المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

المؤسسات الدينية وجهات المجتمع المدني

ضرورة تقتضي القيام بإجراءات الاستحقاق أو يستمر الضياع

بواسطة | يناير 1, 2020 | قضايا

المؤسسات الدينية معروفة، ومهماتها في المجتمعات الإسلامية السُّنية تتلخص في أربع: القيام أو الإشراف على وحدة العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام. أما جهات المجتمع المدني فتتمثل في المفكرين والمثقفين، وأساتذة الجامعات، ووسائل الإعلام والاتصال، والمجموعات الأُخرى الجديدة غير الرسمية والمعنية بالشأن الديني.

المؤسسات الدينية وسلطات الدولة

وإذا استعرضْنا بإيجاز تجارب المؤسَّسات الدينية السنية مع السلطات السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين، يتبين لنا أنّ التجارب الأساسية يمكن تركيزها في ثلاث: تجربة التناصر والتوافق والاستتباع، وتجربة التهميش إلى حدود الإلغاء، وتجربة الحياد الإيجابي أو السلبي. فكل المؤسسات الدينية (الرسمية) هي جزءٌ من جهاز الدول تقريبًا، بمعنى أنها تابعةٌ في حراكها ونشاطها ومواردها للدول الوطنية وحكوماتها وأجهزتها القائمة. ولأنّ الدول الوطنية بعد الاستقلال، امتلكت جميعًا برامج تحديثية وبخاصةٍ في التربية والتعليم، وفي التوجيه والإرشاد؛ فإنه كانت لها مواقف من المؤسسات الدينية القائمة والتابعة لها إلى حدودٍ بعيدة. فالدولة الحديثة تميل في حركتها إلى الشمولية، وإخضاع أو استيعاب الجهات التقليدية القائمة في المجتمعات وفي طليعتها المؤسسات الدينية. ولذلك فإنّ المؤسسات التي سارت في التحديث أيضًا وإن لم تكن طليعية؛ تعرضت لضغوطاتٍ للاندفاع في البرامج التحديثية. ولذلك فإنّ التوافق في العلائق ما كان دائمًا مستتبًّا؛ وبخاصةٍ في الدول ذات الإدارات الكوربوراتية، والتوجه الاشتراكي. وعلى أي حالٍ فإنّ هذه الدول، وتبعًا للتوجهات العامة لإداراتها، والمهمات والوظائف التي رأتْها لتلك المؤسسات سلكت سياساتٍ مختلفة، ولذلك قلنا: إنه كانت لها تجارب مختلفةٌ مع المؤسسات الدينية. ففي الدول العربية الكبرى والمحافظة أو شبه المحافظة مثل المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية، وجمهورية مصر العربية، كان التوجه العام حفظ المؤسسة الدينية بل تضخيم أجهزتها. وكان طبيعيًّا أن يحدث ذلك في الدول ذات الأصول والشرعية الدينية مثل المملكة العربية السعودية، والمملكة المغربية. إنما حتى في مصر التي اتخذت تجربتها السياسية منحًى ثوريًّا مع ثورة يوليو عام 1952م؛ فإنّ الطرفين: الضباط الأحرار، والأزهر ظلا حريصين، على التعاوُن والتنسيق؛ وبخاصةٍ بعد عام 1961م الذي صدر فيه قانون جديد لتنظيم العلاقة بين الدولة والأزهر. وهكذا يمكن القول: إن التجربة بين الدولة والمؤسسات الدينية في الدول العربية الكبرى ذات المؤسسات الدينية العريقة كانت تجربة حفظٍ واستيعابٍ وتلاؤمٍ أو استتباع في حدودٍ معينة.

أما الصيغة الأُخرى والبارزة للعلاقة بين إدارات الدول والمؤسسات الدينية في المرحلة الماضية، فكانت صيغة التهميش والإقصاء. وينطبق ذلك على نحو عشر الدول العربية، استولى على السلطة فيها العسكريون والأمنيون فيما بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وقد كانت تحدو العسكريين الشبان آمال وخططُ التنمية السريعة من جهة، والسياسات الوطنية الراديكالية من جهةٍ أُخرى. وهذا إلى طلب تدخل المؤسسات الدينية بقدرٍ أكبر وأسرع في إعادة توجيه الإسلام بما يتوافق مع سياسات وأيديولوجيات التحرر المعلنة. ولأنّ الاستجابات ما كانت سريعةً أو كافية فقد جرى إضعاف المؤسسات الدينية وتجاوزها إلى حدود الإلغاء في مثل ليبيا والجزائر وسوريا والعراق والسودان. أما في دولةٍ مثل تونس، ما كان الحكم فيها عسكريًّا حتى أواخر الثمانينيات، وكانت فيها مؤسسة دينية إصلاحية عريقة هي جامع وجامعة الزيتونة؛ فقد جرى فصلٌ حادٌّ بين المؤسسة الدينية والدولة فيها، وترتّب عليه إضعافُ جامع الزيتونة وجامعته، والتطويع لصالح تفسيرٍ حداثي للإسلام؛ بما في ذلك المجال التربوي والتعليمي.

أما الصيغةُ الثالثةُ للتعامُل وهي صيغةُ الحياد الإيجابي أو السلبي في مثل موريتانيا ولبنان والأردن؛ فإنّ المؤسسات الدينية ظلّت عاملةً من دون تدخلاتٍ كثيرةٍ من جانب إدارات الدولة، وظلّت علاقاتها مع الجمهور مقبولة أو جيدة رغم ضعف الإمكانيات والقدرات.

لقد كان همُّ الدول، وبخاصةٍ ذات المنحى التقدمي، السيطرة باتجاه التحديث، والتفسير الآخر وغير التقليدي للإسلام. وما تنبهت إدارات الدول (حتى في مصر) إلى الخطر المتصاعد للإحيائيات والأصوليات والإسلام الصحوي والسياسي إلا متأخرة. وهي اتجاهات عملت جميعًا ضد المؤسسات الدينية التقليدية وضد الدول الوطنية. وقد ظهر هذا الاتجاه المتسرع جليًّا في دعم دولٍ عربيةٍ وإسلامية للجهاديين الذين ذهبوا إلى أفغانستان لمواجهة الغزو السوفييتي بدفعٍ من الولايات المتحدة. وقد قامت الثورة الإيرانية الشعبوية عام 1979م، واحتلّ السلفيون المتشددون بقيادة جهيمان العتيبي الحرم المكي في العام نفسه، وقتل الجهاديون الرئيس السادات عام 1981م. وبسبب التنبه إلى هذا الخطر أو الأخطار أخيرًا اتجهت إدارات الدول بالتدريج إلى تغيير سياساتها تجاه مؤسساتها الدينية لكن ببطءٍ وتردد.

وفي النهاية، وعندما بدأ الموقف يتفجر منذ مطالع التسعينيات من القرن الماضي، بدأت ثمار سياسات الدول تجاه المؤسسات الدينية عبر أربعة عقودٍ تظهر على نحوٍ واضح. ففي دول التهميش والإضعاف للمؤسسات، بدت الأصوليات عنيفةً وكذلك توجهات الإسلام السياسي. وفي دول الاستيعاب والتلاؤم بدت الأصوليات والصحويات أضعف وأقلّ عنفًا. في حين ما استطاعت الأصوليات العنيفة خاصة تحقيق اختراقاتٍ كبيرةٍ في دول الحياد؛ لأنّ المؤسسات الدينية على ضعفها، كانت لا تزال عاملةً وفاعلةً وتحاول مواجهة التطرف. ومع ذلك كله وبشكلٍ عامٍ ظلّت الإدارات الدينية ترى الأولوية في المواجهة ضد الحداثيات والعولميات والعلمانيات الطاغية من وجهة نظرها في
المجتمعات والدول.

المؤسسات الدينية وجهات المجتمع المدني

المثقفون والمفكرون: منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين، بدأ بعض  المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين بالقيام بحملاتٍ شعواء على الموروث الديني. وحجتهم في ذلك أنّ هذا الموروث المتّسم بالتخلف عن ثقافة العصر، والفوات في إدراك فروقات الأزمنة يحولُ دون دخول العرب والمسلمين في عالم العصر وعصر العالم. وبدا ذلك بوضوح في ندوة الكويت عام 1974م التي كان موضوعها: أزمة النهوض العربي. فقد ذهب جميع المشاركين في الندوة تقريبًا إلى أنّ الأزمة حادثةٌ بسبب سيطرة المواريث الدينية والثقافية. وفي السبعينيات والثمانينيات صارت هناك منظومات كاملة لمواجهة الموروث وآثاره وبحركةٍ مزدوجة: العمل من جهةٍ على حركةٍ تنويريةٍ لتحرير العقول من سيطرة الموروث والتقليدي لدى العامة وطلاب الجامعات، ومن جهةٍ أُخرى دفْع إدارات الدول واستحثاثها لإحلال علمانية صارمة بين الدولة والدين أو إداراته.

وعلى مدى أكثر من عقدين تصاعدت جفوةٌ بين المؤسسات الدينية، وكبار المثقفين والمفكرين العرب. ولأنّ الإدارات الدينية ما كانت في حالة نهوض، فقد كانت ردود أفعالها انتقائيةً ومترددة. فمرةً يقوم عالمٌ أو مثقفٌ متدين بالكتابة في تلاؤم الإسلام مع العصر. ومرةً تستعين الإدارة الدينية بمناداة الدولة لمنع كتابٍ أو معاقبة كاتب مقالة. ومرةً ثالثةً تصر هذه الإدارة أو تلك على إدانة الاتجاهات العلمانية المعادية للدين، وتقترح مشروعاتٍ لتقنين الشريعة باتجاه تطبيقها!

وقد هدأت الأجواء بين الطرفين مدة على إثر اندلاع الحركات المدنية عام 2011م، لأنّ الأزهر قام بمبادرات. ثم تلبدت الأجواء من جديد عندما بدأ التفكير في مستقبل الدول والمجتمعات. وقد كان همُّ المثقفين ألا تشارك الإدارات الدينية في رسم معالم المستقبل بعد أن ثبت فشلُها، وانعدامُ تأثيرها في الأوساط الجهادية المتفجرة!

جهات الإعلام ووسائل الاتصال: منذ القديم، ما كانت وسائل الإعلام على علاقة طيبة بالمؤسسة الدينية. فعندما تصدى الأزهر عام 1925م لمنع كتابَي علي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم، وطه حسين: في الشعر الجاهلي، وقفت الصحف السيارة آنذاك ضدّ تدخل المؤسسة الدينية في الحياة الثقافية. وعبر عدة عقود ظلّت هناك صدامات، ونقاشات صحافية بشأن حق الأزهر في منع كتابٍ أو مقال أو نشاط ثقافي أو فكري. وكانت وجهة نظر الكُتّاب والصحافيين أنّ الحكومات مخطئة في تمكين الأزهر من ذلك. وهذه الظاهرة تكررت في بلدانٍ عربية وإسلامية عدة. لكنْ بعد الستينيات من القرن العشرين صار هناك صحافيون محترفون، وظهرت التلفزيونات. وأخيرًا الفضائيات ووسائل الاتصال. وبينما ظلت المؤسسات الدينية مصرّة على حقها في إنفاذ مقولة الماوردي «صون الدين على أعرافه المستقرة» بالتعاون مع الدولة، رأت وسائل الإعلام أنّ من حقها في ظل إدارات الدولة الحديثة ممارسة حرية التعبير، وممارسة التأثير في الرأي العام حتى في الشأن الديني، بما هو شأنٌ عام. وعندما انفجرت الأصوليات، انصبّ نقد أجهزة الإعلام على تقصير المؤسسات الدينية في مكافحة الظاهرة. فما كان هناك خلافٌ على ضرورة مكافحة التطرف العنيف. إنما ظهر الخلاف في الوسائل والأدوات والأساليب. وبشكلٍ عامٍ، وليس في مصر فقط، شاع التذمر من عجز المؤسسات الدينية، ودعوة الدول لتغيير سياساتها في عدِّ المؤسسات الدينية هي وحدها صاحبة السلطة في تحديد ما هو الدين الصحيح. وكانت وسائل الإعلام سبّاقةً في هذا المجال، بتشجيع من الإدارات السياسية، ومن دون تشجيع. وفي التسعينيات جرت حوادث ووقائع عدة من هذا القبيل في المغرب والجزائر ومصر وتونس. وذلك من مثل مقتل فرج فودة على يد أحد المتطرفين، واستحسان أحد علماء الأزهر ( الشيخ محمد الغزالي) لذلك. وقيام أحد علماء الأزهر بتكفير المفكر نصر حامد أبو زيد، وحكم أحد القضاة بتطليق زوجته منه… إلخ.

حتى مطلع القرن الحادي والعشرين كانت هناك أربع مسائل إذن تختلف فيها وجهات النظر بين المؤسسات ووسائل الإعلام: التوجهات المحافظة للمؤسسات الدينية وضغوطها على الحريات الدينية والاجتماعية من خلال الفتاوى والبيانات وخُطب الجمعة والمنابر وأحاديث الإرشاد العام. والمسألة الثانية: «تحالف» السلطات مع المؤسسات الدينية، وتبادُل المصالح بينهما، بدلًا من أن تحمي السلطات حريات الناس وحُرُماتهم من التشكيك من جانب الجهات الدينية. والمسألة الثالثة: تقصير المؤسسات الدينية في تجديد الخطاب الديني وتطويره، وتقصيرها في مجال تطوير برامج التعليم الديني في المدارس والجامعات، بما يؤثر في بناء عقلية حرة لدى الصغار والفتيان، وبما يشجّع الاتجاهات الرجعية والمتطرفة. والمسألة الرابعة: وهي أكثر عمقًا وامتدادًا وتتعلق بالدين ذاته، والمؤسسة الدينية وشرعية وجودها. وقد ظهرت بسبب عواصف الحداثة من جهة، وصدًى شعبوي بعض الشيء لأطروحات المفكرين والمثقفين العرب بشأن الدين ووظائفه، وبشأن التقليد، وبشأن حدود وشرعية المؤسسة الدينية. لقد كتب كثيرون في الصحف والمجلات، وظهروا أحيانًا في التليفزيونات، أو نشروا لمثقفين ومفكرين، قراءات نقدية للسلطة الدينية التي ما عاد لها داعٍ، ولسلطة المؤسسة رغم أنّ الإسلام -بحسب الإصلاحية الإسلامية- ليس عنده أو فيه كهنوت أو رجال دين!

لقد ظلّت قليلةً جدًّا كتاباتُ الثورة على الدين. كما أنّه ليست هناك حكومة عربية أشهرت إنكارها للدين. إنما من جهةٍ أُخرى ما أمكن للمؤسسات الدينية أن تُجيب على تحديات الحداثة الفكرية والإعلامية. وازداد الموقف سوءًا عندما ظهر واعظو ومُفتو الفضائيات، ومعظمهم من خارج المؤسسة الدينية الرسمية. وبعض هؤلاء ليسوا ذوي ثقافة إسلامية عميقة، وبعضهم الآخر حزبيون ضد المؤسسة، وبعضٌ ثالث يتضمن خطابه دعوةً ودعايةً للدولة. وإنما كان المشترك بينهم تقصُّد الإثارة، وإظهار المخالفة للمؤسسة الدينية وآرائها وتوجهاتها، والميل الواضح لتسهيل أمور الدين على الناس، بدلًا من تجهُّم رجالات المؤسسة وجمودهم! وعلى طريقة الـ Tele-evangelists حظي بعض شيوخ الفضائيات ودُعاتها بشعبيةٍ هائلةٍ بين شبان وشابات الطبقة الوسطى. إذ يكون علينا ألّا ننسى أنه في زمن العولمة فإنّ الانجذابات الدينية ليست قاصرةً على المتطرفين؛ بل إنّ أبناء وبنات الطبقات الوسطى المتعلمة أظهروا إقبالًا شديدًا على التدين، بحيث بدا أن الهُوامات الدينية تكتسح أوساطهم. وفي مقابل اللباس والهيئة وأداء العبادات، يريدون تسهيلاتٍ في الحياتين الخاصة والعامة، لا تتولى المشروعية فيها المؤسسات الدينية؛ بل الشخصيات الكارزماتية في الدروس الخاصة، والتجمعات الحميمة، وفي الفضائيات. وكانت المؤسسات الدينية تتدخل من خلال رجالاتها للردّ عليهم والتشهير بهم. وهذا في الدول التي أجازت ذلك، بينما في السعودية والمغرب لا يظهر للإفتاء في وسائل الإعلام غير علماء المؤسسة. لكنْ في وسائل الاتصال في البلدين، بل سائر البلدان العربية والإسلامية، هناك مئات من التعليقات يوميًّا التي لها علاقة بالشأن الديني. ثم إنّ الدول أعطت رجالات المؤسسات أوقاتًا على قنواتها للفتوى، بعد أن كانت فتاوى المؤسسة قاصرةً على الإذاعات. بيد أنّ ذلك لم يحلّ الإشكال، وصار ضروريًّا للمؤسسة الدخول في الحلبة بالشروط المتعارَف عليها للمنافسة؛ إذ لم يعُدِ الحقل الديني مِلكًا لها، كما أنّ الدولة ما عادت هي الشريك الوحيد. فقد صار القطاع الإعلامي والاتصالي كبير التأثير في الرأي العام حتى في الشؤون الدينية. ويرى كثير من المؤسسات الدينية اليوم ضرورة امتلاك ذراع إعلامي أو مواقع للدعوة والإرشاد.

الجهات المنافسة لمرجعية المؤسسات الدينية: لقد عددتُ -من دون تدقيقٍ كثير- بقيةَ الجهات المنافسة للمؤسسات الدينية على المرجعية جهاتٍ مدنيةً أو شبه مدنية؛ لأنها لا تنتمي إلى السلطات الرسمية، ولا إلى المؤسسات الدينية. والواقع أنّ هذه الجهات لعبتْ ولا تزال الدور الأكبر والأخطر في تحديد مصير الإسلام خلال العقود الأربعة الأخيرة. ويمكن تحديدها بشكلٍ غير دقيقٍ أيضًا بأربع اتجاهات أو تيارات، وهي: الجماعة الإسلامية (الهند وباكستان) والإخوان المسلمون (مصر والبلاد العربية الأُخرى)، والسلفيون الجُدد (الذين اخترقوا الإسلام العربي والآسيوي، وبعض مسلمي المهاجر)، والجهاديون (الذين انبثقوا أيضًا مثل الصحويين من التلاقي في السبعينيات والثمانينيات بين الإخوان والسلفيين الجُدد)، وحركات الإحياء الصوفيّ.

الإخوان المسلمون: جماعة الإخوان المسلمين هي حركةٌ إحيائيةٌ ظهرت في مصر في أواخر العشرينيات (1928م) شكّلها حسن البنّا. وبحسب بياناتها ورسائل مرشدها في الثلاثينيات والأربعينيات فهي تريد إحياء الحياة الإسلامية الأصيلة أو استعادتها من جهة، وتجديدها من جهةٍ أُخرى. وسُرعان ما ظهرت لها فروعٌ في البلدان العربية الأُخرى، ولقيت نجاحاتٍ بارزة في الانتشار شأن حركات الإحياء البروتستانتية (Revivalist Movements). لكنّ تسيُّسها كان أسرع؛ بسبب الظروف الخاصة للبلدان العربية والإسلامية في ظلّ الاستعمار، ثم ظروف الحرب الباردة. ولأنها أعلنت منذ الأربعينيات عن فهمها الخاصّ للإسلام بوصفه دينًا ودولة، فصار مفهومًا أنّ مشروعها لاستعادة الحياة الإسلامية الأصيلة يستلزم إقامة الدولة الإسلامية من جديد. كان البنّا معجبًا بتجربة الملك عبدالعزيز آل سعود، لكنه سرعان ما تجاوزَها دونما تحديدٍ لصيغةٍ معينة (تحدث أحيانًا عن الخلافة، وأحيانًا عن الدولة الدستورية، وأحيانًا عن «دولة» المصحف والسيف!).

لقد خرج الإخوان منذ البداية على مرجعية المؤسسة الدينية الرسمية؛ إذ صار لهم مفكروهم وفقهاؤهم ومفتوهم من خارج المؤسسة إلّا قليلًا. وصادموا الدولة الوطنية، وسعوا لإقامة دولة الإسلام بزعمهم. ولذلك فقد بدأ الصدام مع السلطات السياسية مبكرًا؛ من أيام المَلِك، وفي عهد جمال عبدالناصر، إلى أواخر عهد مبارك. وكانوا هم مقبلين ومن خلال أدبياتٍ كثيرةٍ على إبراز رؤية الحاكمية الإلهية، وإيضاح معالم النظام الإسلامي الكامل والاستعدادات لتطبيق الشريعة. وبدت براعتهم في عدِّ أنفسهم حداثيين وإصلاحيين وغير صداميين. ومع الترديات التي وقعت فيها سلطات الدول الوطنية، فقد اتسع انتشارهم في الطبقات الوسطى والفقيرة، بحيث ظهروا بعد الحراكات المدنية عام 2011م بصفهم التيار الأكثر تنظيمًا، والأعرف بما يريد. وعندما اكتسحوا البرلمان ورئاسة الجمهورية عام 2012- 2013م ظهر عداؤهم للأزهر لتحالفه مع النظام القديم، كما أنّ الأزهر مضى في مواجهتهم عندما انضمّ إلى حراك الجيش والجمهور لإسقاط حكمهم عام 2013- 2014م. وما حصل في مصر حصل مثله في تونس والمغرب وليبيا وبعض مراحل الثورة السورية؛ وإنْ بأشكالٍ مختلفة تبعًا للظروف المحلية لكل بلد.

السلفيون الجدد: يُعَدُّ السلفيون الجدد أوسع حركات «عودة الدين» في البلدان العربية والإسلامية. ومع أنهم استلهموا في البداية حركة الإصـلاح الوهابـي؛ فإنهـم سُـرعان ما تجـاوزوها بأحـد اتجاهين: اتجـاه التسيُّس والتقـارب مـع الإخـوان (الصحويين والسروريين)، واتجاه التشدد الأكبر والمضي إلى أطروحة الفسطاطين والجهاد العالمي فإلى ظهور القاعدة وداعش. وفي الحاليْنِ فإنّ السلفيين الجدد هؤلاء يتميزون من الإخوان بأنهم لا يمتلكون تنظيمًا مركزيًّا، وتختلف اجتهاداتهم في المواجهة مع السلطات ومع النظام العالمي. لكنّ أطروحتهم الأساسية إخوانية، أي أنّ الإسلامَ دينٌ ودولة. إنما هل تتحقق الدولة الجديدة بالتسرب كما في حالة الإخوان، أم تتحقق بالجهاد لكسْر الدولة الوطنية وكسْر النظام العالمي؟ وهذا هو شأن الجهاديين المتشددين.

لكنْ في الحاليْنِ فإنّ مواقف هؤلاء من المرجعيات الدينية التقليدية سلبي؛ لأنّ عندهم فقهاءهم ومدارسهم وجهات الفتوى الخاصة. وهم لا يأخذون على المرجعيات الدينية الرسمية تبعيتها للأنظمة فقط. بل هم يؤسسون معارضتهم للمؤسسات على أنّ رؤيتها الدينية مخطئةٌ تمامًا ولا تتأسس على الكتاب والسنة. ولذلك فإنه في الوقت الذي يتّسم فيه موقف الإخوان والصحويين الآخرين بشيءٍ من الغموض والتلاعب تجاه المرجعيات؛ فإنّ الجهاديين تتوافر فيهم معالمُ الانشقاق الديني، وهو ما دفع بعض العلماء لتسميتهم بخوارج العصر، في حين ذهب علماء آخرون إلى أنهم هم المفسدون في الأرض. وعلى أي حال؛ وسواء أكان هؤلاء من القائلين بالعنف في «العمل الإسلامي» أم لا، فإنهم ومنذ زمنٍ مبكرٍ نسبيًّا تبادلوا الاتهامات مع المؤسسة الدينية في المملكة وفي مصر والمغرب.

الإحياء الصوفي. منذ مطلع القرن العشرين فإنّ الحركات الصوفية تمتعت بإحياء قوي. فظهرت طرق صوفية جديدة، كما ظهرت فروعٌ على الطرق القائمة. وبينما تغلَّب لدى الصحويين الحزبيين وغير الحزبيين الأطروحات الموضوعية والتنظيمية التي تتمحور حول الشريعة، وأذرُعها الاقتصادية والسياسية؛ فإنّ الصوفية تميزوا باستمرار ظهور الشخصيات الكارزماتية في أوساطهم، الذين يعتمدون مقاربات سحرية في رؤية العالم، وفي الحلول للمشكلات. ثم إنهم فضلًا عن عدم تسيُّسهم، وهو ما يجعلهم أقرب للسلطات؛ فإنهم لا يميلون للصدام مع المؤسسات الدينية، رغم أنه لا يمكن عدّهم تابعين لها.

خاتمة واستنتاجات: من بين سائر الديانات الكبرى؛ فإنّ المؤسسات الدينية السُّنية هي التي واجهت وتُواجه التحديات الأكبر لمرجعيتها ومن ناحيتين: ناحية فئات وأصناف المجتمعات المدنية التي أنتجتها ظروف الحداثة والعولمة- ونوابت «عودة الدين» الماضية نحو التشدد وإستراتيجيات الأسلمة العنيفة في مواجهة المسلمين الآخرين، وكل العالم. وبينما لا تزال سلطات الدول الوطنية تميل للإبقاء على المؤسسات الدينية وتنشيطها مع استبقاء السيطرة عليها؛ فإنّ الجهات الحديثة في المجتمعات تميل لتجاوُزها وعزلها؛ في حين تريد تيارات الأسلمة وعودة الدين إلغاءها والحلول محلَّها بوصفها هي الأكفأ والأكثر أمانةً للدين.

لكنّ الواقع أنّ المؤسسات الدينية لا تزال ضرورية؛ لأنه لا أحد غيرها يمكنه القيام بالمهام الأربع التي تقوم بها، وهي: الإشراف على وحدة العبادات، والوحدة الدينية العامة، والتعليم الديني والفتوى والإرشاد العام. لكنها في هذه المهامّ جميعًا، ومهمة مكافحة التطرف المستجدة (ربما من ضمن وظائف مجال الإرشاد العام) محتاجة لتجديد جذري في الخطاب والممارسة. وقد جمعتُ ما تحتاج إليه المؤسسات الدينية في الزمن الجديد في مصطلحين أو مهمتين: التأهُّل والتأهيل. ويشمل التأهل: المعرفة الكبرى بمتغيرات الأزمنة وبالعالم وبتجارب الأديان الأخرى، وبالاحتياجات الجديدة للمجتمعات والدول. ويستلزم ذلك تغييرات في البنى من أجل الاستقبال والاستيعاب، ومن أجل مراجعة متغيرات المفاهيم والوظائف الدينية. أما التأهيل فيعني الاتجاه لتغيير الخطاب، والاستعداد للاعتراف بالشراكات الجديدة مع الجهات الحديثة، والاستعداد للانطلاق إلى آفاقٍ أوسع في التوجه إلى المجتمعات بعامة، وإلى الفئات الشابة في المجتمعات بخاصة. وهي عندما تقوم بذلك كلّه لا بد أن تُراجع علائقها بالإدارات السياسية من ضمن فهمٍ جديدٍ ومحدد للدين ووظائفه وعلاقاته بالدولة والمجال العام في عالم العصر وعصر العالم.

المؤسسات الدينية لا تزال ضرورية للدين وللمجتمعات وللدول. بيد أنّ هذا الحق والواجب في الاستمرار، يقتضي القيام بإجراءات التأهل والاستحقاق، أو يستمر الضياع، وتتفاقم الانشقاقات، وتزداد الجناية على الدين وعلى الدولة. لا تقع المسؤوليات عن تردي الأوضاع على عاتق المؤسسات الدينية لا بالدرجة الأولى ولا بالدرجة الثانية. لكنّ عدم نهوضها رساليًّا واحتسابيًّا ومعرفيًّا وإدرايًّا يسهم في تفاقم التأزم، وبقاء ديننا وطرائق فهمه وممارسته مشكلةً بالداخل، وأزمةً على مستوى العالم.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *