كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
البحث عن الحب عبر الخرافة «معجزة عادية» للروسي يفغيني شفارتس
يجمع الروسيّ يفغيني شفارتس بين النقائض في عنوان مسرحيته «معجزة عادية»؛ فالمعجزة تحتاج إلى أن تكون خارقة لتوصف بما توصف به، على حين أن وصفها بالعادية ينزع منها جانب الإعجاز، ويصيرها أمرًا عاديًّا، يمكن تكراره، أو يمكن لأيّ أحد القيام به أو إنجازه. يضخُّ شفارتس في مسرحيته (منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ترجمة آنا عكّاش) جذوة الصراع بين الإنجاز والإعجاز في عمله، ويثير كثيرًا من الأسئلة المتعلقة بالعلاقات السائدة بين البشر؛ من حيث الحب والكره، والحقد والحسد، والعداء والتناحر، من خلال الانطلاق من دائرة الحب، واتخاذها بؤرة الحكاية، ومبتدأ ومختتمًا في الوقت نفسه.
يسوِّغ الكاتب في أثناء استهلال (الحكواتي) الذي يُظهِره على المسرح، أسبابَ اختياره عنوان مسرحيته الإشكاليّ، المثير للجدل من حيث الجمع بين نقيضين؛ إذ إنه يصف ظهور شخص أمام الستارة وهو يخاطب المتفرجين بتفّكر وصوت خفيض، فيقول: «يا له من عنوان غريب؛ معجزة عادية، إن كانت معجزة، فمعنى ذلك أنها ليست عادية! وإن كانت عادية، فهي بالتالي ليست معجزة».
يشير (الحكواتي) في أثناء استهلاله إلى أن حلَّ ما يصفه باللغز يكمن في أنّ القصة تدور حول الحب؛ يذكر أن هناك شابًّا وفتاة جمعهما الحب، ويصف ذلك بأنّه أمر عاديّ. يتخاصمان، وهذا ليس نادرًا أيضًا. يكادان يموتان بسبب الحبّ. وأخيرًا تسمو قوة مشاعرهما إلى مستوى عالٍ؛ لتبدأ في صنع معجزات حقيقية، وهذا أمر غريب وعاديّ في الوقت نفسه. يلفت الكاتب إلى أنّه يمكن التحدُّث عن الحبّ وغناء الأغاني فيه، أما هو في حكايته فيروي عنه حكاية خرافية، ويذكر أنه في الحكاية الخرافية، يصطف العادي والعجيب معًا بطريقة مريحة، ويفهمان بسهولة. لو نظرنا إلى الحكاية الخرافية على أنّها حكاية خرافية، كما في الطفولة، ألا نبحث فيها عن معنى خفيّ؟ فالحكاية الخرافية لا تروى لِنكتُم، بل لِنبوح، أن نقول بكامل قوتنا وبملء صوتنا ما نفكِّر فيه.
يحدّث (الحكواتي) القُراء والمشاهدين الافتراضيين بأنه من بين شخصيات الحكاية الخرافية، الأكثر قربًا، من سيتعرفون إلى أشخاص يضطرون -في الأغلب- إلى مصادفتهم. من شخصيات المسرحية هناك الوزير الإداريّ، وصاحب الحانة، والساحر، وسيدة البيت، وسيدة البلاط، والأميرة، والدب، وغيرهم من أبطال الحكاية الخرافية الأكثر شبهًا بالمعجزة، يقول: إن أولئك محرومون من الملامح الحياتية التي تميز الزمن الحالي.
يتساءل شفارتس على لسان راويه العليم: كيف يستطيع أشخاص مختلفون مثل هؤلاء أن يتعايشوا في الحكاية نفسها؟ يجيب: إنه ببساطة شديدة، كما في الحياة، ويسترسل (الحكواتي) بقوله: إن الحكاية تبدأ من نقطة بعيدة، أحد السحرة يتزوَّج، ويستقرّ، ويقرّر الانصراف إلى الاهتمام بالأشغال المنزلية، لكن مهما أطعمت الساحر يظل منجذبًا دائمًا إلى المعجزات، والتحولات والمغامرات العجيبة. وها هو قد تورَّط في قصة حب الشابين اللذين يتحدث عنهما، وتداخل كل شيء، وأخيرًا انحلَّ بطريقة مفاجئة لدرجة أنّ الساحر نفسه، المعتاد على المعجزات، وقف معقود اليدين من شدّة التعجب.
يستغرق الساحر في قوله: «إنه ربما لعدة ثوانٍ، ويمكن أن يحدث ذلك لأيّ أحد في ظروف مماثلة. وبعدها ماذا؟ انظر: هذا إنسان، إنسان يسير في الطريق مع عروسه، ويتكلم معها في هدوء». لقد أعاد الحب صهره لدرجة أنه لن يعود دبًّا أبدًا. يا لها من روعة! يجد في نفسه قوة كبرى، يقول لزوجته: اسمحي لي، سأبدأ بخلق المعجزات في الحال؛ كي لا أنفجر من شدة القوة».في الفصل الأول، يصمّم الكاتب هندسة داخلية لافتة؛ غرفة كبيرة، تلمع نظافةً. على الموقد إبريق قهوة معدنيّ يلمع لدرجة تغشي الأبصار. شخص ملتحٍ، فارع الطول، عريض الكتفين، يكنس الغرفة، ويكلم نفسه بصوت عالٍ جدًّا، إنه سيد البيت الذي يدور نقاش عن الحبّ بينه وبين زوجته التي تخبره أنه حين يتحدث عن الحب أو يباشر توصيفه وتعريفه، فإنه كمَنْ يدقّ المسامير بالصواعق. وأن العاصفة، والزلزال والصواعق كلها أمور بسيطة، أمام الاضطرار إلى التعامل مع بشر متوحشين.
تذكر سيدة البلاط بنوع من المناجاة أن الحيوان لا يريد أن يفهم أن الهدف الأسمى من رحلتهم هو المشاعر الرقيقة، مشاعر الأميرة، مشاعر الملك. وتقول: «انتُقينا لنكون ضمن الحاشية المرافقة؛ لأننا نساء رقيقات، حساسات، لطيفات. أنا مستعدة لأنْ أعاني. لا أنام الليالي؛ حتى إنني مستعدة للموت؛ كي أساعد الأميرة. لكن ما الداعي إلى تحمل شيء زائد لا يلزم أحدًا، عذابات مهينة بسبب جملٍ فقد حياءه؟».
ينوّه الوزير الإداري بأن العالَم كله مركب؛ إذ لا داعي إلى الشعور بالخجل من أي شيء. يقول: «إنه شاهَدَ فراشة تطير. رأسها صغير، أحمق. تُحرِّك أجنحتها بطريقة حمقاء. ويقول: إن المنظر مؤثِّر لدرجة أنه سُرق من الملك مئتا قطعة ذهبية. يحاول أن يسوِّغ الأمر لنفسه بقوله: ما الداعي إلى الخجل إن كان العالَمُ كله ليس مخلوقًا على ذوقي؛ شجرة البتولا بليدة، شجرة الدلب حمارة. النهر غبيّ. الغيوم بلهاء. الناس نصابون، حتى الأطفالُ الرضع يحلمون بشيء واحد فقط، الأكل والنوم».
يختار الكاتب تاليًا توقيت مساء متأخر في حانة صغيرة، حيث يبدأ صاحب الحانة في عرض أفكاره، يتحدّث عن هواجسه وأحلامه بحبيبة افتراضية، يصف زبائنه؛ يقول: إنه لا أحد يعلم إلى أين، ولا من أين، وكلهم سيقرعون الجرس، يدقّون الباب، يدخلون ليستريحوا، ليتكلموا، ليضحكوا، ليشتكوا. وكل مرة يأمل كالأحمق أنها بمعجزة ما ستدخل إلى هناك حين يصدر أمر بالبحث عن الحب، يتمرّد الوزير ويتجرَّأ بالقول: أيها الناس، أيها الناس، عودوا إلى رشدكم. ماذا تفعلون؟ لقد تركنا أشغالنا، نسينا مراتبنا، انطلقنا إلى الجبال عبر جسور ملعونة، وطرق جبلية ضيقة. ويتساءل: ما الذي أوصلنا إلى هذا؟ لتجيب سيدة البلاط بأنه الحب. فيعقب الوزير بأنه لا يوجد أيّ حب في العالم؛ ليؤكد صاحب الحانة أنه يوجد. وأنه شخصيًّا يأخذ على عاتقه إثبات أن الحب موجود في العالم.
يحاوره الوزير ويخبره أن الحب غير موجود، وأنه لا يثق بالناس، وأنه يعرفهم جيدًا، وأنه نفسه لم يقع في الحب مرة واحدة؛ لذلك ليس هناك حبّ، ومن ثَمَّ يرسلونه إلى موت حتمي بسبب تُرَّهَة، خرافة، مكان فارغ. فيجيبه صاحب الحانة: ماذا لو حدثت معجزة؟
يتدخّل سيّد البيت ويؤكِّد أن المعجزات تخضع لذات القوانين التي تخضع لها جميع الظواهر الطبيعية الأخرى. وأنه لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تساعد الطفلين المسكينين، ويؤكّد وجوب الإقرار بالواقع، وأنّه لا بدّ من قَبول الحياة كما هي عليه. يذكر أن الأمطار هي الأمطار، لكن المعجزات تحدث التحوّلات الغريبة والأحلام السلوانية. يخاطب قُرَّاءه ومشاهديه الافتراضيين: «ناموا، ناموا يا أصدقائي. ناموا. لينم الجميع، بينما يودع العُشَّاق بعضهم بعضًا».
يظهر مسعى شفارتس في مسرحيته في إبراز قوة الحب الخارقة التي تعيد إلى الإنسانِ إنسانيَّتَه، وتوقف تحوُّله إلى وحش ضارٍ يفتك بالبشر الآخرين الذين يشاركونه الحياة، لا أن يسعى لقتالهم والقضاء عليهم. ويبرز كيف أن الحبّ وَحْدَه يمكن أن ينقذ الإنسان والإنسانية معًا من العتمة والهلاك والفساد والجنون، ولو كان السبيل إليه عبر خرافة.
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق