كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
نكسة الإلحاد الجديد
مع مطلع القرن الحادي والعشرين عادت ظاهرة الإلحاد إلى واجهة المشهد العالمي مرة أخرى، معلنةً عن موجة جديدة لعلها الأقوى أو الأنشط في تاريخها الحديث، متغايرة بعض الشيء شكلًا ومضمونًا عن الموجات السابقة، متحفزة بطريقة كما لو أنها تريد اقتناص هذه الفرصة التي رأت فيها أنها من أفضل الفرص التاريخية المتاحة لها أو التي مرت عليها في تاريخ صراعها الوجودي مع الدين.
تحفزت هذه الموجة مستفيدة من الحروب المشتعلة، ومن النزاعات المتفاقمة، ومن اشتداد نزعات التطرف والتعصب وتصاعد الإرهاب المعولم والعابر بين القارات، وذلك بالنظر لما تتركه هذه الوضعيات من تأثيرات نفسية واجتماعية واقتصادية ضاغطة تتهيأ معها إمكانية إثارة الشكوك تجاه المعتقدات الدينية، وقلب صورة الإيمان الديني في أذهان الناس، وتحميل الدين مسؤولية ما يحدث.
وتأكيدًا لهذا الرأي يرى المؤرخون المعاصرون إمكانية انبثاق ظاهرة الإلحاد واشتدادها في المجتمعات التي مرت بحروب قاسية أو عاصرت أحداثًا مؤلمة خلَّفت معها كوارث ونكبات، على شاكلة ما جرى في المجتمعات الأوربية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد ظهرت موجة من الإلحاد لاحظها المؤرخون هناك وتنبهوا لها، رابطين العلاقة بينها وما حل بأوربا من حربين مدمرتين، متوثقين من هذه العلاقة التي تربط بين الحروب المدمرة وظاهرة الإلحاد من جهة القابلية والاستعداد.
واتصالًا بهذا السياق جاءت هذه الموجة الجديدة من الإلحاد حيث اتخذت من حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لحظة تاريخية، بوصفه حدثًا خلق كارثة مرعبة، وأثار قلق العالم، وفجر حروبًا كالتي حدثت في العراق وأفغانستان، فقد وجد أصحاب هذه الموجة أنهم أمام لحظة تاريخية لا تفوت لتوجيه السهام إلى الدين، ووضعه مرة أخرى في قفص الاتهام، وإثارة الشكوك حوله.
تسمية مفارقة
واللافت في هذه الموجة أنها تقصَّدَت تغيير صورتها، كأنها أرادت مع القرن الجديد أن تؤرخ لنفسها بتسمية مفارقة مطلقة تسمية الإلحاد الجديد، متحزبة بهذه التسمية ومستبشرة، متأملة منها ومتوثبة في أن تحقق تقدمًا، أو تحرز اختراقًا، أو تكسب جولة في مواجهة الدين والإيمان الديني، محملة الدين وزر ما حدث في العالم من نكسات ونكبات وكوارث على الأصعدة كافة، مستعيدة خطابها القديم في اعتبار أن الدين يقف عقبة صلبة في طريق تقدم البشرية وازدهار المدنية وارتقاء الحضارة.
ارتبط ما عرف بالإلحاد الجديد بفضاء الثقافة الأنغلوسكسونية، متخذًا من الولايات المتحدة الأميركية مركزًا له متصلًا ببريطانيا، مشتهرًا بأربعة أشخاص عرفوا بالفرسان الأربعة هم: عالم الأعصاب الأميركي سام هاريس صاحب كتاب «نهاية الإيمان.. الدين والإرهاب ومستقبل المنطق» الصادر سنة 2004م، وعالم الأحياء البريطاني ريتشارد دوكنز صاحب كتاب «وهم الإله» الصادر سنة 2006م، والناقد البريطاني الأميركي كريستوفر هيتشنز (1949- 2011م) صاحب كتاب «الإله ليس عظيمًا.. الدعوى ضد الدين» الصادر في بريطانيا سنة 2007م، وفي طبعته الأميركية تغيَّرَ العنوان الفرعي وصدر بعنوان: «الإله ليس عظيمًا.. لماذا يسمِّم الدين كل شيء؟»، ونشر في طبعة لاحقة في بريطانيا من دون عنوان فرعي، رابعًا العالم الأميركي دانيال دينيت صاحب كتاب: «فكرة داروين الخطيرة.. التطور ومعاني الحياة» الصادر سنة 1995م.
على مستوى الخطاب حدثت تحولات في بنية الإلحاد الجديد؛ منها التصويب على الإسلام في معترك المواجهة الوجودية، فبعد أن كان الإلحاد في الغرب ولزمن طويل يصوب معركته الفكرية النقدية على الأديان الإبراهيمية بصورة عامة، وعلى الديانة المسيحية بصورة خاصة، اتجه هذه المرة نحو الإسلام مصوبًا عليه سهام المجابهة.
هذا التحول حدث نتيجة واقعة الحادي عشر من سبتمبر التي هزت العالم، وتبنتها جماعة حسبت نفسها على الإسلام، واستغلالًا لهذه الفرصة جاء كتاب سام هاريس «نهاية الإيمان.. الدين والإرهاب ومستقبل المنطق»، محملًا الإسلام مسؤولية ما حدث، فاتحًا عليه المعركة، رابطًا بين الدين والإرهاب، مفتعلًا التناقض بين الإيمان والمنطق.
ومن التحولات الأخرى التي حدثت في بنية خطاب الإلحاد الجديد تغير نظرته إلى العلم، فقد أظهر أصحاب هذا الاتجاه اعتقادًا بالعلم هو أشبه بالاعتقاد الديني وأقرب إلى الأيديولوجيا والالتزام الأيديولوجي موصوفًا عند النقاد بالتعصب العلموي، معتبرين أن العلم بات يتقدم بطريقة متفوقة تفارق جميع المراحل والأزمنة السابقة، وسيعلن فوزه الحتمي على الإيمان، ودفع الدين نحو التراجع والتقهقر.
يضاف إلى هذه التحولات ما أظهره الإلحاد الجديد من حماسة واندفاع، مستعيدًا حيويته، ومستجمعًا قواه، مبرزًا نشاطًا مكثفًا على أكثر من صعيد؛ منها: الكتابة والنشر، الندوات والمحاضرات، الحوارات والمناظرات، وهكذا على صعيد الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي، اعتقادًا من أصحابه أنهم أمام لحظة سانحة تتيح لهم إمكانية تحويل الإلحاد إلى هوية نشطة يمكن التبشير بها وتوسعة رقعتها وتعزيز مكانتها في العالم، انطلاقًا من حس الهوية من جهة، ومن حس التبشير من جهة أخرى.
لكن المفارقة وخلافًا لتلك التوقعات، فقد تعرض الإلحاد الجديد لنكسة قوية في بيئته ومحيطه بعد الإعلان عن هويته وإطلاق حركته، مجابهًا بنقد شديد، وتشكيك صارخ، إلى جانب الإنقلاب عليه من أشخاص كانوا قد اقتربوا منه وانخرطوا فيه، ثم انشقوا عنه، وكانوا مندفعين في نقده جذريًّا.
الإلحاد بصفته نمطًا أصوليًّا
من صور هذا النقد وتمثلاته، ما طرحه الكاتب الأميركي كريس هيدجز في كتابه المتجلي بعنوانه: «أنا لا أومن بالإلحاد.. الصعود الخطر للأصولية العلمانية» الصادر سنة 2008م، وتغير العنوان في طبعته سنة 2009م واشتهر بعنوان: «عندما يصبح الإلحاد دينًا.. الأصوليون الجدد لأميركا»، متضمنًا نقدًا شديدًا، وتحذيرًا قويًّا تجاه ظاهرة الإلحاد لكونها تمثل في نظر الكاتب نمطًا خطيرًا من أنماط الأصوليات.
ومن صور هذا النقد وتمثلاته، ما أشارت إليه الكاتبة الأميركية سيكيفو هتشينسون في كتابها: «الشيء الأبيض.. الإلحاد الجديد ومضايقاته» الصادر سنة 2011م، متخذةً من المنظور العرقي مدخلًا لتوجيه النقد لظاهرة الإلحاد الجديد، قاصدة لفت الانتباه إلى هذا الجانب غير المرئي عند الكثيرين، مسلطة الضوء عليه، واصمة هذه الظاهرة بالعنصرية لتحيزها إلى العرق الأبيض.
ومن صور هذا النقد وتمثلاته أيضًا، ما قدمه عالم الاجتماع الكندي ستيفن ليدرو في كتابه: «تطور الإلحاد.. السياسة في الحركات الحديثة» الصادر عن جامعة أُكسفورد سنة 2019م، متخذًا من السياسة والمنظور السياسي مدخلًا لتكوين الفهم حول الإلحاد الجديد، معتبرًا أنه في حقيقته يمثل حالة سياسية ترتكز على نقد جذري للدِّين ومواجهته بصورة قاسية في العلن.
ومن صور هذا النقد وتمثلاته كذلك، ما عرضه الكاتب الأسترالي سي جي ويرلمان في كتابه: «تهديد الإلحاد الجديد.. الصعود الخطر للعلمانيين المتشددين» الصادر سنة 2019م، تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه جاء من شخص كان منتسبًا لهذه الظاهرة متحمسًا لها ومنخرطًا بفاعلية في أنشطتها، لكنه أدرك بعد الاقتراب منها أنها تحوَّلت بسبب تشددها إلى أصولية خطرة، مظهرًا الخوف منها، فقرَّر الابتعاد منها، والانقلاب عليها، متجهًا لنقدها من الداخل.
هذه عينة من صور النقد الغربي وتمثلاته على مستوى التأليفات المتتابعة، وهناك الكثير من المقالات التي يصعب حصرها، وليس بعيدًا أن نسمع قريبًا عن كتابات تعلن نهاية ظاهرة الإلحاد الجديد أو تتحدث عما بعد الإلحاد الجديد، مؤكدةً نكسة الإلحاد الجديد!
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق