا يتوقف عن الجهر بضرورة الإنصات إلى الثقافة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق