كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سؤال الحرية بين ليبرالية عبدالله العروي وتصوف طه عبدالرحمن
يندرج تعامل المفكرين المسلمين المعاصرين مع مفهوم الحرية، ضمن تعامل أشمل مع لائحة من المفاهيم التي أفرزتها «صدمة الحداثة» الأولى، مع غزو نابليون لمصر عام (1798م)، وما قد نصطلح عليه بـ«صدمة الحداثة الثانية»، مع سقوط الخلافة العثمانية عام (1924م)، ونجد ضمن هذه المفاهيم: التحديث، الحداثة، النهضة، الإصلاح، ولو أن مفهوم الحرية، بتعبير المؤرخ والمفكر عبدالله العروي، جاء لصيقًا بثلاثة مفاهيم أساسية: «الاستقلال والديمقراطية والتنمية».
وتتنوع مقاربات هؤلاء المفكرين لمفهوم الحرية، بحسب مرجعيتهم الأيديولوجية من جهة، وطبيعة المنهجية المعتمدة من جهة ثانية، ولو أنه في مجالنا الثقافي، نلاحظ أنه غالبًا ما ينتصر مقتضى الانتماء الأيديولوجي على مقتضى المنهجية العلمية.
تتوقف هذه المقالة عند تعامل بعض الأسماء الفكرية المغربية بالتحديد مع معضلة الحرية، والحديث عن اسمين بالضبط: عبدالله العروي وطه عبدالرحمن، حيث نقارب تناول الأول المفهومَ من منظور المرجعية الليبرالية، وتناول الثاني المفهومَ من منظور المرجعية الصوفية. تبقى الإشارة الضرورية، بخصوص تعامل الأقلام العربية [المغربية نموذجًا] مع مفهوم الحرية، إلى أن السبق الزمنيَّ في هذا السياق، يبقى للراحل محمد عزيز الحبابي، من خلال كتبه المرجعية في هذا الصدد، ونخص بالذكر أعماله: «من الحريات إلى التحرر» (1956م)، و«الشخصانية الإسلامية» (1964م)، ومعلوم أن الحبابي اشتغل في كتابه «من الحريات إلى التحرر»، على أعمال واجتهادات هنري برغسون، ومنها أعماله المرتبطة بمفهوم الحرية، ونخص بالذكر مضامين القسم الثاني من الكتاب، وعنوانه: «البحث في الحريات البرغسونية».
الحرية العربية من منظور ليبرالي
سوف نتوقف بداية عند بعض مضامين اشتغال العروي على هذا المفهوم المؤرق، قبل العروج على بعض مضامين اشتغال طه عبدالرحمن؛ وذلك لاعتبار بَدَهيّ، مفاده أن العروي كان سباقًا للاشتغال على الموضوع، كما جاء في كتابه المرجعي «مفهوم الحرية» (صدر في غضون 1981م)، مقارنة باشتغال طه عبدالرحمن على المفهوم، وجاء في كتابه «سؤال العمل» (الصادر في غضون 2012م)، ولو أننا سنتوقف مَلِيًّا أكثر مع اشتغال طه عبدالرحمن؛ لأنه ينتصر للمرجعية الإسلامية بشكل عام، وبخاصة أن أسهم هذه المرجعية ما زالت قائمة وحاضرة في الساحة، بصرف النظر عن تجلياتها التطبيقية؛ لأننا نتحدث هنا عن الشق النظري، مع تجديد التأكيد أنها مرجعية صوفية أساسًا عند المعني.
انطلاقًا من مرجعية ليبرالية إذن، وعبر توظيف منهجي صارم للمنهج التاريخي قصد رصد تفاعل العقل الجمعي العربي الإسلامي مع مفهوم الحرية، واعتمادًا أيضًا على خبرته التاريخية، يفتتح العروي اشتغاله النقدي على المفهوم بطرح لائحة أسئلة، نذكر منها الأسئلة التالية:
– «هل مفهوم الحرية في اللسان العربي الحديث لا تعدو أن تكون ترجمة اصطلاحية لكلمة أوربية تستعير منها كل معانيها العصرية بدون أدنى ارتباط بجذورها العربية؟
– هل مفهوم الحرية مأخوذ من الثقافة الغربية، حيث لا وجود له في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية؟
– هل ممارسة الحرية منعدمة في المجتمع الإسلامي التقليدي، حيث لم نجد مفهومًا في الثقافة ولا الكلمة بمعناها العصري المحدد في القاموس؟
لا يتردد العروي في الاشتباك النظري والمفاهيمي مع مجموعة من الأدبيات الاستشراقية التي اشتغلت على المفهوم، سواء تعلق الأمر بأدبيات منصفة للتراث الإسلامي أو غير منصفة، مُورِدًا مجموعة من الإجابات والمفاتيح النظرية؛ منها الحق في الإجابة عن تلك الأسئلة وفق ثقافتنا اللغوية مستعملين مادة حرر، انطلاقًا من أربعة معانٍ مرجعية:
– الأول: المعنى الخلقي، هو الذي كان معروفًا في الجاهلية وحافظ عليه الأدب، نقرأ في اللسان: الحرة تعني الكريمة، ويقال: ما هذا منك بحر أي بحسن.
– الثاني: معنى قانوني، وهو المستعمل في القرآن، مثلًا ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ (سورة النساء: 92)، أو: ﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ (آل عمران: 35) وفي كُتب الفقه مثلًا: ولا يُقتَلُ حُرٌّ بعبدٍ، ويُقتَلُ به العبدُ. (كما جاء في رسالة القيرواني).
– الثالث: معنى اجتماعي، وهو استعمال بعض متأخري المؤرخين: الحُرّ هو المعفيُّ من الضريبة.
– الرابع: معنى صوفي، نقرأ في تعريفات الجرجاني: «الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار وهي على مراتب»، وسنرى لاحقًا أن هذا المعنى أو الخيار، هو الذي اشتغل عليه أكثر طه عبدالرحمن، بمقتضى نهله من مرجعية صوفية.
كما يُقدم عبدالله العروي في كتابه السالف الذكر، مجموعة من المؤشرات التي تسلط الضوء على ممارستنا للحرية، ملاحظًا في هذا السياق أنه «في كل الأحوال، هناك ترابط بين الحرية والعقل والتكليف والمروءة»، وأن «تجربة المجتمع الإسلامي في مجال حرية الفرد أوسع بكثير مما يشير إليه نظام الدولة الإسلامي»، بدليل اتساع مجال الحرية في «الدولة السلطانية التي كانت تتسم بضعف شمولية جهازها البيروقراطي؛ إذ تمارس الحرية، بوصفها حلمًا يصطدم بالدولة التي كانت تعمل على الحد من الحرية، لكن بعد التحولات التي طرأت على الدولة مع مجيء العثمانيين، أصبحت الحرية شعارًا يرفع في وجه الدولة».
انطلاقًا من المقدمات السالفة الذكر، اشتغل العروي على محددات الحرية في كتابه هذا انطلاقًا من أربعة مستويات:
– انتشار الدعوة إلى الحرية على مستوى العراك السياسي اليومي، وتكتسي تلك الدعوة أشكالًا متنوعة حيث يناسب كل شكل فئة معينة.
– تركيز البحث الفلسفي على مفارقات الحرية عند التطبيق وضرورة إناطة الحرية البشرية بِحُرِّية مطلقة، ويتزعم هذا البحث حاليًّا أعداء الحرية الليبرالية والمتبرمون من مغزى حرية الفرد.
– إهمال ازدهار الشخصية بعرقلة انتشار نتائج العلوم النفسانية السلوكية.
– تداخل القيم الضرورية لنشاط المجتمع العربي المعاصر وتطوره: التنمية، الأصالة، مع قيم الحرية.
كما يوجه العروي الدعوة إلى تأمل الخريطة الفكرية للعلوم الاجتماعية في المجتمع العربي في العقود الأخيرة، وخصوصًا في حقول الاقتصاد والسياسة، لعلها تساعدنا على كشف ورصد مستوى التحرر الذي أحرزه الفرد العربي المعاصر، معتبرًا في هذا السياق: «قد يقال لماذا تجمع مؤشر واحد كل العلوم، بما فيها الطبيعية والتطبيقية كالفيزياء والطب، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية كالنفسانيات والسياسيات. الواقع أن الحكام عندنا يميزون بوضوح بين هذه العلوم، فهم أقل اعتراضًا، فوجب أن نأخذ من علم الاقتصاد وعلم السياسة مؤشرين مستقلين».
الحرية الإسلامية من منظور صوفي
نأتي لاشتغال طه عبدالرحمن على المفهوم ذاته، حيث سبق له أن ارتحل مع المفهوم في كتابه «العمل الديني وتجديد العقل»، من دون أن يفصل كثيرًا في الأمر، بحكم أن العمل كان مُخصّصًا للتعريف بتقويم بعض الاعوجاجات التي طالت العمل الديني مُفرقًا بين نوعين من الحرية: حرية متمثلة في الانعتاق من رِقّ «التسلطية»، وحرية متمثلة في الانعتاق من رِقّ «الشيئية» ورِقّ «العملية»، حيث يُسمي الأولى «الحرية المكانية» والثانية «الحرية الكونية»؛ قبل أن يتطرق بالتفصيل مُجددًا للمفهوم في الفصل الرابع من كتابه الذي يحمل عنوان: «سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعِلم»، وجاء هذا الفصل تحت عنوان: «العمل الديني وأخلاق الحرية».
يشتغل طه على تقييم وتقويم التصورات العامة الحديثة للحرية، حيث ارتأى الاشتغال على أهم التطبيقات المعاصرة للمفهوم، كما هي سائدة في المجال الغربي تحديدًا، وهي التصور الليبرالي والجمهوري والديمقراطي والاشتراكي.
افتتح طه عبدالرحمن مبحثه بالخوض النقدي في مفهوم الحرية كما سَطرته أبرز الأيديولوجيات الوضعية الكبرى، وجاء تعريفه لها في كل تصور من هذه التصورات، فتعريفه لها في الليبرالية هو: ألا يتدخل أحد في فعل ما تريد حيث سكت القانون، وفي الجمهورية (ألا يتسلط عليك أحد ولو جاز له أن يتدخل في فعل ما تريد، حسب رموز تيار «الجمهوريون الجدد»)، وفي الديمقراطية (أن تشارك في تدبير الشأن العام)، وفي الاشتراكية الماركسية اللينينية الإستالينية (أن تحصل القدرة على المشاركة في تدبير الشأن العام)، مبرزًا أن تعريف الحريات السالف الذكر جاء على نوعين: تعريف بالسلب أخذ به التيار الليبرالي (عدم التدخل) والتيار الجمهوري (عدم التسلط)، وتعريف بالإيجاب أخذ به التيار الديمقراطي (وجود المشاركة السياسية) والتيار الاشتراكي (وجود القدرة على المشاركة السياسية).
وبعد التفصيل أكثر في أهم معالم هذه الحريات كما عرضتها هذه المرجعيات، انخرط طه عبدالرحمن في تقويم هذه المفاهيم من منظور تجربة العمل الديني، في نسخته الصوفية؛ لأن طه، للتذكير، قادم من طريقة صوفية مغربية، وهي الطريقة القادرية البودشيشية، وقد أثمرت تجربته في هذا المسار الصوفي، التأسيس لما اصطلح عليه حرية خاصة، بناء على ما وصفه بقوانين العمل الإنساني، من منطلق أن التصورات السالفة الذكر تجاهلت هذه القوانين، فدخل عليها خلل كبير، وجاءت هذه القوانين على النحو الآتي:
أـ قانون التذكر، ومقتضاه أن «من تذكّر الله، تذكره الله، ومن نسِي الله، نسيَه، وأنساه نفسه»، مُبرِزًا أن طلب الحرية بغير طلب الله يؤدي إلى نقيضها ليغدو عدم التدخل تدخلًا، وعدم التسلط طغيانًا، والمشاركة عزوفًا والقدرة على المشاركة صارت عجزًا عن المشاركة.
ب. قانون التأنيس، ومقتضاه أن «الفرد لا يكون له من الإنسانية إلا بقدر ما يتصف به من الأخلاق المستمدة من الفطرة التي خُلِق عليها»، وتتسم هذه الأخيرة بثلاث خواص؛ أولها أن كل الأديان السماوية أتت على ذكرها صراحة أو ضمنًا، وثانيها أن الحق فُطِرَ الناس عليه، وثالثها أنها قيم كلية تشمل الإنسانية كافة.
ج. قانون التناهي، ومقتضاه أن قدرة الإنسان (وليس الإرادة) تكون دائمًا في حالة تعلق بالقدرة الإلهية.
أما التعريف البديل الذي وضعه طه للحرية، فيُصبح كالتالي: «الحرية هي أن تتعبّد للخالق باختيارك، وألَّا يستعبدك الخَلق في ظاهرك أو باطنك» مضيفًا أن التعبد لله يقوم على نوعين: التعبد الاضطراري، ومفاده أن كل المخلوقات تعبد الله بموجب قوانين وأسباب تخضع بها لسلطان الله القاهر سواءٌ وَعَتْ ذلك أم لم تَعِ، وسواء أسلّمت بذلك أم لم تسلِّم؛ وهناك تعبّد اختياري (ولا يقصد به التعبد بواسطة النوافل)، وإنما هناك من الخلق من كرمه الله بأن خَيَّره في طاعته، ابتلاءً له، فإن شاء امتثل وإن شاء امتنع، فضلًا عن كونه يتعبد له اضطرارًا.
كما يُفرّق طه عبدالرحمن، بين الاستعباد الباطن والاستعباد الظاهر، عكس التصورات السياسية للحرية التي لم تتطرق سوى للاستعباد الظاهر، ويقف هنا على حقيقتين هما:
أ. أن الاستعباد الباطن هو مبدأ الاستعباد الظاهر، فيتعين مواجهته، بمعنى أنه لكي نتحرر ظاهريًّا، ينبغي أولًا أن نتحرر باطنيًّا، ويلزم من هذا المعطى حقيقتان أساسيتان: أولاهما أن الإنسان بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يتعبد للحق، فيطمع في التغلب على الاستعباد في نفسه أو في غيره، وإما أن يستعبده الخلق؛ فلا يخرج من استعباد إلا لكي يدخل في آخر، إن لم يكن أسوأ منه، ولما خلت الحريات السالفة من ركن التعبد وجبَ أن تكون حريات ناقصة لأن الاستعباد يلازمها، خفيًّا أو علنيًّا.
ب. أما الحقيقة الثانية، فمفادها أن الذي يستعبد غيره، ينقلب فعله، فيصبح بدوره مُستعبدًا، بموجب قانون تداعي الاستعباد، ومقتضاه، أن معاملة السيد لعبده قد تنتشر في مجتمعه، أو على الأقل في محيطه، فتنعكس عليه هو نفسه هذه المعاملة، فيجد نفسه، هو الآخر، عبدًا لمن له إليه حاجة، حتى لو كان دونه منزلة، فضلًا عمن يعلوه رتبة؛ وعلى قدر إذلاله لعبده، يكون إذلال سيده له؛ فيكون الناس في هذا المحيط أسيادًا عبيدًا أو عبيدًا أسيادًا، رؤساء كانوا أو مرؤوسين.
تقويم «المعقولية الصوفية» للحريات الغربية
في معرض وقوف طه عبدالرحمن على خصوصيات العمل الديني الصوفي، يُدقّق في كون هذا الأخير له من المعقولية ما ليس لغيره من الأعمال، باعتبار أن «المعقولية التزكوية» [أو الصوفية] تُعدُّ، من وجهة نظره، أسمى معقولية بالنظر إلى استهدافها تحقيق حرية الإنسان على الوجه الأكمل وبأزكى الوسائل عبر التعلق بالإرادة الإلهية، التي ستكون وسيلة التحرير الأكمل للإنسان، مُحددًا خصائص العمل التزكوي في النقاط التالية:
– العمل التزكوي عمل نموذجي لا يُضاهَى في استيفاء شرائط العمل، حتى إنه يستحق أن يُشكِّل نموذجًا لأي عمل آخر، لأن المتزكي يأتي به، أصلًا، بِنِيَّة القُرْبَة إلى الله، متحرِّيًا فيه من مقتضيات الشرع كلَّ ما يُحقق له هذا التقرب، وحينئذ، لا عجب أن تكون فاعلية العمل التزكوي أعظم من فاعلية غيره.
– العمل التزكوي عمل تحويلي؛ لأنه يدور في عمق الإنسان، فعقل التزكوي ليس كعقل غيره؛ إذ يتجاوز فهم الأشياء بأسبابها الموضوعية، إلى أن يفهم عن خالق هذه الأشياء ماهيتها وأسرارها.
– العمل التزكوي عمل تكاملي، لأنه لا يقيم حدودًا بين دوائر مختلفة؛ لأن الحياة عنده عالم واحد، كما أن سر الوجود يشملها جميعًا، كما أنه يعامل الأشياء الزمنية والتاريخية على أنها موصولة على الدوام بأفقِ القدسي وأفقِ الخلد، كأنما التزكوي يرتحل بقلبه إليها لكي يعود إلى هذا العالم.
– العمل التزكوي عمل استمراري، لأنه ليس محصورًا في زمن معين، فليست له نهاية يقف عندها، إلى أن يحل أجل التزكوي؛ ولذلك وصف الواصفون عمله بـ«السير إلى الله»، فهو السائر الذي، وإن عَرَفَ إلى أين يسير، فإنه لا يعرِف أين مستقرّه، ولا متى يَستقرّ فيه.
– العمل التزكوي عمل تصاعدي، بحيث يبقى في تبدّل متزايد، مع وجود ما لا يقل عن ثلاث مزايا لهذا النوع من التبدّل: أولها أنه ليس في الأعمال كالعمل التزكوي احتياجًا إلى الخبرة التربوية والنفسية؛ وثانيها أن العمل التزكوي هو أصلًا عمل مجاهدة؛ وثالثها أن المتزكي كلما ارتقى في مراتب التعبد، أصبح التجدد قانون تعبُّده.
– العمل التزكوي ليس من جنس الأعمال الأخرى، وإنما يخترق كل هذه الأعمال من داخلها، بوصفه عامل إحياء روحي لها.
بعد أن فرغ طه عبدالرحمن من التدقيق في التعريف الذي يُروِّجه لمفهوم الحرية، والمؤسَّس على أرضية مشروعه الإصلاحي القائم على تبني الخيار الصوفي، يُعرج على ذكر وتبيان أدوار هذا الخيار في التصدي للآثار الاستعبادية لتطبيق الحريات الحديثة، فيخلصُ إلى النتائج التالية، وهي أن الحرية الليبرالية أفرزت ما يصطلح عليه بالعبودية لشهوة السوق؛ والحرية الجمهورية أفرزت العبودية لِمنَّة القانون؛ والحرية الديمقراطية أفرزت العبودية لهوى الرأي العام؛ وأخيرًا، أفرزت الحرية الاشتراكية العبودية لتربّب السلطة.
وحاصل القول في هذه المقالة، أنه إذا كان عبدالله العروي، قد تعامل مع مفهوم الحرية، من خلال الترحال فقط مع المرجعية الليبرالية للمفهوم، كما جاء ذلك مفصلًا في كتابه المرجعي «مفهوم الحرية»، معتبرًا أنه «كلما تكلمنا عن الحرية، اضطررنا إلى اتخاذ موقف من المنظومة الفكرية التي تحمل في عنوانها حرية، أي الليبرالية»، فإن تقييم طه عبدالرحمن لتطبيقات المفهوم أفضى إلى نقد أهم التصورات العامة الحديثة للحرية، كما هي سائدة في المجال الثقافي الغربي: التصور الليبرالي، الجمهوري، الديمقراطي، الاشتراكي، مختلفًا بذلك مع اجتهاد العروي في منهجية التعامل مع المفهوم، حيث ارتأى صاحب «مفهوم الحرية» البحث في «مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء… هذه هي الطريق التي سنسلكها ونحن نعالج مسألة الحرية في المجتمع العربي المعاصر».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق